نكتة

بصعوبة استطعتُ الحصول على إجازة قصيرة للتغيب عن العمل لمدة ساعة أو ساعتين.. كان الوقتُ صيفاً.. وكنا مشغولين صباحاً ومساءً بتصحيح أوراق الشهادتين الإعدادية والثانوية..

كنتُ مضطراً للتغيب كي أحصل عى شهادة ميلاد للمولود الجديد.. كل يوم تأخير في تاريخ الميلاد يعني حسماً من راتب الطفل.. وإن كل حسمٍ من راتب الطفل يعني عبئاً على نفقات الأسرة.. هكذا أصبحت الأمور تُحسب بالنسبة إلى الموظفين أمثالي..

لم أملك واسطة نقل، ولم يكن بالإمكان الاستعانة بالسيارات العامة.. مشيتُ من مقر العمل إلى عيادة الطبيب سيراً على الأقدام.. حرُّ الصيف في وقت الظهيرة يلفح الوجوه والأذرع المكشوفة .. العرق المتصبب يغسل الأعضاء الأخرى.. ازدحام الناس في الطرقات وعلى الأرصفة زاد الجو حرارة وعرقاً.. أما زفت الإسفلت الذي ماع، فله حديثٌ مع قفا الأحذية وأطراف السراويلات يطول شرحه.

انتزعتُ نفسي من زحام الشارع العريض وضجيج العربات والسيارات والباعة المتجولين وغير المتجولين والأطفال، ودخلت (عبّارة)، عمارة ضخمة.. بعد انعطافين على اليمين والشمال.. وصعود بضع درجات وجدت نفسي أمام ردهة الطبيب النسائي.. ردهة العيادة مزدحمة جداً.. معظم المنتظرين من النساء والأطفال.. ضاقت المقاعد عن استيعابهم.. وقف ثلثهم على الأقدام والثلث الآخر افترش الأرض المبلطة بمربعات مرمرية غير نظيفة.. جو الردهة مختلطة من العطور والقذارة والأنفاس البشرية والانتظار ومخاط الأطفال الباقين.. لم يكن من السهل التفرس في وجوههم ولا تجاهل العبوس والاصفرار وتغضن الملامح بسبب المرض.. (متى يأتي دوري يارب)؟!.

عرفني حاجب الطبيب الموكل بتنظيم المراجعات، غمزني بطرف عينه، أومأ إليّ أن أقترب، قال:

- افسحوا الطريق للأستاذ، أخي الدكتور.

أنا لا أحب الكذب، لكنني سكت.. (الكاذب غيري، ثم إنني مستعجل جداً. ورائي عمل ومساءلة عن التأخير).

ما إن دخلتُ غرفة العيادة الواسعة النظيفة حتى أطلَّ الطبيب برأسه من وراء الستارة الزرقاء المسدلة، حيث يعالج إحدى مريضاته.. لعله كان يفحص نبضات قلبها وقلب الجنين الذي في بطنها.. سمعتُ النبضات مجسمة من خلال مكبر الصوت أشبه بقرع طبول متعبة في ضوضاء مائية..

ابتسم الطبيب لي، فابتسمتُ له.. أقبلَ عليَّ، فأقبلتُ عليه..

بادرته بالسلام والاعتذار عن الزيارة المفاجئة.. رحَّبَ بي غير مبالٍ بالمفاجأة، لكأنه كان ينتظرني على ميعاد مسبق، قلت:

- أنا مستعجل، وأنت مشغول.. إن شئت رجعتُ من حيثُ أتيت...

- على العكس أنا غير مستعجل.

حملقت بعيني.. فتحت أذني .. استرجعت كلماته (هل يمزح أم يسخر؟).. لاحظ عليَّ التردد والاستغراب..

- صدقاً أنا غير مستعجل، وأظنك لست كذلك.

- ... ( أن يحكم على مدى استعجاله معقول.. أما أن يخمن أنني غير مستعجل هكذا..). - تفضل.. استرح هنا..

أشار إلى كرسي بجوار المنضدة البيضاء.. جلس قبالتي جلسة كاملة.. بدأ بالترحيب والسؤال عن الحال والأعمال وطول الغياب .. قلتُ:

- لا أطيل عليك.. أريد – إذا سمحت – أن توقع على شهادة الميلاد..

فتح عينيه وذراعيه باسماً:

- قبل أن نتحدث بشيء؟!

من عادتي التأكد من مجاملات أصدقائي وعدم إحراجهم..

اصطنعت الجد.. قلت:

- عفواً.. وقتك لا يسمح.

- لا تهتم.. وقتي يسمح. (ابتسم ابتسامة حقيقية.. أصلح جلسته)..

- ربما وقتي أنا.. (ابتسمتُ أنا).. قاطعني:

- سوف ترى أنَّ وقتك أيضاً يتسع..

