في ندوة مختبر السرديات بالدار البيضاء:

 clip_image002_d2894.jpg

clip_image004_9eb5e.jpg

ثمّن بقوة عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، الدكتور عبد القادر كنكاي، الجهود الكبيرة التي يبذلها مختبر السرديات وتحليل الخطابات، من أجل النهوض بالبحث العلمي وإشراع الدرس الجامعي على الإبداع والابتكار. جاء ذلك في الكلمة التي ألقاها صبيحة أمس الجمعة بمناسبة التئام الندوة الرابعة لطلبة دكتوراه تحليل الخطاب السردي بكلية الآداب والعلوم الإنساني بنمسيك بالدار البيضاء، تحت عنوان "أصوات الغيرية في الرحلات الأوروبية إلى المغرب".

وقال كنكاي إن مبادرات مختبر السرديات وتحليل الخطابات، برئاسة الدكتور شعيب حليفي، هي الوحيدة من نوعها في المغرب، إذ أن كثافة أنشطته في تأطير الطلبة وعقد الندوات وتنشيط الحقل الجامعي بالمغرب، أضحت تطرح تحديا كبيرا على إدارة الكلية لمواكبة هذه الدينامية المباركة، التي أعادت للجامعة المغربية وهجها الرئيس وجعلتها تعيش حركية جديدة لابد أن تنعكس إيجابا على الجيل الصاعد.

واعتبر عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية أن هذه الندوة العلمية متميزة بكل المقاييس، سواء على مستوى الجدية والجدوى، وقد بلغت دورتها الرابعة بنفس النضج التنظيمي، أو على  المستوى البيداغوجي، اعتبارا للأهداف المرصودة وما تنطوي عليه من بعد تكويني مكين ومن انفتاح على الآخر جعل طلبة الجامعات الأخرى يتابعونها بشغف، أو على المستوى الاستراتيجي يهم مستقبل الجامعة المغربية ككل عبر ضخ دماء جديدة في عروقها والتهييء بوعي ومسؤولية للخلف.

من جهته نوه الدكتور شعيب حليفي بالجهود التي بذلتها اللجنة التنظيمية من أجل أن تكون الندوة العلمية الرابعة في المستوى العلمي المأمول، وشكر الحضور النوعي من الأساتذة والطلبة والباحثين، الذين احتشدت بهم قاعة الندوات، عبد الواحد خيري، بالكلية، قبل أن يبسط توجه مختبر السرديات وتحليل الخطابات الثقافية باشتغاله على الثقافة المغربية في مختلف تجلياتها وتمظهراتها وبوسائل منهجية متعددة.

وأوضح شعيب حليفي أن التأسيس لمستقبل الجامعة المغربية يمر تحديدا عبر جعل الطالب مدار انشغال من خلال إيلاء تكوينه العناية الأكبر وجعله فاعلا ثقافيا في المجتمع، وهو الدور الذي لا يمكن أن تنهض به إلا المختبرات الجامعة بوصفها فضاء علميا وعمليا في آن لرفد الطلبة، ليس فقط بمعارف ومنهجيات في التعاطي مع النصوص والخطابات والقضايا المختلفة، وإنما أيضا بتجارب وخبرات حية.

وبعد أن أعلن رئيس شعبة اللغة العربية وآدابها الدكتور حسن نجمي عن موضوع الندوة "أصوات الغيرية في الرحلات الأوروبية إلى المغرب" بمشاركة 13 باحثة وباحثا في سلك الدكتوراه، انطلقت الجلسة الأولى، التي سيرها الدكتور الميلود عثماني، منوها بالعمل التواصلي الذي دأب مختبر السرديات على إرسائه والدفع به إلى أقصى الحدود، كما ثمن موضوع الندوة المثير للاهتمام.

وعرضت الباحثة منيرة الزغيمري دراسة بعنوان "التمثيل الثقافي وصورة الآخر في 'رحلة إلى مكناس' لجون وندوس، بينت من خلالها كيف تم تمثيل المغربي بمجموعة من الصور التنقيصية انطلاقا من نزعة التفوق الغربي للرحالة، واستدلت على أن أغلب الأحكام هي تشويه للواقع وترجمة للتمثلات والتنميطات التي أسر فيها الغرب الإنسان العربي والمغربي، وقد خلصت إلى سلبية هذا التمثيل الجانح نحو الغرائبية والتهويل.

وقدم الباحث سليمان حجاجي ورقة بعنوان "صورة السلطان مولاي عبد الله بعيون الأسير السويدي ماركوس بيرغ من خلال رحلته الموسومة بـ'وصف الاستعباد في مملكة فاس'. ورصد المتدخل أنواع التصوير التي عمد إليها الأسير بدءا من الفيزيونومي إلى المزاجي، لينتهي إلى أن الكاتب رغم انطلاقه من الشخص في عينيته لم يسلم من الأحكام المسبقة والصور الكلشيهية المكرسة حول الحاكم العربي المستبد، وهو ما جعل الرحلة في عمقها مبنية على سردية التبخيس والكره.

وتطرق محمد محي الدين في مقاربته المعنونة بـ"من أعالي التاريخ: قراءة في رحلة يان بوتوتسكي البولوني في 'رحلة في إمبراطورية المغرب 1791'، إلى العديد من المظاهر الاجتماعية والسياسية التي رصدها الرحالة في مهاية القرن الثامن عشر بالمغرب، من أبرز صورها اللاعقلانية في مجالات الدين والسياسة والمجتمع، ولم يفت الباحث أن الرحالة كان ينطلق في أحكامه من مبادئ التنوير الأوروبي، وهو ما شكل في العمق مرآة انعكست عليها تناقضات الذات المغربية وهي تعيش تخلفها عن نهضة أوروبية كانت على مرمى نظر منها.

وأنهى الباحث أحمد بلاطي أشغال الجلسة الأولى بمقاربة حملت اسم "التاريخ وصور الآخر في رحلة علي باي العباسي إلى المغرب. وبين أن رهان هذه الرحلة كان استكمال المعلومات حول المغرب من أجل استعماره، وهو ما تؤكده مشاريع تمويل هذه الرحلات الاستكشافية من طرف عدة مؤسسات وعلى رأسها الجمعية الفرنسية للجغرافيين. وأوضح المتدخل أن مهمة علي باي تجلت في إقناع السلطان المولى سليمان بقبول حماية إسبانيا وفي حال فشله في هذه المهمة يقوم بتأليب الثوار عليه وهو ما فعله في آخر المطاف دون أن يبلغ هدفه.

وسير الجلسة الثانية الدكتور كريم بيجيت متسائلا عن هوية الرحلة، إن كانت نصا أم وثيقة، حتى يمكن رسم استراتيجية التعاطي معها. وقد تدخل على إثره الباحث رضوان ضاوي بورقة عنوانها "هاينريش فون مالستان: ثلاث سنوات في شمالي غرب إفريقيا"، حيث أبرز أن الاسشتراق الألماني مختلف عما عداه من استشراقات أخرى، وأن الأحكام التي بدرت عن الرحالة الألمان المذكور حكمتها قيم الرومانسية الألمانية في ذلك الإبان، لكن دون أن تنزاح الرؤية عن تمركز الأوروبي على ذاته وهو ما اختزله في مفهوم "الاضمحلال" القائم على تفوق الأوروبي وتخلف الآخر، لذلك بدا طبيعيا وصف المغرب بـ"بلد التشدد الديني والبربرية".

وعنون الباحث ميلود الهرمودي مداخلته بـ"بنية الذات من منظور الآخر: رحلة داخل المغرب للدكتور ديكيجي، التي قام بترجمتها الدكتور بوشعيب الساوري. وبين كيف أن هذه الرحلة كانت محكومة بهاجس معرفة الذات المغربية على جميع المستويات بما فيها الجانب الصحي على اعتبار أن الرحالة كان طبيبا. وقد تحكمت في نهجها ثلاث مسارات، هي المسار الموجه حيث غابت الأحكام، ثم المسار الاتجاه حيث بدأت تتبلور أحكام سلبية تجاه المغاربة بعد الاحتكاك بهم، لتبلغ هذه الأحكام والمواقف ذروتها فيما وصفه بالمسار الهدف عندما سيبلغ الرحالة مدينة فاس، وتصير السخرية هي النبرة المعبرة عن مشاعر الحقد إزاء الذات المغربية.

وختم الباحث زهير كويس العلمي مداخلات الجلسة الثانية بورقة وسمها بـ"تمثلات الآخر بين الجلي والمضمر من رحلة شارل دو فوكو (التعرف على المغرب 1883). وأبرز المتدخل أن هذه الرحلة كانت محكومة، رغم طابعها العلمي، بمرامي استعمارية مضمرة، وانطوت على رؤى تبخيسية في حق الآخر المغربي سواء من الناحية الدينية حيث كانت المسيحية هي دين الحق في حين أن الإسلام دين الباطل، أو من جهة السياسة حيث الاستبداد صاحب الكلمة الفصل في حكم البلاد أو على المستوى الاجتماعي من خلال النزعة القبلية السائدة وغياب أي مواطنة.

