الإنسان حيث يضع نفسه

نصحته أكثر من مرة مازحا حينا وجادا حينا آخر ، فما استجاب لنصحي . قلت له إن الإنسان حيث يضع نفسه . إن شاء ، بصلابة الإرادة ، مشى بلا عكاز حتى ولو كان في إحدى قدميه أو في كلتيهما ما يضطره إلى هذا ، وإن شاء مشى بعكاز لعلة صغيرة في ركبة رجله اليسرى مثله . ولطول استعماله العكاز أدمنه ، وظهر في سيره أشبه بالأعرج . مرة قلت له إن ركبتي اليسرى أوجعتني أكثر من شهر بعد أن نزلت قدمي درجتين أدنى من الدرجة التي كان يجب أن أنزلها عليها لانطفاء الكهرباء بغته عند الخروج من المسجد إثر صلاة العشاء . وتحديا للوجع أبيت استعمال عكاز  أنا الذي أكبره بست سنوات ، وزال الوجع دون أن أنتبه إليه ؛ لأنني أصررت على تجاهله ، فضحك وقال : أنت تخاف أن تقول أم ياسر إنك كبرت . أنا لا أخاف من أم عماد .

ومرة دعوته لجولة مشي سريع بعد صلاة العشاء في ليلة صيفية رائقة مقمرة ، فاستهجن دعوتي ، وسأل بين الجد والمزح : أنت مجنون ؟! واحد يمشي على عكاز ، يمكن أن يسرع ؟! اسرع وحدك ! أنت شباب دائم .

لم يكن في الجزء الأخير من كلامة سخرية ؛ فهو طيب ، وتبسمه أكثر من تجهمه ، ويحب الثناء على ما يستحسنه من صفات الناس .

                                               ***

لمحت شبحه في نور بقية القمر العالق في سماء الغرب . ألححت على خطوي للحاق به مستفيدا من الحذاء الرياضي الذي أذهب به  إلى صلاة الفجر لأعود جريا إثرها . وضحت في سمعي دقات عكازه فوق الأسفلت . وهوت عيني في الطريق الترابي الذي يتفرع جنوبا من الأسفلت على ما يبدو أنه أربعة كلاب . أيقنت أنها آتية من جوار مزرعة الدجاج . اندفع نحوه أحدها نابحا هارا ، وتبعته الثلاثة الأخرى ، فصرخ مرتاعا : بيت ! بيت !

راح يهوش عليها بعكازه متطاير الصرخات . اندفعت إليه ، وركلت أقربها منه في بطنه ، فانقذف أمتارا قليلة يعوي ، وتقهقرت الثلاثة الأخرى مسافة صغيرة . خطفت العكاز منه ، وضربت رأس أحدها ضربة جعلته يجري مرتعبا منقذفا في الطريق الذي قدم منه مع رفاقه . وفاجأني الذي ركلته ينقض مهاجما أبا عماد حتى قارب أن يعضه في ساقه اليمنى . كان أسود مبتور الذيل  ، مصلوم الأذنين . وتصديت له ، وضربته بالعكاز على ظهره فعوى ، وعدا وراء الثلاثة . ودهمه شاب  خارج  إلى المسجد من بين شجر الزيتون ، حيث بيته ، في الجانب الشرقي من الطريق  الترابي ، فارتد نحونا عاويا هارا  في هلع ، فلاقيته مسرعا ، فقذف نفسه في الجانب الغربي من الطريق ، وسمعت صوت سقطته في بركة الماء الصغيرة العميقة التي تكاثف فيها وحولها البوص بعد أن توقف صاحبها عن تزويدها بالماء  الذي  يسحبه بالموتور لسقي المزرعة القريبة منها ، فصارت تمتلىء في الشتاء من ماء المطر. ولمعت في ذهني فكرة ، فأتبعت الكلب العكاز ، وسمعت صوت التطامه بسيقان البوص . وصاح أبو عماد : رميت عكازي ؟! كيف أمشي ؟!

اقتربت منه ، وقلت وقد اكتنفنا  بعض الذاهبين إلى المسجد : لا عكاز بعد اليوم ! عمرك خمس وأربعون سنة ، وتتعكز ؟!  

والمفاجىء أنه بدأ يستقيم في مشيته متدرجا حتى صارت عادية ، وفي يوم سألته : تذكر أنني قلت لك إن الإنسان حيث يضع نفسه ؟

فابتسم وقال : والله ما نسيت كلامك يا " بو " ياسر يا بركتنا . أم عماد دعت لك .

وتابع متخليا عن ابتسامته : لكن يا "بو" ياسر، حالة ركبتي كانت صعبة ، صاحب الوجع أدرى بوجعه  .

وعاودته ابتسامته أكثر اتساعا ، وأضاف : لا تطلب مني أن أكون مثلك يا مدرس الرياضة !

فضحكت وقلت : الإنسان حيث يضع نفسه .

وغادرنا المقعد المستطيل للمظلة القائمة على رصيف الجانب الشرقي من شارع صلاح الدين بعدما استشعرنا جنوح ليل العاشرة الخريفي للبرد . بدأنا نركض تلقائيا ، ولم أسرع في ركضي حتى لا أشعره بأنه أقل قدرة مني على الركض ، وحتى لا أحرك أي مصدر مجهول  للوجع في ركبته .   

وسوم: العدد 715