الشمس في كفي

مد عدنان رأسه من فتحة الباب، تفحص الدار بنظرة حذرة، ثم خرج بخفة ثعلب مخفياً المرآة بين بطنه وقميصه، ركض بسرعة، تعثرت قدمه بأثافي الموقد فانكب على الأرض، لم يطلق صرخة ألم، بل سارع بالقيام، عض على شفتيه واحمرت وجنتاه، تفقد المرآة، وجدها سليمة فوق كومة الرماد، لم تشرخ، رأى وجهه بين ذرات الغبار كالحاً والشمس تبدو خلفه خائفة مثل خوفه، مد لسانه لصورته في المرآة، ومسح السطح الأملس بكمه، ابتسمت له الشمس وارتد نورها عن الزجاج إلى وجهه لطيفاً دافئاً.

وصل إلى سمعه نداء أمه من داخل البيت: تعال يا عدنان، لا تذهب بعيداً، لا تعبر طريق السيارات، تجاهل النداء واختار أيكة كثيفة على كتف السياج، جلس بحذائها فوق كومة تراب حديث عهد بالمحراث، لينه ناعمة كالمهد، يلعب بمرآته، يعكس على صفحتها ضوء الشمس، يدفع به إلى الجانب الآخر من الطريق، يخترق السيارات العابرة فيلتفت إليه الركاب ويلوح له بعضهم بأيديهم من النوافذ، ويعود عدنان فيسحب دائرة الضوء ويرميها على الإسفلت تعبر فوقها السيارات، بعدئذ، وبحركة خفيفة من يد عدنان تنهض شمسه سليمة معافاة، لم تتأثر بما مرّ فوقها من أثقال.

عاد صوت الأم من جديد: عدنان، أين أنت أيها الشقي؟ تجمع على نفسه في مكمنه وأدار المرآة باتجاه آخر، بدا له في عمقها حقلاً واسعاً مشمساً أخضر يقوم على طرفه بيت خال من الأمهات اللاتي يحصين الخطوة والصرخة، يمنعن اللعب على حافة الساقية، وصنع التماثيل من الطين, يخشين على الملابس وكل الأشياء من الاتساخ.

أدار المرآة باتجاه آخر، ظهرت له فيها شجرة المشمش، بأغصانها المنحنية المحملة بالشهد، تحلّب ريقه فخفض المرآة ظهرت أغصان الشجرة قرب قدميه مد يده فانزلقت المرآة وهربت منها حبات المشمش تأمل الشجرة من جديد تلفت حوله انتقى حجراً بحجم قبضة يده رمى به الشجرة المثمرة فتساقطت بضع حبات منها على الأرض ارتفع صوت الأم:

(عدنان، يا عدنان) لبد عدنان في مكمنه خائفاً يترقب، حتى إذا أمن كف أمه ركض بخفة، التقط صيده وعاد يأكله على مهل، متلذذاً بالرحيق الشهي ثم عاد إلى المرآة من جديد.

المرآة ذات سطحين أحدهما مكبر والآخر عادي، أدار الوجه المكبر باتجاه الشمس فانعكس نورها على الجدار الإسمنتي المقابل، كابياً باهتاً كضوء القمر شعر عدنان بكآبة مفاجئة فعاد إلى الوجه الأول، أدار قرص الضوء إلى السياج حيث تقيل دجاجات أمه تحت ظلال الزيزفون، اكتشف أن النور لا يخاف الأشواك دهشت الدجاجات وراحت تقوقئ بأصوات غريبة تجمع بعضها يريد نقر دائرة الضوء، ضحك عدنان، تعالى ضحكه حتى تجاوز السياج.

خرج أولاد الجيران يستطلعون ما يجري، وقف عدنان وسطهم مزهواً بامتلاك الشمس، يوجه ضوءها كيفما شاء، تحلق الأطفال حوله يتفرجون على الحركات البهلوانية لدائرة الضوء، وقف عدنان يدخل نور شمسه في أفواههم في جيوبهم معلناً: الشمس في كفي، أرسل نورها حيث أشاء انظروا أدار المرآة باتجاه كومة الحطب أدخل الضوء إلى الفجوات المظلمة خافت السحالي فراحت تتراكض مذعورة يصطدم بعضها ببعض محاولة الهرب ولكن إلى أين؟ فالصبي ما زال يلاحقها بشمسه ليضحك ويُضحِك من حوله.