وسير الدكتور عبد الرحمان غانمي الجلسة الثالثة حيث قام بعرض ورقة الباحثة نادية شفيق التي غابت عن الحضور بسبب وعكة صحية، وعنونت مداخلتها بـ"تحولات الوعي والجغرافيا. (مراكش_ قبائل الشاوية ودكالة والرحامنة لإدموند دوتي سنة1901). وقد ركزت على رصد الرحالة للعلاقة المتوترة باستمرار بين المخزن والقبائل المغربية، خصوصا في فترات الأزمة حين تكون هناك جائحة وتقل الموارد بشكل كبير.

ووسم الباحث يونس لشهب مداخلته بـ"الغيرية والتخييل في رحلة بيير لوتي، البنيات والدلالات (بيير لوتي، في المغرب، 1889). وقد بين المتدخل كيف أن مفهوم الغيرية في هذا النص قد تسربل بلبوس الخطاب الاستعماري، وكان في عمقه ترجيعا لصدى نغمتين هما عتمة الآخر المغربي في مقابل اغتراب الذات الفرنسية. وقد أمكن من خلال معالجة عنصر التخييل في الرحلة الوقوف على استراتيجية الرحالة في إعادة بناء صورة الإنسان والمكان المغربيين انطلاقا من صورة نمطية جاهزة أساسها التحقير والتبخيس.

وأنهى الباحث محمد الدوهو مداخلات الجلسة الثالثة بورقة سماها "تفكيك صورة الآخر في الرحلة الغربية. (كابرييل فير، في صحبة السلطان، 1901). وقد أبرز أن الكتاب مليء بالصور الاستشراقية التي كونها الأوروبيون عن العرب بشكل عام والمغاربة بشكل خاص، وهو الأمر الذي جعل الرحالة يكتب عن المغرب، ليس انطلاقا من تعرفه عليه بل من خلال ما يحمله عنه من روزنامة أفكار وتصورات، وهو ما يجعل النص عملا تخييلا بالأساس ما على المجال والإنسان المغربي سوى الامتثال لخطاطته. وقد عملت النظرة الدونية المبثوثة في الرحلة على تكريس فكرة التدخل الاستعماري لإخراج المغرب من التخلف الشرقي إلى التحضر الغربي.

وانعقدت الجلسة الرابعة بعد الزوال حيث قام بتسييرها الدكتور بوشعيب الساوري المتخصص في الخطاب الرحلي بحثا ونقدا وترجمة. وألقى الباحث عبد الواحد العبدوني ورقة عنونها بـ"رحلة إثيان ريشي بين الأدبي والسياسي" (رحلة في أسرار المغرب المترجمة من قبل بوشعيب الساوري)، وقد اعتبر أن النص الرحلي الذي اشتغل عليه أو سواه من الرحلات الأخرى نصوصا إيجابية لأنها تتيح التفكير في الذات انطلاقا من انعكاسها في مرآة الآخر الأوروبي سواء سلبا أو إيجابا، إذ أن نظرة ريشي إلى الذات المغربية راوح بين الإعجاب والنفور.

وعنون الباحث محمد العناز مداخلته بـ"الهوية والموقع الاستكشافي: أندري شوفريان _ رحلة إلى المغرب، التي ترجمها فريد الزاهي. وسلط المتدخل الضوء على الثنائيات التي انتظمت مواقف الرحالة وهيمنت على أحكامه، حيث ظلت تنوس بين مقارنته بين حضارة صاخبة وأخرى ميتة، بين مركز متحضر وهامش متخلف، بين المينة الأوربية التي بلغت أوج المدنية والمدينة الإسلتمية الغارقة في التقليدانية. وقد طفحت الرحلة بالصور الغرائبية بتأثير من ألف ليلة وليلة وتميزت بنبرة سخرية من هذا الآخر المغربي.

وأنهى الجلسة الباحث حميد لغشاوي بمداخلة وسمها بـ"صورة المغرب في الرحلات الأنثروبولوجية: الأخوان جون وجيروم طارو_ الرباط أو الأوقات المغربية". واعتمد المتدخل على تقسيم الباحث الأنثروبولوجي المغربي حسن رشيق الرحلات الأوروبية إلى المغربي إلى ثلاث حسب التحقيب ما بعد الكولونيالي، حيث تميزت هذه النصوص بجمع المادة الإثنوغرافية، والفترة الكولونيالية حيث كانت التركيز على الجانب السوسيولوجي للمدينة المغربية، ثم الفترة ما بعد الكولونيالية والتي انصرف فيها الاهتمام إلى النظام السياسي والاجتماعي. وخلص الباحث من خلال موضعة الحلة التي درسها في الحقبة الاستعمارية إلى اتسام الصورة المنسوجة بإزاء المغرب بالغرابة والأسطرة على جميع المستويات.

وقد تميزت الجلسة الختامية التي أدارها شعيب حليفي بنقاش مثمر حيث أوضح أن أسئلة الغيرية الحقيقية لا ترتبط فقط برصد الأوصاف المبثوثة في النصوص الرحلية المحكومة بالسياق الراهن للباحثين ووعيهم الخاص، وإنما تتجاوز ذلك إلى النبش في مجتمع الرحالة والإطار الثقافي الذي صدرت عنه رؤيته للآخر، بالإضافة إلى التعمق في المتخيل النصي للرحلة لاستجلاء هذه التمثلات الثاوية في قيعان النصوص.

من جهته أبرز بوشعيب الساوري أن أهمية موضوع الرحلة نابع من الإشكالات التي يطرحها، خصوصا أن النص الرحلي بطبيعته الأجناسية المخاتلة يظل مفتوحا على كل الخطابات، وهو ما يجعله غنيا بالموارد ومتطلبا لمقاربات منهجية متعددة.

clip_image001_93181.jpg

في نزل موليير..

أعزّ مكان في الدّنى سرج سابح  * * وخير جليس في الأنام كتاب ــــــــــ المتنبّي..

كانت فترة العطلة الخريفيّة مناسبة لشدّ الرّحال إلى العاصمة ..وزيارة الصّالون الدّولي للكتاب الطبعة الواحدة والعشرون ، رافقني في رحلتي هذه المرّة ابني أسامة البالغ من العمر خمس عشرة سنة ، الذي أوتي بسطة في الجسم بحيث يبدو أكثر من سنه ، فأردته أن يؤتى أيضا بسطة في العلم ، لكنّه كان يفضّل أن يزور معالم العاصمة الأساسيّة على زيّارة صالون الكتاب ، فقلت في نفسي ولمَ لا أجمع له بين الأمرين ..فلعلّ وعسى..!

في حدود السّاعة السّادسة صباحا دخلنا مشارف العاصمة من بوابتها الرّئيسيّة ( محطّة الخرّوبة ) ، كانت تضجّ بالحركة والحياة، وبدا الجوّ جميلا منعشا فكتبت بالهاتف البسيط على صفحتي في الفايس بوك عبارة خطرت ببالي حينها ( صباحك نديّ أيتها العاصمة )..وتفاعل معها كثير من الأحبّة والأصدقاء كانت عبارة صادرة من أعماق القلب ..

بعد أن صلّينا الفجر انتقلنا من المحطّة إلى شارع حسيبة بن بوعلي حيث يوجد نزل ( موليير )، ولطالما أدهشني اسم هذا الشاعر والمؤلّف المسرحي الفرنسي العبقري ، ولكن لا يعجبني أن يسمّى باسمه أي معلم أو مبنى في وطني الجزائر ، في النزل كان الأستاذ محمّد الكامل بن زيد الروائي والقاص ورئيس فرع اتحاد الكتاب ببسكرة في انتظارنا ، إذ حجز لنا غرفة هناك ، كما وجدنا هناك الدّكتور الأمين بحري النّاقد والأديب المعروف ، وهو من بسكرة أيضا ، ويعرف بهوسه العظيم في اقتناء الكتب ، ومعه أيضا الشاعر والإذاعي البسكري الأستاذ بلقاسم مسروق ، الذي ألفيناه على وشك المغادرة فكان لقاؤنا به عابرا..

لم نتمكّن من زيّارة الصّالون الدولي للكتاب إلا في حدود الحادية عشرة .. ويا لهول ما رأيناه.. !

مع الكتّاب والأدباء ..

عندما وصلنا صبيحة الأحد 30 أكتوبر إلى الصّالون الدّولي للكتاب كانت أمواج البشر كأنّها سيول الحجيج قد أفاضت من عرفات، حينها انشرح صدري وشعرت بنشوة تغمر كياني ، ليست ملاعب كرة القدم وحدها من تستقطب شباب الجزائر ! ولا حفلات المغنين والرّاقصين ؛ بل هناك من يقرأ ويهتمّ بالثقافة بشكل مرضٍ جدا في الجزائر قد يُعدّل كفّة الميزان ..

كان مقصدنا الأوّل جناح دار علي بن زيد للطباعة والنّشر ( بسكرة ) أين ينبغي أن نحطّ رحالنا ، وقد سبقتنا هناك كتُبنا معروضة للطالبين ، وكان من المقرّر أن ينظم الأستاذ محمّد الكامل بن زيد بيعا بالإهداء يوم الاثنين صباحا ، ثمّ أعرض أنا كتابي ( متن وحاشية ) أيضا بالمساء ( بيعا بالتوقيع أو  إهداء بالإهداء ) .. لأنني لا أحسن البيع في حياتي قطّ ، لكنّ تجارتي كانت رابحة دائما بحمد الله تعالى ، فأرجو أن لا تبور ، ولا أعلم من محمّد الكامل بن زيد إلا ما أعلمه من نفسي ، فهو أيضا يُهدي كتبه أكثر مما يبيع ، لكنّه مسدَدُ الخطى بفضل الله..

