حالة متعدية

هو أخذ يكتب  :

كم هي المسافات أراها شاسعة عميقة الهوة ، بين الإقرار بوجود حالة ما  تمرّ

بها نفسي ، وبين التفكير بالإنتقال من محطة  أومفصل من مفاصل أي حالة ،

 إلى طرف مقابل لها في الحافة الأخرى من ذات الحالة ! يثير نوعاً من الجدال

أوالصراع المؤقت في جانب من داخلي ، هو في حقيقته تردد يسبب غالباً إحباطاً

وبالتالي عدم التحرك أو الإنتقال ، وبالتالي يحدث تراكماً ، ولا أدري عما يفعله

هذا التراكم ، أو مايسببه ، هل هو وراء زحمة التفكير ، أم تكرار حالة الصداع ،

 أم تشتيت الذاكرة .....!!

مثل هذه الحالة أو الحالات ، ومما زاد في تراكماتها ، ماتلقيته مؤخراً ، من

 رسائل متلاحقة في الواتساب ، والبريد اللكتروني من( الراشدية )، اختلف

 توجهها تماماً إن لم أقل مضمونها ، عما كان في ذات الرسائل القديمة

المتباعدة  من قبل ....!!

.........

وهي كذلك ....كتبت :

لم أكن أعلم أن السنين تمضي هكذا ..، وكأنها في غفلة مني عبرت أو هي

هربت ، بالرغم من أنني دفعت ثمنها لحظة بلحظة ، ويوم بيوم ..!!

لم أكن أعلم أن ما يزيد عن الخمسة عشرة عاماً كأنني قلبتُ صفحتها  مرة

 واحدة بلمسة خفية من إصبعي ، كما مرت من قبلها ، تلك التي صاغها الكاتب

 ببضع  كلمات ، كنت أحسب  حينما حكيت عنها بالقصة التي صاغها وكتبها

ونشرها يومها ، أن الدنيا ستقوم ولن تقعد ....!

خمسة وثلاثون عاماً حفرت في نفسي هوّات ورسمت مسافات ، ووطدت

 محطات ، لاأحسبها إلاّ دمامل في نفسي ، وندبات في جسدي ، ثم جاءت

بعدها تلك الأعوام الخمسة عشر تركض ركضاً لاهوادة فيه ...! ولأنني انشغلت

عن متابعة كتاباته بسبب ترتيب حياتي بهجرتي الجديدة في فرنسا ، إلاّ أنني

أبقيته في تركيز ذاكرتي ، و جاء لقائي به في مطار صبيحة ، الذي حسمت

فيه أمري ، وشددت طلبي ، ساقول له بإختصار ، هلم لنلمّ شعثنا نحن الإثنان ..!

ولم لا ..فأنا الآن أقف بإرادتي في محطة ، وقد كتبت له بعض التفاصيل ،

وأرسلت له بعض المال ، من أجل أن يهيّء حالته للتحرك باتجاه أي مفصل

 آخر نجتمع فيه ، سيما وقد حلّت عقدة موضوع (جواز السفر) الذي جددت

 صلاحيته ، وهاهو المبلغ الثاني الذي أرسلته له ، وقد وفّر له تكاليف إقامة

شهر مع تذاكر للسفر ...!!

..........

 تابع تسجيل مكنوناته  :

كيف ...؟

 فلم أكن يوماً محترفاً أو هاوياً في حفر أوخلق الهوّات  ..!

الآن أحصيها ماثلة أمام ناظري.. قد تعاتبني نفسي بحق من حقوقها وتسائلني :

أنت تمزج بين الوهم والإفتراض ، ولا تعطي مساحة لواقع موضع قدميك ؟

فأرجع واستعين بابتسامة صفراء لأستخف بأي نوع من أحجام الحقوق ..! ليس

لهروب من موقف ما ، وإنما محاولة العودة لمراقبة ذاك الذي يمثل عن بعد في

الطرف الآخر من الهوة ، وسيصيبني القلق والإضطراب الشديدين ،إذا ما تحول

الإفتراض لواقع أشد مرارة ، من هذا الذي يضغط عليّ كل ساعة وبكل قوة ...!

كنت أحسب أن الهجرة واللجوء ، سيسدلان ستاراً أسوداً على وطن النفس من

أعماقها طوعاً أوكرهاً ، وأن انتزاع وطنها التي نبتت وتجذرت فيه ، سيبدل

كذلك أو يغير طوعاً أو كرها ، مخازن شجونها وجبلتها التي اكتسبتها ..!

هناك هوتان هائلتان ماثلتان أمام مسرح حركة ناظري ، تزدادان حجماً لحظة

بعد لحظة ، ليس لهما أي وشائج بوجود وطن ما ، أو بحدوث هجرة أو بواقع

لجوء ،  الأولى : حالة صداقة افتراضية حدثت في زمن ما ، ثم ترسخت سماتها

في السحاب الفضائي ، تمثلت ملامحها في بعض صحاف النفس ، وتولدت

شجونها في شعاب الذاكرة ، وكأنها كائن حي ، ولد وترعرع في ربوع حي من

 أحياء الوطن الضائع ...!! وأما الثانية : فحالة (الراشدية ) وما استجد من إقدامها

على مسح المسافات بقوة باهرة ، غير عابئة بأي إعتمال أحدثته أو خلقته أي نفس

 في أي وطن وفي أي سحاب ...!!  فهل اعتمدت على صدق شجون نفسها ..؟ أم

على عولمة متعدية لأحزانها ...؟

..........

 هي تتابع بصراحة :

كان يصرُّ أن لا يتحدث في حسابه على الفيسبوك ، إلاّ فيما يستجد من  أحداث

 الساعة التي تعصف بالوطن يومياً ، ويظهر امتعاضه الشديد ، بأي حديث مهما

 كان ، إذا لم يمس حالة من حالات الناس الإنسانية فيه ويظهرله تأييده المطلق ..!