فكرت: (لا بد أن عند الرجل شيئاً مهماً يريد أن يفضي به قبل فوات الأوان).. قلت:

- هذا من لطفك .. لكنني لا أرغب بمضايقتك أو مضايقة زبائنك.. إنهم يتدافعون وراء الباب.. لعلهم غضبوا لمخالفتي الدور..

- سأروي لك نكتة (ابتسم ثانية من أعماقه ابتسامة متألقة لم أعهدها فيه من قبل.. بادلته الابتسامة).

- نكتة أم قصة؟

احكم عليها بعد سماعها..

وطنت نفسي على السماع.. جازفت بكل ما يترتب على صديقي الطبيب من تأخير وتضييع أوقات.. كما جازفتُ بما ينتظرني من محاسبة لدى العودة إلى تصحيح الأوراق المكدسة.. قال:

- حينما كنا طلاباً في الجامعة صحبنا أستاذ الأمراض العصبية إلى مستشفى ابن سينا.

استيقظت في نفسي ذكرياتٌ وذكرياتٌ.. أيام الجامعة حيث الشباب والطموح والمثل العليا.. وحيث كان صديقي الطبيب عباس منصرفاً إلى العلم وحده، وجماهير الطلاب يموجون في بحار السياسة والعمل الطلابي.. كنت أعذره لأنه إنسان كادح، جعل يضمن لنفسه ولأهله الفقراء مستقبلاً لائقاً يعوض عنهم ما عانوه من بؤس وحرمان.. لم يكن يمزح ولا يلهو.. كان يؤثر العزلة والانفراد.. لا تكاد تلمحه إلا في طريق الجامعة أو المناسبات القليلة.. ظلَّ هكذا دأبه بعد تخرجه طبيباً نسائياً متفوقاً.. ذاع صيته.. اتخذ لنفسه عيادة خاصة ثم مستشفى.. كل ذلك بهدوء وتواضع.. وكنا – حين نزوره لاستشارة طبية – نلقاه هو لم يتغير:

جاداً، مقتصداً في كلامه، منصرفاً إلى مهنته لا يتجاوزها.. تقرأ في كل جزئية من جزئيات حياته وبيئته التي اختارها: (من السياسة ترك السياسة). لعله كان يظن أن المزاح يؤدي إلى النقد، وأنَّ النقد يؤدي إلى السياسة، وأنَّ السياسة تؤدي إلى ما لا تُحمد عقباه، كان الأهون عليه أن يوزع الحلويات والهدايا على الأطفال المرضى، من أن يربت على خد أحدهم، أو أن يستمع إلى مشكلة عائلية..

يقول: (العواطف لغة العاجزين).. لذلك رأيتني في حرجٍ شديدٍ حين بادرني بالابتسام والمزاح خلافاً لما ألفته منه..

قال بمرح طفولي ولهجة جادة:

- في مشفى ابن سينا اعترض طريقنا أحد المجانين.. ملامحه لا تدل على أنه مجنون.. رجل في العقد الرابع من حياته.. متوسط الطول.. جميل الطلعة.. هادئ.. متوازن في حركاته وكلامه.. ليس هناك ما يميزه من الناس العاديين إلا أنَّ لحيته مرسلة وثيابه مهلهلة وفي يده دلو ماء فارغ.. في بداية حديثه ظنناه أحد موظفي المستشفى .. وسرعان ما اكتشفنا أنه خريج جامعي لا يقل عن أي واحد منا في الوعي والثقافة.. بل ربما كان يفوقنا في ذلك.. طلب منا بأدب وبراعة أن نستمع لقصته.. وجه كلامه لأستاذنا كأنه يعرفه.. قال:

- خرجت مرة كعادتي إلى الصيد في إحدى الغابات .. كان الوقت صيفاً والحر في وقت الظهيرة يلفح الوجوه والأذرع العارية.. الطريق وعر وأشجار الغابة كثيفة لا أكاد أميز دربي إلا بصعوبة.. في شبابي كان الصيد بالنسبة إلي هواية، أما وقد تقدمت بي السن وكثرت أعبائي واشتعل الغلاء في مرافق الحياة .. وجدت في الصيد مورداً إضافياً يسد بعض النفقات.. لعلكم تلاحظون أن الصيد انتشر في السنوات الأخيرة.. صيد في إدارات الدولة.. صيد في شرطة المرور .. صيد في الجمارك.. صيد في الشوارع.. قد توافقون على أنَّ صيد الحيوانات أشرف أنواع الصيد..

نظر بعضنا إلى بعض ولسان حال كل منا يقول: هذا عاقل أم مجنون؟ تابع الرجل كلامه، وقد أدرك مغزى نظراتنا:

- لعلكم أنتم وقعتم الآن على صيدٍ سمين.. عينة من هذا المجتمع الذي تنتمون إليه، فلا ترجعوا خائبين.