وجدنا في جناح ( دار علي بن زيد للطباعة والنشر ) رفيق جلول يقوم على عمليّة البيع والترويج لمطبوعات الدّار ، فجلسنا معه مدّة يسيرة من الزمن ثمّ نهضنا لنتجوّل في المعرض ، كانت الكتب المعروضة كثيرة إلى درجة أنّه يصعب استكشافها كلّها في ثلاثة أيّام ، ووددت لو أننّي أبقى هنا كلّ بقية الأسبوع ، غير أنّ ظروف العمل لا تتيح لي ذلك ، ولا ميزانية الجيب أيضا ، لكنّ متعة التصفّح وقراءة العناوين واكتشاف الأسماء الجديدة ؛ تعتبر طُقسا لا يُستهان به في تشكيل ثقافة القارئ والمثقف النّوعي..

التقيت بداية بالروائيّة ليلى بيران – وهي من معارف الفايس بوك الذين يعتدّ بثقافتهم وقلمهم - فأهدتني روايتيها ( رنيم ) و( بصمات ) ، كان عنوان الرّواية الأولى جذّابا بشكل كبير ، تبادلت أطراف الحديث معها ، ثمّ تركتها منسحبا – بسبب انشغالها - رفقة صديقي ابن زيد إلى جناح اتّحاد الكتّاب ، وهناك كان اللّقاء الشيّق والعاجل مع رفقة من أعضاء الاتحاد ، ووجدنا الشاعر الشاب نور الدّين نويجم ( وهو من نجوم حصّة شاعر الجزائر التي نظمتها قناة الشروق العام الماضي ) ، وقد أصدر أربعة دواوين دفعة واحدة ، وكان لي شرف تقديم أحد هذه الدّواوين المسموم بعنوان (مسافات يرشفها الوجد ) ، وقد أبديت له ملاحظة بسيطة حول إصداره أربعة دواوين في وقت واحد، ورأيت أنّ ذلك يستهلكها إعلاميّا ولا يتيح فرصة كبيرة للنّقاد لإعطائها حقّها من القراءة والتحليل، لكن كانت له وجهة نظر أخرى ، وأذكر أنّه قال لي أنّ هناك دواوين غيرها في الانتظار ، ولقينا أيضا في جناح اتحاد الكتّاب الأستاذ الكاتب والشاعر عيسى ماروك ، فاستمتعنا بالحديث إليه ووعدته هو والشاعر نور الدّين نويجم ، بأن أهديهما بعض إصداراتي ، لكن لما عدت مرّة أخرى لم أجدهما ، وشغلت في خضم الصّالون ، فلم أتمكن من إهدائهما ما حملت لهما.. وعسى أن أَفي بذلك يوما ما، لاسيما أنّ نور الدّين نويجم أهداني دواوينه الأربعة.. ! فكان لابدّ من ردّ التحيّة بمثلها ..ويا ليتني تمكّنت من ذلك.. ! 

كان ابني أسامة قد غادر الصّالون متجها على قدميه نحو شاطئ البحر الذي لم يره منذ 2005 تقريبا .. ولا يذكر منه إلا سرابا يلوح من بعيد فلم يقاوم شوق اللّقاء .. وشتت فكري بينه وبين الصّالون ، وأربكني حتّى كدت أخرج من الصّالون لأبحث عنه ..

كلَّمتُ ابني بالهاتف وطلبت منه العودة فورا إلى الصّالون فرجع ، واطمأنّ قلبي وواصلت جولتي داخل الصّالون ، كان هناك كثير من الكتّاب والمبدعين والشعراء الذين تواعدت معهم على اللّقاء هناك ، أو تمنّيت لقاءهم فكنت أفتّش عن الكتب وفي الوقت نفسه عن صائدي الكتب أو صانعيها ، وقفت أنا ومحمّد الكامل بن زيد عند إحدى دور النّشر وبدأنا نفليها فليا ، كانت هناك كتب جيّدة وبأسعار معقولة اخترت من بينها كتابا عن عبد الله بوخالفة ابن مدينة بسكرة الذي وجد ميتا على سكّة القطار في ظروف غامضة كان الكتاب بعنوان ( أسفار الشاعر عبد الله بوخالفة ).. كان شاعرا متميّزا بشهادة من عرفوه ، فأردت أن أعرف عنه مزيدا من المعلومات..

ووجدت رواية رائعة لعبد الله عيسى لحيلح بعنوان ( حالات ) ، روايات وكتب عبد الله عيسى لحيلح أبحث عنها بشغف، وأشتريها بغير تردد فهذا كاتب من العمالقة الذين يقطر الإبداع من أقلامهم شهدا مصفّى.. !

فعبد الله عيسى لحيلح شاعر وروائي من طراز خاص ، أذكر أنّ جمعيّة الفنون الدرامية ببسكرة نظمت مسابقة وطنيّة عام 1994 م حول أحسن نصّ مسرحي ، وشارك الأستاذ عبد الله عيسى لحيلح بنصّ مسرحي شعريّ ماتع حظي بالجائزة الأولى على المستوى الوطني ، وجاء المؤلّف لحضور حفل استلام الجائزة والتكريم ، وعقدنا معه جلسة أدبيّة ليلا ، دامت أكثر من أربع ساعات تحدّثنا فيها في مختلف شؤون الفكر والثقافة والأدب..

رجعنا إلى جناح ( دار علي بن زيد للطباعة والنّشر ) لتفقد الأمور واستقبال الزّائرين ، وكان من الشخصيّات المميزة التي زارتنا الأستاذة القاصّة نسيمة بن عبد الله ، وهي سيّدة في قمّة التواضع والأخلاق الكريمة ، ومتابعة للنّشاط الثقافي والأدبي بشكل لافت جدّا..

ومرّة أخرى رجعت إلى القاعة المركزيّة في الصّالون باحثا عن الجناح الذي تعرض فيه الأستاذة عائشة بنّور روايتها ( نساء في الجحيم ) ، التي كتبتُ عنها قراءة نقديّة مطوّلة في ستّ حلقات ، أردت لقاءها والتعرّف إليها وإلى زوجها الأديب والكاتب المعروف رابح خدّوسي صاحب دار الحضارة الذي كتبت عنه هو أيضا من قبل، ولكن لم أوفّق إلى رؤيتهما ذلك المساء ..

استأذنت من محمّد الكامل بن زيد في العودة مع ابني إلى النزل، لأنني كنت أريد التجوال في بعض أحياء العاصمة القريبة من ساحة أوّل ماي وساحة الشهداء ، ولكن بعدما ركبنا التروماي والميترو وجدنا أنّ الوقت قد انقضى في التنقل، وشعرت بالإرهاق الشديد، فآثرت أن آوي إلى غرفتي في النزل وأتصفّح بعض غنائمي من المعرض..  

أوّل كتاب امتدّت يدي إليه لأقرأه هو كتاب ( حالات ) لعبد الله عيسى لحيلح ، وأخذت قلم الرّصاص لأدوّن ملاحظاتي المعتادة التي تكون دائما نواة لقراءة نقديّة ، لكنني تفاجأت بعد قراءة ثلاث صفحات أنّني أُعلّم على أغلب الأسطر والصّفحات ، ووجدت الرّواية مشحونة ومثقلة إلى درجة أنّها لا يمكن أن تُقرأ في غرفة في فندق ، والذّهن مشوّش وحقيبة السّفر ما يزال يعلوها غباره ..

أخذت بعدها أتصفّح كتبا أخرى بشكل سريع في انتظار القراءة العميقة ، ومنها كتاب ( أسفار الشاعر عبد الله بوخالفة ) من إعداد عبد النّاصر خلاف وقدّم له الدّكتور أمين الزاوي..

في النزل كانت هناك نافذة مطلة على جهة البحر بزاوية ضيقة قليلا ، لكن يمكن مشاهدة البحر بشكل واضح وملاحظة حركة السّفن وقد أشعلت أنوارها وأضاءت دياجي الأمواج المنسابة في حركة لطيفة كأنّها تمدّ يديها مرحبة برجل من أهل الصّحراء ، لا يلمّ بالبحر إلا قليلا ، وعندما يراه يذكره بصحرائه الممتدة الأطراف ، رهيبة المنظر في عظمة وجلال ..

قلت في نفسي:

" من هنا جاءت فرنسا ذات يوم ،وأسدلت على حرّيتنا ليلا طويلا امتد إلى ما يزيد على القرن وربع القرن .. فكيف أمكن لها أن تدخل إلى هذه العاصمة الشامخة ، والمحصّنة طبيعيّا بشكل يعسر على أيّ أجنبي أن يقتحم تضاريسه الوعرة ..؟ "

في الصّباح عدنا إلى الصّالون من جديد ، كنت أترقّب رؤية بعض الكتّاب والمبدعين من الذين لم ألقهم في اليوم الأوّل ؛ عائشة بنّور رابح خدوسي ، الشاعر سعادي حمزة ، الشّاعر الرّائع مصطفى كبير ، الدكتور حبيب مونسي ...وغيرهم..