وباعتمادي هذه الثقة وهذا الموقف سأقدم له جرد حسابي ، وبيان إعترافي في اليوم

الذي سألتقي به في باريس، وذلك منذ أن اقتحمت صفحته باسمي المستعار، (مدام

صوفيا) تاجرة الأزياء على الشبكة العنكبوتية ، إلى الساعة التي كنا على موعد

 التقائنا المتناوب من أيام الأسبوع ، وذلك في اليوم الذي سألتقي به ، لأتنازل  له

عن عهدتي الشخصية والإجتماعية ، كزوجة له وهوزوجاً لي ....!!

لن يستطيع ولن يقوى على ردم أي هوّة واجتيازها ، ذلك لأنه لم يعلم ، أن الساعة

التي لا أشاركه فيها على صفحته بشخصية مدام صوفيا، هي الساعة التي يبيح لي

 فيها على الواتس والأميل بشخصي واسمي( الراشدية )، حينها ستضعف دفاعات

ثقته المحصنة ، فاشعر بها تتدفق بلا حدود ، ويفيض بكل ما كان يعانيه يومياً ،

من مشاكل متفاقمة جمّى ، من جراء أجراءات اللجوء ، والإقامة غير المرخصة ،

والسكن ، واحتاجه للمال ، وعدم الترخيص له في العمل .

  لم أكن يوماً لأحدث أي التباس ، أو  أثير الشك عنده ، حتى بالمعلومات أو

 التعبيرفقد كنت حريصة للغاية في الكلام ، بين الشخصيتين ، ولم تتضح لي في

البداية ، دوافعي الحقيقية وراء التلبس بشخصية مدام صوفيا ، إلاّ بعد ما أقدم

على إلغاء اشتراكي ثلاثة مرات ، وذلك بسبب استفزازي المتعمد له ...لكنني

 التاجرة الذكية استطاعت منذ فترة ، أن توجد موضع لإجتزاء شيئاً ما من

خصوصيته العاطفية الشخصية .....!؟

..........

 عسعسات جمر....!

كتب آخر كلمات له ليلة السفر :

هل لي بتربة رطبة ندية تمنحني وطناً ، أمسك بعصاة من شجره المعمّر ،

وأجلس على سفح رابية ، تكرمني بإطلالة على معالمه الممتدة ما استطاعت

عيوني أن تحيط به ...!! فأرسم بأوجاع قلبي المتعثر، خربشات أطفاله ،

 واتكاءات عجائزه ، فتتفتق منها بعثرات بيوت حاراته ،لتتفلت منها ضحكات

ساكنيها ، وهم بغبش الفجر تسري أرواحهم عطشى ليوم جديد ..!!

مالذي حدث لك أيها القلب ، وقد وهن عزمك وتعبت همتك ..؟ أصبحت

دقاتك تضطرب ، نوبة يزداد خفقانك ، وأخرى يهبط والدوّار أخذ يتكرر ، ولم

 يعد هواء الغرفة كافياً ليخفف عنك ضيق النفس وعناء التعرق الشديد ..!

مالذي خيّب ظنك ..؟ ، وها هي تذاكر سفرك تنتظركفيك لتحملها إلى الوطن

الذي سيلملم جراحاتك ويخفف أنينك ..!!

هلمّ وجدّ أيها القلب في رحيلك الثاني بصاحبك العجوز ، ستتلقفك الراشدية هناك ،

في محطة من الجانب الآخر..

ألا تعرفها ..؟ ألم تخاطبك يوماً..؟ ألم تتجاوب معها وقد اقتربت منك وجاورتك

وهي بعيدة عنك..؟

لاعليك أيها القلب..أعلم ترددك ..وأعلم مالذي يقلقك  ويدفعك للتردد ..إنها صوفيا

حيرتك المحرجة في سؤالك : كيف ستغيبها  فجأة ، ومن دون سابق ظرف أو عذر

..كيف ستلغي لقاءها الاسبوعي في الفيسبوك ، وقد علمت من السابق وما آلت إليه..

وما وصلتم إليه..!.حالة محرجة ومتشابكة ، إذا اكتشفت الراشدية أنك كنت تناقضها

عهداً بعدم وجود حساب لك فيه ..! هذا إذا لم ينكشف أمرصوفيا ..! وأما إذا حدث

واعترفت لها ، وأنت التعب المريض ،  عليك أن تتحمله وتفعله غداة لقاءها مباشرة...

وإلاّ فإن رحيلاً  ثالثاً مجلجلاً ، سيكون محطة أخيرة عجفة لنقل رفاتك البالية ،

وإلى قبر لاتعلم أين مكانه لامحالة ..!

..........

انتظار ..مازال قائماً..

أفاد مالك البيت في ( أضنة )، والذي كان( اللاجىءالكاتب)يسكن في غرفة

 متطرفة منه ، وفي المحضر الطبي للوفاة ، أن خمسة أيام انقضت عليها ، لم

يظهر فيها ، خارجاً أوداخلاً سيما وقد أعلمه بعزمه على الرحيل منذ شهر، حينما

 تسلم منه أجره سلفاً ....

كان مرتدياً لباسه الرسمي كاملاً ملقى على الأرض ممسكاً بمبايل ، وحقيبة سفر

مملوءة بثياب وكتب وأوراق ، وجهازلابتوب في محفظته ، وتذاكر سفر متناثرة

في أحدها مكتوب فيها  :  أضنة – اسطنبول ذهاب فقط .....

وفي ثانية : اسطنبول -   باريس – ذهاب فقط ....!!؟؟

وسوم: العدد 722