افتراض الوهم

-        في مطار صبيحة

  كانت الساعة 11,10 ليلاً بتوقيت اسطنبول المحلي ،جاءت تجر حقيبتين

  كبيرتين واحدة بيدها اليمنى والثانية باليسرى وثالثة صغيرة يدوية معلقة

 على كتفها الأيسر، ورابعة لجهاز (اللابتوب)معلق على كتفها الأيمن ،

اتخذت دورها في صف مزدحم لمسافرين ، كانت قد وصلت من باريس

 قبل 30 دقيقة ، وعليها أن تكمل رحلتها إلى بيروت ،في الموعد المحدد

 الساعة 12 تماماً ، لايبدو عليها أنها قلقة من التأخير ، حيث لاحظت أن

دورها يتقدم بسرعة لابأس به ، ولكنها كانت تلتفت يمنة ويسرى وتكرر

ذات الشىء أمامها وخلفها ، وفي نفسها أمنية أن تلقى من يرافقها بذات

الرحلة ،أي ما كان ليأخذ عنها حقيبة ، ويخفف عنها الوزن الزائد غير

 المسموح به ،إن لم يكن يصحب أمتعة البتة ، وهذا أمر نادر ، ولكن التعلق

 بمن يقبل المجازفة يظل وارداً بين أبناء الشرق المتوسط خاصة .

-        صورة ألوان وملامح

وجدت ضالتها...في الطابور الذي على يمينها ، حقيبة صغيرة الحجم متعلقة

 بيده اليسرى فقط ، وعلى مايبدوهناك حقيبة لابتوب في جهته اليمنى :

- مساء الخير أستاذ ..

- مرحباً ...!

- حضرتك مسافر لبيروت ..؟

تقابل وجهه بوجهها ،عندما استجاب لتحيتها ، وكأن نداء حاداً استلب غفلته

وانتزعه من عالم كان غارقاً فيه ، إلى حاضر ردد صدى السؤال في أذنيه ،

وكأنه رنين مغناطيس لم يتوقف إلاّ ، وقد استقرت العيون مقابل بعضها

محدقة ببعضها ، في تيه غريب لاتعرف أبعاده ولا تضاريسة ..!

عيونه غُلّفت بجفون ستينية الطيات أوهي متخطيتها لما بعد منتصفها، متظللة

بشعيرات حواجب مودعة عمرها الرمادي ...

عيونها متخفية بجفون وأهداب ، لازالت رافضة الإعتراف بعمرنسوي قد خاض

مضمار الفتوة منذ زمن ، وهاهو الصوت يعترف بصراحة ، أنه في أول جولة

 من الحلبة الخمسينية ....

تذكرت للحظة أنها تكلمت بالعربية ، ولمّا أن انتهت لتعيد سؤالها بالفرنسية

حتى جاءها الجواب بالعربية كذلك ....!

-         آسف أستاذي وأعتذر عن إزعاجك ..إن كان لامانع لديك أخذ حقيبة

مني وضمها مع أمتعتك لتمريرها فقط من الميزان ، حيث لا أرى معك أمتعة ...؟

-         لاعليك...حباً وكرامة..إلى أين وجهتك ؟

-         رحلة بيروت الآن ...

-         آسف جداً سيدتي ...رحلتي داخلية إلى أنقرة ..!

-        بضع نقاط فوق حرف واحد ..!

قبل النداء الأخيركانت قد تنفست الصعداء ، بعدما أخذت مقعدها الذي اختارته

إلى جانب النافذة ، وقبل أن تغلق جهاز اللابتوب تأكدت من المكالمات الواردة ،

 وآخررسائل الواتساب في مبايلها ، ولم تجد أي رسالة نصية أو صوتية في إيميلها

الشخصي..! لكنها كتبت بضع كلمات وتأكدت من إرسالها ، ثم أطفأت الجهازين

قبل أن تبدأ إجراءات إقلاع الطائرة ...

تزاحمت الأسئلة والإستفهامات ، وأخذت تقلب وتناوب الأجوبة الإفتراضية:

-لم لم يرسل شيئاً ؟ أين الرسالة الصوتية ؟ أين الرسالة المكتوبة البديلة ؟

وقد حددت له الوقت بدقة (عشرون دقيقة)مابين ال10.40 وال11 تماما

لعل شيئاً ما أشغله أو أنساه الموعد ؟ !

ثم أنني نسيت أن أقدم اعتذاري لذاك الرجل الذي طلبت منه حمل الحقيبة

الزائدة ، بعدما ذكرني موظف تثبيت الحجز بأن الوزن الزائد مدفوع عنه

 مسبقاً في مطار شارل ديغول.. !

حقيقة لِم لم أراه إلى جانبي في الطابور الموازي ...؟ كيف اختلفنا ..؟

ضربت بجهاز المبايل على جبينها وقالت بشكل صرخة دفينة..آخ..!

إنها ذات الملامح ، وعين الشكل تماماً ..عجباً..مني لم أتذكره ولم يخطر

 ببالي ..ربما هو ذاته..؟ ولم لا...فقد يكون هو بعينه..!