قدَّم إليه أستاذنا علبة سجائره.. فتناول واحدة منها بلطف.. أشعلها له الأستاذ كما أشعل لنفسه أخرى.. مصَّ الرجل سيجارته بشكلٍ طبيعي نموذجي.. ثم استدار قليلاً لينفث دخانة في غير وجوهنا، ثم قال:

- لما توغلتُ في الغابة، فوجئت بأسدٍ هائج مقبل عليَّ من أمامي، تسبقه رائحة كثيفة، اختلطت فيها رائحة جلده المتعرق برائحة ضحاياه التي ما تزال بعض دمائها على أسنانه ولبدته ومخالبه.. كانت المسافة كافية لأتدبر نفسي.. بندقية الصيد جاهزة على كتفي.. ومسدسي ملقم على جانبي.. وأنا غير خائف.. أعترف لكم بأنني خرجتُ لصيد الأرانب أو طير الحجل لا لصيد الأسد.. همي أن أصطاد ما يؤكل وما يُسمح بصيده..

فالأسد مطلوب أن لا ينقرض نسله.. أولادي يريدون طعاماً وكساءً، وأنا أريد السلامة.. ما لي وللأسد؟ إنه وحشٌ كاسر وهو محمي بسلطة القانون.. ولو اعتدى على الناس فأنا لستُ وحدي مكلفاً بمعالجته..

تابع الرجل كلامه.. لم تفلت يده دلو الماء.. أصابعه انقبضت تشدّ على مقبض الدلو:

- قررت تغيير طريقي، وأنا أقول لنفسي: دع ما للأسد للأسد وما لعبد الصبور لعبد الصبور.. هو ملك الغابة وأنا أحد رعاياها.

قال له الأستاذ مداعباً:

- تقصد أننا نعيش في عصر الغابة؟..

- أعتذر عن الجواب..

تظاهر بالحاجة إلى سيجارة .. ضغط طرفيها قبل إشعالها قال:

قلت لنفسي: من الخير أن أنعطف إلى جهة اليمين وأسلك طريقاً آخر في الغابة. حين هممتُ بذلك فوجئت بأسدٍ ثانٍ أشدّ هياجاً يتوجه نحوي.. زئيره يصم الآذان أشبه بضجيج معركة مختلط ببكاء النساء والأطفال.. لم أخف منه.. أسرعتُ بالتوجه نحو اليسار باحثاً عن طريق للنجاة.. وإذا أسد ثالث يكشر عن أنيابه متلمظاً يحملق بعينين حمراوين.. صدره يدق الأرض وذنبه يترنح في الهواء.. تراجعت إلى خلف.. لكن أسداً رابعاً كان قد شدَّ علي الطريق.. ما العمل؟ الوقت ضيق.. حياتي مهددة بخطر حقيقي..

المعركة غير متكافئة: أربعة أسود أمام إنسان واحد، أنا محاصر من كل جهة.. مهدد من كل جهة بالموت.. في هذه الحالة يسمح لي القانون بالدفاع عن النفس حتى لو ارتكبت جريمة قتل.. حينذاك صممتُ على فتح طريق لي بالقوة.. اخترت التوجه إلى أمام.. حملتُ البندقية بعد أن لقمتها.. تقدمت نحو الأسد الأول.. تفرَّست في وجهه لعله يخاف من بندقيتي، أو يعلم أنني أطلب العيش لأسرتي وأطفالي بغير عدوان عليه، أو يستحيي من تآمر أربعة أسود على إنسان واحد.. إنَّ الأسد – ولو كان زعيم غابة – لا بدَّ أن يكون لديه حد أدنى من الآداب والأنظمة، وإلا ما معنى كونه ملكاً متميزاً عن رعيته؟ يبدو أن هذا المنطق كله لم يعجبه، فهجم عليَّ فجأة وأكلني..

لم يقل: عضني الأسد.. لم يقل نهش عضواً من أعضائي.. قال: أكلني.. مضت لحظات صمت غريب ونحن نفكر بعبارته الأخيرة. بلساننا جميعاً سأله أستاذنا ليتأكد:

- تقصد أنه أكلك.. تقصد أنك مت.. لم تعد حياً؟

من غير أن يبدو عليه أي تغير أو تأثير أجاب:

- نعم أقصد أكلني أي أصبحتُ ميتاً.

ابتسم أستاذي ليوحي له بأنَّ ما قاله نكتة طريفة يشكر عليها:

- لكنك والحمد لله ما تزال حياً تُكلمنا.. وتعيش مثلنا!

أجفل عبد الصبور.. ألقى الدلو من يده.. تدحرج الدلو في المنحدر المحفر.. أخذ يصدر ضجيجاً وأصواتاً أشبه ما تكون بضجيج الشوارع تارة، وبزئير الأسد تارة أخرى، وأحياناً يشبه بكاء الأطفال والنساء.. قال عبد الصبور مدهوشاً:

- هل هذه تسميها عيشة يا دكتور؟!

في تلك اللحظة أحسسنا أنَّ الشمس تلفح الوجوه والأذرع العارية..

وسوم: العدد 754