غربة

شادية فتاة عشرينية .. متفوقة في دراستها .. منظمة .. مرتبة في كل أمورها .. ملتزمة بأمور دينها .. تعرف ما لها وما عليها .. جمالها يجذب القلوب والأنظار .. متحدثة لبقة .. مجاملة لمن حولها .. تسعى بكل ما أوتيت من قوة كي ترضي ربها ولا تجرح من حولها .. لكنها تشعر دائماً بغصة في نفسها تخنقها .. فهي غريبة ديار كما يقال .. هي تحمل جنسية بلدها لكنها لا تعيش فيه .. تتنقل من بلد إلى آخر وفقاً للمتطلبات السياسية التي تحكم والدها السوري .. فالسوري المتدين منذ عهد (حافظ أسد) من فئة المغضوب عليهم .. والآن في عهد (بشار) صاروا من الفئة المنكوبة في الأرض ..

كم حلمت بأن تعيش في بلد واحد وأن تبقى في مدرستها مدة طويلة .. دائماً بعد انتهاء السنة الدراسية يُطلب من والدها تغيير مقر سكنه لأنه (ملاحق سياسياً) .. كم تتمنى لو تجمع أكبر قدر من الذكريات مع الصديقات ولكن أنّى لها ذلك ووالدها مطلوب وعليه أن يعيش متستراً وعلى أسرته فعل ذلك أيضاً .. كم غيرت من المدارس والحارات والبيوت مع أهلها حتى إنها نسيت أسماء المدارس التي درست فيها .. ونسيت أسماء المناطق والحارات لكثرة تنقلاتهم ..

مرحها وحبها للعالم جعلها قادرة على التعامل مع جميع فئات المجتمع .. صغيرها وكبيرها .. المحب منهم والحسود .. ما شعرت يوماً أنها تعاني من عقدة الغربة حتى جاء يوم من الأيام وطلب من طالبات الصف التاسع اختيار قدوة للصف تقتدي بها البنات في النظافة والدين والخلق والتفوق العلمي .. بدأت الإجراءات فتم ترشيحها مع أخريين في هذه الحملة الانتخابية .. ولكن حين أقبلت المعلمة وقرأت اسم شادية تغيرت ملامحها وقالت متصنعة اللطف والمودة :

ـ يا صغيراتي أنا أعرف أن شادية فتاة ممتازة لكنها ليست من جنسيتنا وتحمل جنسية بلدها فلا تصلح للترشيح ..

قامت صديقتها تسأل :

ـ ألسنا عرباً ومسلمين ؟ ما يضير جنسيتها .. هي ليست أمريكية ولا صينية .

قالت أخرى :

ـ يا معلمتي أنا أستغرب كلامك هذا .. ألم نغن دائماً : بلاد العرب أوطاني ؟

قالت ثالثة :

ـ إنه تناقض عجيب بل وعجيب جداً .. كلنا نختار شادية ..

أطرقت المعلمة رأسها بحياء ثم قالت :

ـ كلكن على حق .. ولكنها القوانين ..

هنا شعرت شادية أن الرحمن قد أمدها بقوة من عنده فقامت وقالت بإباء :

ـ لا بأس يا زميلاتي الغاليات .. أشكر شعوركن نحوي .. هذا وسام أعلقه في قلبي .. وأنا معكن أنتخب زميلتي (استبرق) فهي تجمع كل الصفات الراقية التي نحب .

ابتسمت المعلمة بود لحظته شادية وشعرت به في عينيها .. داعبت خصلات شعرها الناعم الذي طالما تغزلت بجماله لأن بنات البلد أكثرهن شعورهن خشنة مجعدة .. وقالت بفخر :

ـ أنا أعتز وأفتخر بك يا شادية وأقدر جنسيتك السورية الأبية .. وأقف معكم في معاناتكم المستمرة .. وأستحي حقاً من قوانيننا العنصرية التي تفرق بين الأخ وأخيه ..

منذ ذلك الوقت وكلما تجري الانتخابات كانت شادية تنبه زميلاتها حتى لا يرشحنها ويضيق صدر المعلمات منها .. وحين دخلت الجامعة بمعدل ممتاز وجدت التفرقة في أسعار المواد .. فلأنها سورية وغريبة يدفع والدها أكثر مما يدفعه من هو أقل منها ذكاءً وشطارة وكل ذنبها جنسيتها ..

كانت دائماً تردد بإصرار في نفسها :

ـ صرت يا وطني عقدة في حلوقهم .. ولكنك شمعة في قلبي .. كلما نهروني لأني أحمل هويتك ازددت حباً وهياماً وتعلقاً بك .. كلما حاول البرد أن ييبس شجرة محبتي لك أجد مطرة نيسان تحييها بإذن ربها .. كلما اقتحم السواد قلبي أيقظ ربي في نفسي نوراً لا ينطفئ من نور الإيمان .. حملت حبك يا وطني طوال عمري وسأبقى أحمله حتى ينزل معي في قبري أباهي به وأعتبره عملاً صالحاً ألقى به وجه ربي فحب الوطن من الإيمان .. وأنا رغم جراحاتي أحبك يا وطني ..