حاولت إعادة تشغيل المبايل ..لكنه خذلها ..فلا تعمل الشبكة العنكبوتية

في الطائرة..فهو خارج تغطيتها...حاولت جاهدة مطابقة ملامح الصورة

 بالمواقع الإلكترونية التي ترافق نشر إنتاجه الأدبي ، مع الملامح التي

رسمها الرجل في عينيها ، قبل قليل في صالة المطار..لكن الإنفعال غلب

اليقين....وظل الإفتراض يهيم في الفضاء الواسع..وكم حاولت أن ترشي

ذاكرتها...أن ما ارتسم  بعينيها....وهمٌ..ليس إلاّ...!!!

-       هو.....

لم ينسى ، ولم يشغله عن الموعد والإتفاق معها ، ما يمنعه من إنفاذ ما

اتفق معها أبداً ..، سوى هذه الرحلة المفاجئة له إلى أنقرة ، وعدم تمكنه

من الحصول على الشبكة العنكبوتية ، في ذات الوقت ، حيث تطلبت

إجراءات ترتيب رحلته من مرسين إلى أضنة ومنها إلى استنبول

كل العناء والإنشغال ، وهاهو يلحق رحلته المقررة بدقائقها الأخيرة

ويستقر على مقعده المحجوز سلفاً..!

استقر في ذهنه مبرر واحد ، هومنتدى التركي العربي عن القصة القصيرة

الذي دعي إليه ، كان شأناً خاصاً ، ولم يكن ليشغل به الآ خرين من حوله ،

صور شتّى تداعت على مخيلته ، حاول تجميع بعضها في لحظته التى

جلس فيها بالطائرة ..! وبعضها الآخر ظل يهيم فيما تركه هناك في سوريا

 قبل لجوئه إلى تركيا ، ألواناً من القصص والحكايا والمشاهد ...!

الآن تحولت كل الأحداث إلى تداعيات ، وانتفت منها صبغة الوصف

والتسجيل في سردها، هذا ما سيثيره بقوة في مداخلته في المنتدى ...! ولكن

( قارءته) المفترضة المختبئة دائماً وراء كلماتها وأسئلتها ،  والتي أفرد لها

مساحة من الوقت  أكثرمن الآخرين ، ولم يتضح له سبب ذلك ، طلبت منه

قراءة ماكتبته من شعرنثري بصوته  العجوزي الأجش ، ليرسله مسجلاً

 بالإيميل ، خلط في ذهنه لون مسحة التداعيات تلك ، مع لون مسحة الحزن

والأسى ، فشك في قرارة حكمه متسا ئلاً :

-         هل تكون مسحة قصص القادم أشد حزناً..؟ أم سيداخلها الأمل

والتفاؤل..؟

ذلك افتراض سابق لأي قرارُ منه..سيما وأن(التهجير واللجوء) ترتب منهما

 خيالاً موحشاً يجعل كل افتراضاً وهماً تفصله مسافات وهمية أيضاًعن الواقع..

 وأي واقع...!!

-       دائرة زمنية ..

وجد في هذه المساحة الزائدة ، مندوحة رهيفة لنفسه، فمنذ أن دخلت هي

دائرته الزمنية لم يحاول أن يضعها تحت أي مسمى ، ولكنه في هذه الساعة

 وعلى متن الطائرة ، أخذ يتدولها مرة بأبعادها النفسية ، ومرة يبعدها عن حلبة

عاطفته ، بل ولربما ما حدث معه اليوم وما انتهى به الأمر، كان نموذجاً لتعمد

 تجاهل طلبها ، بعذر لا إرادة له به ، وربما هو تأجيل محبب وفي نيته تغليفه

بمسحة عاطفية أكثرجيشاناً ..! .استغرب من نفسه بعدم التحقق يوماً من الأيام ،

 برؤية ملامح وجهها الحقيقي ،وهي كذلك لم تشأ أن تضع أو ترسل له صورتها ..!

تذكر تلك الفترة التي قدم لها قصتها ، بعد انتهاء الحرب الأهلية في وطنها ،

ثم انقطعت وغابت لزمن، ثم وصلت منها رسالة تفيد بهجرتها إلى فرنسا ، ثم

عادت وبعد سنين ، ومنذ أكثر من سنة ، برسالة تغاير كل رسائلها السابقة ،

حينما دارت الدائرة في وطنه بحرب أتت على كل شيء،وقد غدا عجوزاً

مهجراً لاجئاً ، ليس بمقدوره فعل أي شيء ، ولربما عدم تلبية طلبها اليوم ،

 يرجع إلى هذا البعد النفسي أكثر من غيره ..! 

-       هي .....

لم تكد تتأكد من وضع قدميها ،على أرض المطار في بيروت ،حتى سارعت

 بالتقاط صورة لنفسها بهيئتها الحاضرة ، وعبر مبايلها الذكي المغذى دائماً

بالشبكة العنكبوتية ، أرسلتها عبر إيميلهاعلى إيمله مرفقة بالتعليق التالي :

مطار صبيحة..الساعة ال11,20..الحقيبة ذات الوزن الزائد..

الراشدية......... رقم مبايل (!!!!!!!!! )....

وسوم: العدد 714