ترك كومة الحطب وأدار دائرة الضوء باتجاه العجوز الجالس منذ الصباح على كرسي القش الصغير يراقب المشهد، هزّ العجوزعصاه مهدداً فانسحب عدنان مع رفاقه كاتمين ضحكاتهم الخائفة, كانت سميرة ـ أخت عدنان ـ قد خرجت من المطبخ بعد انتهاء عملها فيه، أحضرت أدوات زينتها، بحثت عن المرآة فلم تجدها، استشاطت غضباً واستغضبت أمها فاشتركت معها في البحث عن المرآة دون جدوى، رمى عدنان المرآة على الأرض ووقف باستعلاء سأل رفاقه: أين الشمس؟

نظر الأولاد إلى السماء مشيرين بأصابعهم إنها فوق، ضحك بغرور قائلاً: بل هي هنا تحت قدمي.

صك سمع الأم صوت الدجاجات المستنفرة خلف السياج، خرجت تستكشف، فشاهدت دائرة الضوء من خلال الأشجار، تتواثب كعفريت حل قيده، أشارت إلى ابنتها فتبعتها خارج البيت، اقتربت سميرة بخطى خفيفة مشمرة عن ذراعيها، بينما كان عدنان منهمكاً في ألعابه، ورفاقه يتحلقون حوله مشدوهين.

أهوت سميرة بكفها البارد المشبع بماء الغسيل على قفاه فأفلتت المرآة من يده وسقطت على الأرض التقطت الفتاة مرآتها وعادت إلى البيت بينما هبّ العجوز واقفاً وصرخ:

لا... لا تضربيه يا سميرة، ارتخى طرفا فمه وارتجفت ذقنه كمن يوشك أن يبكي، تذكر أن لا سلطة له على أحد، عاد فجلس على كرسيه في ظل الجدار الباهت يهذي: لماذا يا سميرة؟ دعيه يحلم، دعيه أنا أيضاً كنت أحلم ضاع عمري في سراب خادع، أنا مثله كنت أخال الشمس في كفي، حين كنت ألبس البزة الرسمية ذات النجوم والأزرار اللامعة.

أدخل بشمسي كل الحوانيت، والمستودعات، والبيوت، والأدمغة حتى خلجات القلوب، كنت أحسب أني أتحكم بها، إلى أن جاءتني ورقة باردة رطبة، مثل كفك يا سميرة، ورقة صغيرة بيضاء ناعمة، مطرزة بالحبر، صفعتني كما تصفعين عدنان، أسقطت المرآة من يدي، أسقطت الشمس من كفي وأحالتني إلى رجل متقاعد.. متـ.. قاعد.. موت قاعد... مت وأنت قاعد، أنت لا تشعرين بي يا سميرة، كنت أعيش في حبور دائم وسعادة أخالها خلقت من أجلي وحدي، أفرح حين يرتعش الناس خوفاً أمامي، يصابون بدهشة يشوبها الانزعاج، تماماً مثل هذه الدجاجات، فأفرح كما يفرح عدنان، لا تعرفين موقفي الآن، وقد تفتحت من حولي العيون التي كان الرعب يُكسّر نظراتها، فأصبح أصحابها يعبرون مكاني ولا يلقون بتحية.

انفض من حولي جميع المتملقين والخائفين والطامعين، لم يبق لدي أحد، لم أدخر صديقاً ليوم كهذا، أنا اليوم أموت وأنا قاعد موت قاعد موتـ... قاعد.

لا.. لا يا سميرة ارجعي إلى عدنان، أشبعيه ضرباً أيقظيه من وهمه أنا لم أستيقظ من وهمي، ظللت سادراً في غيي وضلالي طوال مدة وجودي في الوظيفة إلى أن جاءتني صفعة على وجهي من الأمام وقالت لي:

كن متقاعداً فامتثلت.

كان عدنان قد نسي المرآة والصفعة، والتحق بجمع الأطفال يتشاورون في لعبة جديدة، وبقي العجوز الأشيب جالساً على كرسيه، مستنداً إلى الجدار، كأنه أحد رسوم الأطفال المرسومة بالطباشير، وما زال يردد هاذياً متقاعد.. متـ.. موت.. قاعد.

وسوم: العدد 739