كانت المفاجأة في بداية وصولنا إلى الصّالون أن التقيتُ بالمهندس الشاعر الأخضر رحموني ، وكان قد وصل لتوّه من بسكرة ، وليس من السّهل أن يحظى المرء برفقة مثقف مثل المهندس الأخضر رحموني لاسيما في الصّالون الدّولي للكتاب ، فالّرجل مثقف من الطراز الأوّل ، مثقف موسوعي ملم بمختلف تمفصلات الثقافة في الجزائر ، وله ذاكرة حديديّة ، إذ يبسط أمامك سجلا حافلا بالمعلومات عن أهم وأبرز النشاطات الثقافيّة في العقود الأربعة الأخيرة بالجزائر ، وهو أحد صانعيها الأساسيين..

ذهبت إلى نواة الانطلاق ( دار علي بن زيد للطباعة والنّشر ) فوجدت محمّد الكامل هناك يوقّع إصداره الجديد ( تجاعيد آسرة )، ووجدت عنده الصّحفيّة المتقدة حيويّة ونشاطا ، خالدة مختار بورجي من جريدة ( وقت الجزائر ) ، وسمعتها تقول له سأذهب إلى الجناح الذي فيه الأستاذة الروائيّة عائشة بنّور ، فقلت لها :

-       هل الأستاذة عائشة توقّع روايتها اليوم ؟ فقد بحثت عنها أمس فلم أجدها .. !

فأجابت أن نعم ، وقالت لي أنّها ستجّل معي حوارا بعد عودتها من الجناح الذي فيه الأستاذة عائشة، فقلت لها : سأذهب معك .. وكان رفقتها مصوّر بارع يعشق فنّ التصوير ، فتجاذبنا ثلاثتنا أطراف حديث شيّق في الطريق ، إلى أن وصلنا إلى جناح عائشة بنّور ، فتلقّتنا بالترحاب وابتسامة عريضة ترتسم على وجهها ، كانت الأستاذة عائشة بنّور نموذجا للزوجة الأديبة التي توافقت موهبتها مع موهبة زوجها ، فزوجها هو الأديب والكاتب المعروف رابح خدّوسي ..

تركتُ الصّحفيّة خالدة مختار تجري حوارها مع الأستاذة الروائيّة عائشة بنّور ، على أن أعود إليها لاحقا ، عدت إلى مقرّنا في دار علي بن زيد ، ولمّا قدّرت أن الحوار قد يكون انتهى رجعت..

كتبت عن رواية عائشة بنّور ( نساء في الجحيم ) كما ذكرت سابقا سلسلة من المقالات لقيت استحسانا كبيرا من المتابعين ، ولمّا زرتها أهدتني راوية أخرى لها في طبعتها الثانية وهي ( اعترافات امرأة) وهي مترجمة إلى الفرنسيّة ، وبعد حديث ثقافي شائق طلبت إلي خالدة أن تبدأ الحوار معي فأجبتها وأثناء الحوار وصل زوج الأستاذة عائشة الأديب الكبير رابح خدّوسي فاكتملت فرحتي بلقاء قطبي الرّحى في ( دار الحضارة للطباعة والنّشر ) ، وهي مؤسّسة ثقافيّة تقوم بجهود عظيمة في نشر الفكر والثقافة ، وإحياء التراث العربي الإسلامي وللأديبين الكريمين جهود لا تنكر أيضا في خدمة أدب الطّفل ..

سألني الأستاذ رابح إن كنت أحضرت معي كتاب ( متن وحاشية ) فارتبكت لأنني كنت أحضرت نسخة واحدة لأهديها للأستاذة عائشة ، ولم أكن أعلم أنني سأجد الأستاذ رابح ، فأخبرته بذلك معتذرا ، فقال بأريحيّة :

-       تكفي نسخة واحدة فنحن لا فرق بيننا ..

قلت ذلك لأنني اعتدت في الإهداء أن أقدّم أكثر من نسخة لأفراد العائلة الواحدة، حتى لا يشعر أيّ طرف بالغبن ، لكنّ الأستاذ رابح خدوسي أزال عنّي الحرج ..

أثناء عودتي من الجناح الذي توقّع فيه الأستاذة عائشة بنور روايتها ؛ التقيت وجها لوجه بالأستاذ الأديب الدّكتور سعيد موفقي، فقلت له وأنا أسلّم عليه :

-       هذه التي يقال لها ( ربّ صدفة خير من ألف ميعاد .. ! ).

ابتسم الدّكتور سعيد وهو يقول لي :

-       فعلا ربّ صدفة خير من ألف ميعاد ..

عرفت سعيد موفقي خلال ملتقى الإتحاف الأدبي الرّابع الذي أقيم ببسكرة منذ حوالي سنتين ، كنت أعرفه من قبل من خلال قصصه ومقالاته النقديّة ، وعرفته في ذلك الملتقى عن قرب ، وأهدى لي مجموعته القصصيّة ( كمثل ظلّه ) ، بكلّ تواضع ومودّة ، وكتبت عنها فيما بعد قراءة نقديّة ، نشرت في عدّة مواقع إلكترونيّة ، كما نشرت في جريدة ( العراق اليوم ) ، وهي ضمن كتاب (متن وحاشية ) الذي أصدرته حديثا ، ولذلك قلت للأستاذ سعيد :

ها هي نسختك وكأنّها تنتظرك ، وحانت منّي التفاتة فرأيت معه فتى صغيرا تبدو عليه مخايل الذّكاء في حيويّة ونشاط ، فسألته إن كان ابنه فأجاب أن نعم.. فأردت ملاطفته وأنا أفتح كتاب ( متن وحاشية ) فقلت:

-       انظر هذا هو اسم أبيك وهذا ما كتبتُه عنه..

ثمّ دعوت الأستاذ سعيد إلى زيّارتنا في جناح دار علي بن زيد للطباعة والنّشر ، لنتحدّث بشكل أطول ، وفعلا لحق بي بعد ذلك بقليل ، وجاء الأستاذ الأخضر رحموني ، وكانت جلسة ثقافيّة رائعة ، وبعد لحظات أهلّ علينا الأستاذ الشاعر مصطفى كبير ، الذي وعدني بأن نلتقي في الصّالون ووفّى ، وكان جاء بالأمس مساءً لكنّه لم يجدني..

تحدّثنا مطوّلا وأخذنا صورا للذّكرى وأهديت ما حضرني من كتبي للأستاذ الشاعر الفحل – بحق – مصطفى كبير ، الذي سبق أن كتبت عنه في سلسلة ( المدرسة الكعبيّة ) ، وبعدها استأذن الأستاذ سعيد موفقي وكذلك مصطفى كبير ، وشعرت أنا أيضا بضرورة العودة إلى الفندق لأنّ التعب قد أخذ منّي حظّه الأوفى ، وأردت القيام فقال لي الأستاذ الأخضر رحموني أنا أيضا لابدّ أن أذهب ، وكان مترددا بين العودة إلى بسكرة وبين المبيت في العاصمة ، غير أنّه لم يكن قد حجز غرفة ،  فقلت له: نبحث لك عن مكان مع أحد الأصدقاء الذين معنا في الفندق ، وفعلا رحّب به الدّكتور الأمين بحري في غرفته، إذ كان وحده بعد مغادرة الأستاذة بلقاسم مسروق ، وكان ذلك من حظ الأستاذ رحموني وحظّي أنا أيضا..

قلت أنّ ذلك من حظي لأنّي سأحظى بصحبة شحرور الزيبان في سمر ليليّ ، فقد زارني في غرفتي وحدّثني طويلا – مستخدما ذاكرته الموسوعيّة – عن عبد الله بوخالفة ، وعن كثير من شؤون الثقافة والأدب ، وقد رأى عندي كتاب ( أسفار الشاعر عبد الله بوخالفة ) ، وأخبرني أنّه لمّا أقيمت ذكرى وفاة وتكريم عبد الله بوخالفة بعنّاية ، ساهم بمعظم مادة المعرض الذي أقيم عنه ، وكاد يضيع ذلك الأرشيف الثمين بعد اغتيال الرئيس المرحوم محمّد بوضياف ، لأنّ المعرض ترك هناك في دار الثقافة لفترة من الزمن ، وتلك المادة هي التي صارت فيما بعد نواة الكتاب.

جولة الختام ( اليوم الثالث )..

قبل أن نُسلم أجسامنا إلى مضاجعها في تلك اللّيلة ، التي كانت ليلة أوّل نوفمبر ؛ أخبرني المهندس الأخضر رحموني ، أنّه ستكون احتفالات ضخمة قريبة من النزل وأنّ البحريّة سترسل طلقات مدافعها مدويّة عند السّاعة صفر ، احتفاء بالمناسبة ، وذلك ما حدث فعلا واستفزّ المشهد ابني أسامة فراح يصوّر من خلال النّاقذة المشهد الجميل ..

في الصّباح بعد جولة سريعة في منطقة ساحة الشهداء وكورنيش البحر ؛ ذهبنا مرّة أخرى إلى الصّالون  وفوجئنا بأنّ المواصلات الحكوميّة مجّانية في هذا اليوم ، وهذا شيء حسن ، ولكنّ حشود البشر التي تزاحمت على التروماي  والمترو جعلت الحركة شبه مستحيلة ، إلى درجة أنّ التروماي توقّف بنا مرّتين ، وارتفع من صوت من مكبّر داخلي يطمئننا أنّ التوقّف لأسباب تتعلّق بأمن الرّكاب وخمّنت أنّها تخصّ حالة مسار الطروماي..

ووصلنا بعد لأي وكنّا نريد أن نطوف بمزيد من دور النّشر والأجنحة الأخرى التي لم نرها ، وكان بقي لي جناح الأطفال ولابدّ من زيّارته ، رأيت طباعة كتب الطّفل تطورّت بشكل مدهش ، لكنّ الأسعار لا تناسب إلا طبقة محدّدة من أبناء الشعب الجزائري، ولاحظت شيئا ملفتا أيضا بعض الكتّاب والأدباء حُشروا حشرا في جناح الأطفال ليقدّموا كتبهم ، لا أدري هل هو سوء تخطيط ، أم أنّهم اعتبروا كتابا بمستوى ( الأطفال .. !! ).

وعدتُ الشاعرة الأستاذة سليمة ملّيزي أن أهديها كتاب ( متن وحاشية )، ولكن لم أهتدِ إلى مكانها في اليومين الماضيين ، فعزمت أن أجدها في هذا اليوم ..كانت في المبنى الرّئيسي للصّالون ، فذهبت إليها رفقة ( الجنرال ) محمّد الكامل بن زيد ( سمّيته الجنرال منذ أن أصدر روايته الجنرال خلف الله مسعود أو ( الأمعاء الخاوية ) ، وراق له ذلك الاسم ) ، وجدناها تصوّر مع قناة الشروق فآثرنا أن نتجوّل في الصّالون إلى حين أن تَفرُغ من حوارها ، قريبا منها وجدنا الروائي عبد الوهّاب بن منصور فسلّمنا عليه تسليم العابرين ، لم يكن يعرفنا ولذلك لم نطل المكوث عنده، عرّفني  ( الجنرال ) إلى روائي سوري التقيناه في أحد الأروقة غاب عنّي اسمه الآن ، ثمّ عدنا ثانية إلى الأستاذة سليمة ، فرحّبت بنا أيّما ترحيب ، قدّمتُ لها كتابي ( متن وحاشية ) هديّة كما وعدتها ، وقدّمت لي ديوانها الشعري اللّطيف (على حافة القلب ) ، والأديبة سليمة ملّيزي نموذج آخر من نماذج الأديبات المتزوّجات بأدباء أو شعراء ، فزوجها الشاعر المعروف عبد العزيز غرمول ، وكان معروفا بشكل كبير في الثمانينيات والتسعينيّات من القرن الماضي، وكانت زوجته الأديبة سليمة ملّيزي في غاية الحفاوة بنا ، وتبادلنا معنا حوارا عاما حول الثقافة والأدب ، ثمّ ودّعناها مستعجلين لأننا عزمنا على العودة إلى بسكرة ذلك المساء..

قبل خروجنا من المركز الرئيسي للصالون عرّج بي ( الجنرال ) إلى جناح المجلس الأعلى للغة العربيّة ، فطلبنا من المشرفة أن تعطينا نسخا من مجلّة المجلس ، فتكرّمت وأعطت لكلّ واحد منّا ثلاث نسخ، وكنت حصلت أيضا على نسختين من مجلّة المجمع الجزائري للغة العربيّة ، فجمعت حينها بين الحسنيين ، مجلّة المجمع ومجلّة المجلس ، وكانتا توزّعان مجانا لكن لأهل الاختصاص فقط. 

ونحن نغادر الصّالون الدّولي للكتاب الطبعة الواحدة والعشرون ، استوقفنا في ساحته صوت ينادي عليّ من بعيد ، فالتفت فإذا هو شاب طويل القامة مشرق القسمات ، يقول لي :

-       أما عرفتني أستاذ عبد الله ..؟

استغرق الأمر منّي ثوانِ قليلة لأقوم بتحميض الصورة التي في ذهني ، فقلت له وأنا أسلّم عليه:

-       بلى .. رؤوف ..

-       فأضاف هو : ابن الجودي..

فأضفت : أهلا بالصّحفي المشاغب .. !

لقد عرفته إنّه رؤوف بن الجودي العاصمي الألمعي ، صاحب مجلّة ( الخريدة ) الإلكترونيّة ، وهي خريدة بالفعل ، استطاع أن يجمّع فيها نخبّة من الكتّاب والمبدعين الذين استجابوا لدعوته ونشروا نتاجاتهم الأدبيّة أو الفكريّة في تلك المجلّة..

كان شابا مهذّبا للغاية ، أسفتُ على أنّي لم ألقه إلّا في لحظات المغادرة ، هو كاتب ومبدع – لولا بعض السّخط الذي يبدو في كتاباته أحيانا ولعلّه من لوازم الموهبة التي تكون عند بعض المبدعين – متمكن من ناصية الأدب ، وأرى له مستقبلا حافلا بلا شك إن واصل على هذا النّهج من الحيويّة الدافقة والنشاط الدّؤوب.. !

أخذنا صورا للذكرى ثمّ غادرنا متحسّرين على أيّام السعد التي انقضت ، وظننا أنّ فعّاليات الصّالون وما فيها من تفاعل ثقافي قد انتهت ، ولكنّ الطريق كان يخبئ لنا المزيد ونحن لا ندري .. ! 

جلسة البرج السّاحرة وكتاب ( أهل المغارة )

خرجنا من باحة الصّالون على أقدامنا متجهين إلى السيّارة التي ركنها السّائق في مكان بعيد نوعا ما ، بسبب الزّحام وصعوبة العثور على مكان قريب جدّا في محيط الصّالون ، وجاء السّائق ليقلّنا من نقطة مفترق الطرق ، لكن في تلك اللحظة هاتف صديقَنا محمّد الكامل صاحبُ مطبعة من تيزو وزّو ، يخبره أنّه جاء إلى الصّالون ويريد لقياه ، فذهب إليه غير بعيد عنّا ، وظلا يتحدّثان ما يقارب نصف السّاعة ، ثم عاد رفقته ، وأراد السّلام والتعرّف إلينا..

كان ذلك الصّديق ( القبائلي ) رجلا مهذّبا في قمّة الأخلاق والمروءة ، أذكر مما قاله لنا:

-       إذا كنتم ( افْحولة ) حقّا ، فهيّوا معي إلى تيزو وزوا تبيتون هناك الليلة ونضيّفكم ، ثمّ تواصلون سفركم في الصّباح ..

أسرنا بكرمه هذا ..لكن لم يكن هناك مجال لتلبية الدّعوة ، ففي الصّباح لابدّ أن نلتحق بأعمالنا، وإلا فإننا كنّا مشتاقين للتعرّف على تيزو وزو والتقرّب من أهلها الأماجد ..

انطلقت بنا السيّارة تنهب الطريق نهبا غير رفيق ، لم أعتده من قبل ، غير أنّي اطمأننتُ إلى السائق البارع سمير ، الذي يحفظ الطريق عن ظهر قلب ويعرف مسالكه ودروبه ، وبعدما أشرفنا على مداخل مدينة البويرة توقفنا عند إحدى محطّات البنزين للتزوّد بالوقود ، وأداء صلاة المغرب ..

ثمّ استأنفنا طريقنا ..قدم لي محمّد الكامل حصيلة مقتنياته من الكتب التي اقتنصها من المعرض ، كانت أغلبها روايات لكتّاب كبار محلّيين وعالميين ، ومنها بعض الكتب التي اختارها خصيصا للأستاذ فوزي مصمودي ، رئيس الجمعيّة الخلدونيّة السابق ومدير المجاهدين ببشار حاليا ، كانت في اللغة والتاريخ .. بعض الروايات التي تصفحتُها وجدتني أغوص فيها دون شعور منّي ، ثمّ وجدت أنّ الظلام قد أرخى سدوله على الكون ، واستحالت عليّ القراءة فطويت ما كان بين يدي من كتب..

وَرَدَت مكالمة هاتفيّة إلى ( الجنرال ) فهمت من خلال ردّه على المتكلّم في الطرف الآخر من الهاتف أنّ هناك محطّة أخرى عند برج بوعريريج لابدّ أن نتوقّف عندها ، وظننت أنه سيكون لقاء عابرا نسلّم فيه بعض الكتب لأصحابها ، ثمّ نواصل طريقنا نحو بسكرة ..

ولكنّ الأمر اختلف تماما ، ففي البرج وجدنا جماعة من الكتاب والأدباء المعروفين في انتظارنا، عرفت منهم القاص عيسى بن محمود والكاتب الأكاديمي محمّد الصّديق باغورة وغيرهما ، استقبلونا بترحاب كبير ، لم أكن أعرف الموضوع بالضّبط ولم أسأل محمّد الكامل ( الجنارل ) عن ذلك ، ظننته طبع كتابا للقاص عيسى بن محمود وسيسلمه إيّاه ، لكن لمّا دعانا الجماعة إلى الجلوس حول طاولة خشبيّة ملفتة في شكلها التقليدي ، بدأ الأمر يتضح لي شيئا فشيئا..

الكتاب الذي أراد أن يسلّمه الجنرال لجماعة أدباء البرج هو المجموعة القصصيّة للكاتبة والقاصّة السوريّة المعروفة فاديا عيسى قراجة ، كانت المجموعة بعنوان ( أهل المغارة ) ، طبعت بمبادرة من هؤلاء الكتّاب ( الفدائيون ) ، عربون محبّة ووفاء للشعب السوري ووقوفا معه في محنته ، ولذلك بعد أخذ وردّ أنبأونا أنّ عائدات هذه المجموعة القصصيّة ستكون لصالح الأطفال السوريين في الجزائر ، اهتزّت نفسي لهذه الأريحيّة الكبيرة ، وشعرت بالفخر الكبير ، إنّ هناك رجالا أوفياء وكتابا على مستوى عال من الوعي والشعور بالانتماء إلى الوطن العربي الإسلامي ..

وما زاد الموقف حرارة والعاطفة تأججا هو ظهور شاب كان يراقب حوارنا عن كثب ، فسأل في لطف:

-       هل هذا الكتاب موجود في البرج ، فردّ عليه أحد الأستاذة من البرج :

-       سيكون من متاحا بمكتبات البرج خلال أيّام ..

ثمّ مدّ إليه بنسخة من الكتاب وهو يقول:

-       سيباع وتكون مداخيله لصالح الأطفال السوريين في الجزائر ، ولك منّا نسخة هديّة..

فأشرق وجه الرّجل وهو يستلم نسخة الكتاب ثمّ يخرج من جيبه ورقة نقديّة بقيمة 500 دج ويقول:

-       وهذه مساهمة منّي لأطفال سوريا..

كان الموقف مفعما بالحماسة ومؤثرا للغاية ، وكأنّه أوّل الفتح ..

دار في جلسة البرج – التي دامت أكثر من ساعة - حوار ثقافيّ ثريّ جدا وتعرّفنا من خلاله على عدد من الكتّاب والمبدعين ذوي أرواح شفيفة ونفوس شهمة ، كان لقاء وكأنّه على هامش الصّالون الدّولي للكتاب ومنه عدنا إلى بسكرة بخاتمة المسك .. 

clip_image002_c154e.jpg

clip_image004_1b2ed.jpg

clip_image006_c4ec6.jpg

clip_image008_c872f.jpg

مرة أخرى أعود لزهرة الشمال في الأردن الجميل خلال فترة لم تتجاوز الأسبوع، فبعد رحلة استكشافية للأمكنة وبوحها وجمالها استمرت ثلاثة أيام متواصلة برفقة زوجتي، كنا نتجه سويا بعد ايام لم تتجاوز الأسبوع باتجاه الشمال لنحلق في مدارات الروح والفن التشكيلي، فزهرة الشمال اربد بألويتها المتعددة وريفها النقي تزخر بالجمال الطبيعي من جهة، وتراثها التاريخي وآثارها التي تروي الحكايات من جهة أخرى، وكان الفن التشكيلي اضافة تكمل أضلاع المثلث، فتجعل من اربد بوصلة للتحليق في فضاءات الفن والجمال.

 الفنانة التشكيلية ميساء عبد الله المشني وجهت لنا الدعوة حين التقيناها في آخر جولتنا الشمالية، وعدناها أن نحضر ونشاركها الفرح ان شاء الله لنا ذلك، وقبل الموعد بساعتين كنا نتجه شمالا حتى أطللنا على اربد، ومن مدخلها واصلنا المسير الى مكان المعرض في بيت عرار شاعر الأردن المتميز "مصطفى وهبي التل" حيث يرقد رفاته في ضريح في صدر باحة البيت التراثي الجميل، والذي كان منزل والده ونقل رفاته اليه بقرار من شقيقاته اللواتي قررن أن يكون البيت الذي آل لهن وقفا لتخليد ذكرى الشاعر، وتم نقل رفاته اليه في 31 آذار للعام 1989 ليصبح المكان مركزا فنيا وثقافيا تحلق في فضاءه روح الشاعر مبتسمة.

 وصلنا المعرض وشعرت بهيبة المكان وشعرت بروح الشاعر عرار ترحب بي وأنا الذي عشقت شعره منذ الطفولة وما زلت أحفظ منه الكثير، لأدخل من البوابة وأواجه على يميني شجرة متميزة بجذعها الملتف بطريقة غريبة، ولأبدأ التجوال في الباحة في فضاء المعرض، فكانت البداية مع لوحات الفنانة ميساء حسب تنسيق المعرض من يمين الداخل، حتى انتقلت بعدها للتجوال في فضاءات الفنان محمد ذينات.

 ميساء عبد الله المشني لها بصمة خاصة في لوحاتها ومنذ اللحظة الأولى يشعر المشاهد كم أن الفنانة مرتبطة بقوة بالوطن فلسطين، وأيضا يشعر بحجم التأثر بروح الفنان اسماعيل شموط، والذي لا تخفي الفنانة تأثرها الكبير به وتعتبره استاذها وملهمها، وهذا يظهر واضحا في لوحاتها الأولى، وإن بدأت بالتحليق والخروج من هذا الاطار وبدأت بوضع بصمة خاصة للوحاتها من خلال روحها في لوحاتها الأخيرة، مثل لوحة مقاومة ولوحة بلا دموع، وسأتحدث عن أنموذجين من لوحاتها وهي أولا لوحة: "الشهيد"، وتميزت لوحتها "الشهيد" بشكل خاص في المعرض وشدت انتباه الحضور المكثف يوم الافتتاح، وفي هذه اللوحة التي تروي حكاية الشعب الفلسطيني نرى مشهد للشهيد مسجى بكفن أخضر وهذا يلفت النظر فالعادة أن يلف الكفن للشهيد بالعلم الفلسطيني، وفي ظل بروز اتجاهات وقوى سياسية خارج اطار م ت ف، بدأ الخروج عن التقليد ولف أكفان جثامين الشهداء برايات فصائلية خضراء أو سوداء، وتحيط النساء بالجثمان بملابس شعبية وتراثية وإن خلت من التطريز الفلسطيني الكنعاني الرموز، وهذا الزي ينتشر في بعض البلدات حيث الألوان الزاهية بدون التطريز المعتاد وغطاء الرأس الابيض، بصمت وبدون صراخ اما احتراما للشهيد أو تجمد الدموع من حجم الشهداء، والأطفال يحيطون بهن وكأنها اشارة رمزية أن الأجيال تتوالد ويأتي من يواصل المسيرة وهذا ما نشاهده بمشهد أطفال يحملون جسدا ربما اصيب أو استشهد بمواجهة معتادة مع الاحتلال، وامرأة تحمل على رأسها وعاء القش التراثي ممتلىء بالأزهر التي ترش على جثامين الشهداء، والأطفال يحيطون بالنساء، وفي أفق اللوحة مجموعة من الجنازات حيث تظهر مجموعة من النعوش يحملها الرجال على اكتافهم متجهين بها للدفن، والملاحظ أن حجمها أكبر من المعتاد وكأنه اشارة رمزية أن قيمة الشهيد وكرامته كبيرة جدا، وفي يسار اللوحة (بالنسبة للمشاهد) نجد الخيام التي رمزت للمخيمات الفلسطينية مرتين، إثر نكبة 1948 ونكسة 1967، اضافة لموجات المخيمات الطارئة التي يكون فيها الفلسطينيون هم من يدفع ثمن الصراعات التي لا ناقة لهم بها ولا بعير، وفي أفق اللوحة نرى النيران مشتعلة بقوة حتى أن لون السماء كان كتلة من النيران وكأنها اشارة لثورة تشتعل حتى تبلغ عنان السماء، ومن يتأمل اللوحة جيدا يجد حجم التاثر بلوحة العشاء الأخير (في تسجية الشهيد) والنساء من حوله، ولوحات اسماعيل شموط، ولكن بعيدا عن الاستنساخ والنقل.

 اللوحة الثانية "بلا دموع" وهي أحدث لوحات الفنانة وتمثل مرحلة جديدة ببصمة خاصة للفنانة، فهي تمثل امرأة تصرخ بقوة ولكن بدون دموع ولا بكاء، هي صرخة الثورة في وجه الظلم، والفنانة في هذه اللوحة لجأت الى تقاسيم وملامح الوجه بإتقان وإن منحتها حدة في الملامح، وهذا ما يظهر بوضوح في كافة أجزاء الوجه، والمرأة التي تصرخ تضع المنديل على رأسها ولكنها تتركه مسدولا وليس مشدودا ليخفي الشعر، وهذه اشارة لصرخة في وجه ظروف اجتماعية تقيد المرأة من خلال عادات وتقاليد، وخلفية اللوحة مشوبة بألوان الفجر كإشارة رمزية أنه لا بد من اشراقة الفجر والحرية، واللوحتين بالزيت وقد تمكنت الفنانة من التعامل مع الالوان الزيتية باحترافية عالية بدون أية تشويهات أو انسيابات مغفلة وبكرم لوني لم يترك أية فراغات أو بخل باي زاوية من زوايا اللوحات.

 الفنان محمد ذينات تميز بثلاثة أساليب في ابداعاته وهي: المكان والتراث، الطبيعة بين البحر الهائج في لوحة وذئب في لوحة أخرى، وباقي اللوحات مشاهد للطبيعة بألوان فرحة وجميلة، لوحات انطباعية (كلاسيك) كلها من فواكه وورود، وفي لوحات المكان والتراث برزت لوحتين بشكل خاص، الأولى لفتاة شابة تصب القهوة العربية (السادة) والمستخدمة في الأردن في الفرح والترح، وواضح من ابتسامة الفتاة الشابة أنها تصب القهوة في الفرح، وقد مازج الفنان التراث بشكل لافت للنظر مع الفتاة، فهي ترتدي الثوب التقليدي المستخدم في مناطق شمال الأردن، وأيضا التراث القديم على وجهها، فعلى ذقنها وأعلى الخد الوشم الأخضر مما يذكر بعادة كانت منتشرة بين الجدات وإن كانت انقرضت الآن تقريبا، وتلف كتفيها بالكوفية الحمراء (الشماغ) والمستخدمة بمناطق الاردن بشكل عام، وتحمل (دلة القهوة) النحاسية والفنجان المزركش، والملفت للنظر مخالفة طريقة صب القهوة للعادات المستخدمة، فالفتاة تحمل الفنجان باليد اليسرى والدلة في اليمنى، وهذا مخالف للعادات والتقاليد المستخدمة في صب القهوة.

 اللوحة الثانية التي لفتت نظري تصور مباني تراثية مبنية بالحجارة السوداء (البازلتية) والبيضاء، وهذا يتكرر في لوحتين، وهذا النمط من البناء منتشر في اربد التراثية والعديد من البلدات في المحافظة وخاصة بيوتات بلدة أم قيس التراثية والأثرية، وفي هذه اللوحة كان البيت التراثي على يسار اللوحة بالنسبة للمشاهد من الحجارة السوداء البازلتية، بينما البيت مقابله من الحجارة البيضاء، والبيوت في آخر اللوحة تمازج النمطين بجو ريفي جميل، بينما باقي اللوحات كانت لأدوات تراثية ولوحة تقليدية لخزنة البتراء. وقد استخدم الفنان الألوان الزيتية والأكليرك اضافة لألوان الباستيل الناعم باحترافية متميزة تظهر قدرته التقنية على استخدام اللون وضربات الفرشاة القوية والناعمة والمتقنة بكل الحالات المستخدمة.

 الفنانة ميساء عبدالله المشني من مواليد اربد عام 1980، ونالت الماجستير في الفنون التشكيلية من جامعة اليرموك عام 2013 بتقدير امتياز، ودرجة البكالويوس من نفس الجامعة بترتيب اول قسم التشكيلي لعام 2004 وتعمل مدرسة فنون في مدرسة حكومية، وشاركت في عدة معارض شخصية وجماعية محلية وعربية، وأنجزت ثلاثة معارض شخصية، وهي رئيس جمعية همم للفنون التشكيلية.

 الفنان محمد كامل الذينات، فنان تشكيلي من قرية جمحا من قرى اربد، درس الفن التشكيلي في جامعة اليرموك وحصل على البكالوريوس سنة 2002 ثم الماجستير، وشارك الفنان في العديد من المعارض الفنية المحلية والعربية، وأنجز عدة معارض شخصية ويعمل مدرسا للفن أيضا.

 المعرض بشكل عام كان معرضا جيدا وموفقا سواء من حيث المكان الذي ارتبط بالتاريخ والتراث، أو من حيث اللوحات بموضوعاتها وتعابيرها لدى الفنانة والفنان، أو من حيث حجم ومستوى الحضور، فقد كان عدد الحضور متميزا ولم يتوقف طوال ساعات من لحظة الافتتاح الذي رعاه مدير مديرية ثقافة محافظة اربد د. سلطان الزغول وطوال ايام المعرض الثلاثة.

clip_image002_4791e.jpg

 

clip_image004_a508e.jpg

كلما زار صاحب الأسطر الباهية البهية وهران ، إلا وألهمته بمقال يستحضر ماعاشه ، ويذكّر به غيره..

كانت الزيارة هذه المرة لأجل العودة النهائية بأكبر الأبناء وليد من الإقامة الجامعية المتطوع بوهران.

أخذنا قسطا من الراحة رفقة أم الأولاد وأصغر الأبناء أكرم وملاك، حيث تناولت العائلة الفطور ثم القهوة رفقة زميل الغرفة لؤي.

كانت لي وجهة واحدة ووحيدة أحببت أن أصل إليها وهي المسجد الكبير ابن باديس، فركبنا القطار الكهربائي المتجه من محطة الإقامة الجامعية المتطوع.

القطار الكهربائي ينظم الطريق حين يقسمها إلى قسمين ويجعلها في إتجاه واحد، ويجنبها فوضى المسير وكارثة الاكتظاظ والانتظار. فهو يمثل ثقافة إحترام الوقت، والانتظام، وآداب الصعود والنزول.

أثناء الذهاب ركب رجل مقعد في الكرسي المتحرك رفقة زوجته كما يبدو، وفي العودة ركبت بنت صغيرة مقعدة في الكرسي المتحرك رفقة أمها كما يبدو. أقول لعائلتي..

إحمدوا الله على نعمة العافية والصحة التي رزقتموها، وإسألوا الله أن يديم على عباده مايقربهم إليه ويديم طاعتهم له، بفضل ما رزقهم ووهبهم .

نحن الآن في محطة المسجد الكبير ابن باديس. مساحة كبيرة جدا يتربع عليها المسجد، وصومعة تعانق السماء في عليائها وشموخها، وبجوار المسجد الكبير مقر السونطراك. فالجزائر التي تنعم بخيرات باطن الأرض، هي نفسها التي تتشكر ربها عبر المآذن والمنابر.

تتقدم العائلة لدخول المسجد، إذ بمجموعة من الأطفال الصغار تتقدمهم معلمتهم ويخرجون من المسجد بعد إنتهائهم من الزيارة . ومن الملاحظات التي إسترعت الانتباه..

طفل يحمل علم المملكة السعودية ويلبس لباسهم مثله في ذلك مثل بعض زملائه الذين يلبسون لباس المملكة. أقول للمعلمة: هل هؤلاء أطفال المملكة العربية السعودية؟. تجيب: لا، إنهم جزائريون. أسأل: ولماذا يحمل علم المملكة؟. تجيب: علم المملكة السعودية يمثل الإسلام. حينها لم أتمالك نفسي، وأرفع من نبرة صوتي، قائلا.. وهل علم الجزائر يحمل الكفر !؟، إنه يمثل الفطرة في أسمى معانيها، شأنه في ذلك شأن جميع أعلام الدول العربية.

لسنا ضد أن يحمل المرء علم دولة أخرى أو يلبس لباس دولة أخرى، فهذا متداول بين المجتمعات والدول في المناسبات الخاصة وفي غير المناسبات. لكن مالا يمكن قبوله أن يتخلى المرء عن رموز مجتمعه  كالعلم واللباس، ويتشبث برموز مجتمعات أخرى، بزعم أنها أكثر تدينا وأقرب إلى الله من مجتمعه ورموزه.

واصلت العائلة زيارة المسجد.. نظافة تعم أرجاء المسجد، وساحة كبيرة نظيفة إمتازت بكون بلاطها المميز غير متماسك بالإسمنت عمدا. وحين سألت القائمين على المسجد، أخبروني أنها طريقة عصرية حتى لا تتراكم مياه الأمطار ومياه الغسل والتنظيف فتكون بركا وأوساخا. وفعلا رغم كبر مساحة المسجد إلا أنها نظيفة جدا.

الداخل للمسجد يضع حذاءه في الرف المخصص للأحذية، بحيث وزعت الرفوف العديدة المتناثرة عبر المسجد بشكل فردي، أي كل حذاء في المساحة المخصصة له. ما يساعد على النظام والانتظام ويجنب رواد المسجد الفوضى المعهودة ، والتي ما زالت إلى اليوم بسبب فوضى وضع الأحذية.

دورات المياه في الأسفل ، إمتازت بوفرة المياه ونظافة المكان وسهولة الدخول إليها. عدد من عمال النظافة والأمن يوجهون ويراقبون الداخل والخارج. ومساحة المسجد الكبيرة، تحتاج بدورها إلى عدد كبير ومؤهل من العمال  وكل في تخصصه، ويتطلب أيضا حرصا من رواد المسجد على النظافة ، والأمن، والانتظام، فالمساجد بروادها.

صليت الظهر والعصر قصرا داخل المسجد.. فراش جديد جميل، ورائحة زكية، وأضواء كثيرة، ومنبر بني بالرخام يحتوي على درج كما هو معهود لدى المساجد الجزائرية التي ما زالت محافظة على أصالتها ، ومحراب صغير جميل، وكرسي لإلقاء الدروس، ورفوف صغيرة متناثرة عبر زوايا المسجد تحمل مصاحف القرآن الكريم، تفقدت عددا لابأس به من الرفوف، فوجدت كل المصاحف بقراءة سيّدنا ورش عن نافع، وهذه ميزة تحمد للقائمين على المسجد الكبير. توسط المسجد مصباح ضخم جدا زاد المسجد جمالا وبهاء.

إنتهت زيارة المسجد الكبير ابن باديس بالبهية الباهية وهران، دخلنا بعدها للمكتبة في الحوانيت التابعة للمسجد. وكانت مكتبة عامرة بالجديد، وقد نخصص لها زيارة خاصة حين تتاح الفرصة.

 رجعت العائلة عبر نفس القطار الكهربائي، حيث أنهيت قراءة كتاب "الدجاجة الحمراء" الذي إشتريته لملاك وشمس الدين، وحين لاحظا سهولة سرعة القراءة وقد تعمدت ذلك، طلبا مني أن أمرر القصة لكل منهما . وفعلا أنهيا قراءة الكتاب ونحن في القطار، وهذا الذي كنت أرمي إليه والحمد لله على نعمة القراءة.

أخذنا السيارة التي تركتها في الساحة الخارجية للإقامة المتطوع بجامعة وهران، سائلين المولى أن يحفظ الباهية البهية وهران.

clip_image002_fa5dc.jpg

clip_image004_b0b3a.jpg

clip_image006_f5db2.jpg 

   رغم مرور الساعات ونحن نتجول في ربوع الحصن، أستمع من الحجارة والأمكنة التراثية والأثرية بوحها الجميل تارة، وشكواها من الإهمال والنكران والهجرة تارة أخرى، متجهين إلى العديد من البيوت التراثية أو ما تبقى منها من أطلال، مارين بمضافة آل النصيرات حتى وصلنا إلى بيت يعود بأصوله إلى آل غنما، مقام على مساحة أرض واسعة وبستان جميل، وهو بيت متميز ببوابته الكبيرة على النظام التراثي، ولكن هذه البوابة تميزت بأنها كانت على شكل بوابة داخل بوابة، وبوابتها خشبية تراثية متميزة وبها (خويخة)؛ بوابة صغيرة داخل البوابة الكبيرة لدخول أهل البيت، وعادة تكون مرتفعة عن الأرض وحجمها صغير نسبياً، فهي كانت تعتبر وسيلة دفاعية إن حاول أحد اقتحام البيت منها والبوابة الكبرى مغلقة،  وهذه (الخويخات) كانت سبيلنا للدخول لأكثر من بيت مهجور، ولكن بوابته الخارجية ما زالت موجودة، وعلى أعلى البوابة يوجد نقش لأربع أبيات من الشعر التي تشيد بآل غنما وكرمهم، والدالة على الموقع الاجتماعي لأصحاب البيت، إضافة إلى نقش على الحجر المتوسط في أعلى القوس الحجري للمدخل، وهذا النقش يدل على موقع أصحاب البيت الاجتماعي، وهذا البيت المتميز كان به (عِلية) لاستقبال الضيوف، وفي ثلاثينيات القرن الماضي استضاف بريطانيين باحثين في علم الآثار.

   وأثناء تجوالنا مررنا على العديد من البيوت التراثية، والتي وجدت على أبوابها يافطات حجرية منقوشة تشير إلى تاريخ البناء، وبعضها قارب المائة عام، وبعضها زاد عن ذلك، ورأيت بقايا عقود لا تزال أقواسها وعقودها قائمة رغم انهيار المباني وتهدمها، والعديد من بقايا البيوتات التي رأيتها تدل من نمط البناء على موقع متقدم لمن أنشأوها، فمن بقايا الأقواس والأدراج ونوعية الحجارة ومساحات البناء وبقايا الأسوار والمساحات المحيطة بها، كانت الدلالات على أصحابها، بينما شاهدت بيوتات أو بقايا بيوتات كانت بين بيوتات متوسطة وبسيطة بنمط البناء، وحقيقة لو كان الوقت يسمح لاستمعت لحكاية كل بيت من هذه البيوت ورويت حكاياتها التي تبوح بها، لكن تاريخ وتراث الحصن مشترك بين أهلها، فأشرت بمقالاتي إلى هذه المعالم البارزة التي جلتها في الحصن بدون انتقاص من حكايات همستها بيوت وأزقة وحجارة أينما تجولنا.

  وما أن أنهيت مع مضيفيني، السيد محمد حتاملة (أبو حسين) وابنته الفنانة التشكيلية المتميزة بأفكارها وفنها رنا حتاملة، التجوال في دروب الحصن وعبقها التراثي والتاريخي، اتجهنا إلى مسجد الشهيد صدام حسين، والذي تبرع بتكاليفه كاملة الرئيس العراقي، حيث تبرع بمبلغ ثمانون ألف دينار، وبعد استشهاده قام أهل الحصن بإضافة كلمة شهيد لاسم المسجد، وحسبما أعلمني بعض الأصدقاء أن هذه الخطوة قام بها أهل الحصن بعد محاولات لتغيير اسم المسجد بعد سقوط العراق تحت الاحتلال الأمريكي وبعد إعدام (أبو عدي). والمسجد قائم على مساحة جيدة، ويمتاز بمئذنة جميلة ومرتفعة جداً، وبقبابه البيضاء، ونمط التصميم الجميل للنوافذ والأبواب والديكورات الداخلية، وهو واقع على الشارع الرئيس الواصل باتجاه إربد.

 كان الوقت يداهمنا، فكان لا بد من جولة سريعة ابتدائية بأديرة الحصن، فتجولت في ثلاثة أديرة بسرعة في الساحات الخارجية، كي أكون الفكرة الابتدائية استعداداً لزيارة أخرى، وفي جولتي الثانية كان يرافقني صديق الدراسة باسل النمري (أبو شجاع) والعزيز محمد الحتاملة (أبو حسين)، وكان العزيز باسل قد أجرى اتصالاته مسبقاً مع المشرفين على هذه الأديرة حتى يتم فتح أبوابها لزيارتي، ولأتمكن من التجوال فيها، وتوثيقها بالعدسة والقلم، فاتجهنا من بيته بعد اللقاء الأول بيننا بعد أربعين عاماً لم نلتق فيها، وبعد جلسة لطيفة استعدنا فيها ذاكرة الزمن الجميل أثناء دراستنا في جامعة بغداد مع فناجين القهوة، لنتجه مباشرة إلى كنيسة الروم الأرثوذكس (جارجيوس) وهو اسم سيدنا الخضر (عليه السلام)، وبمجرد وصولنا استقبلنا حارس الدير، فتجولنا في ساحاته الخارجية، ومررنا بمقبرة الآباء الذين خدموا في هذا الدير التاريخي، وشاهدت الغرفة التي أصبحت الآن مكتب الكنيسة، والتي درس فيها صديقي باسل النمري في طفولته، كما درس بها الآباء والأجداد، وكل زاوية في الساحات الخارجية كانت تروي حكايات من مروا ومن رحلوا. وبعدها فتح لنا الحارس أبواب الدير لنتجول بحرية كاملة في كل أجزائه، فوجدت أيقونات تاريخية غاية في الجمال ولوحات فنية إبداعية، إضافة إلى لوحات لفنانين عالميين تصور القديسين وسيدنا المسيح (عليه السلام) وسيدتنا العذارء مريم، ومنهم فنان إيطالي اعتكف بالدير عدة سنوات حتى أنجز عملاً متميزاً بالجمال، وكما في كل أديرة الروم الأرثوذكس التي تجولت فيها ووثقتها بعدستي وقلمي، سواء في فلسطين أو الأردن أو سوريا أولبنان، وجدت جماليات خاصة، وأجواء روحانية متميزة.

   أنهينا الجولة الداخلية، وخرجنا نجول الساحة الخلفية بانتظار وصول الأب سمعان ليفتح لنا بوابات متحف الدير، وحين وصل سلم علينا بابتسامة مشرقة واستقبلنا في المتحف خير استقبال، وبعد الترحاب أجاب عن بعض استفسارتي وأعطاني الكثير من المعلومات، حيث أن  دير جاورجيوس في الحصن أقدم أديرة الأردن للروم الأرثوذكس، ويعود بفترة البناء الى العام 1886، وحسبما تحدث الأب سمعان فالكنيسة الحالية مقامة على آثار كنيسة تعود للفترة الرومانية وجدت آثارها تحت الكنيسة الحالية، وهناك معلومات غير موثقة تشير إلى أن أصل الكنيسة السابقة يعود للقرن الأول الميلادي، وبالتالي تعتبر أقدم أديرة وكنائس منطقة   أبيلا بعد خراب بيت المقدس، والكنيسة مبنية كما كل الأديرة القديمة على نظام العقود المتصالبة، وحسب رواية أحد كبار السن فحجارة الكنيسة أتت من غزة في فلسطين.

   وهذا الدير ارتبط باسم الأب عيد جوينات، والذي عاش بين 1820 إلى 1927، وكما تحدث لنا الأب سمعان أنه كان له نوع من القداسة، ووردت عنه حكايات كثيرة حتى أن البطريرك حين سمع عن كراماته شك بها واستدعاه، فعلق الأب عيد جبته على خيط الشمس، فآمن البطريرك بقداسته وأقر بها، وكان الناس يتوجهون إليه للعلاج والبركة. وروي عنه أنه ذهب ليطحن القمح، ولم يهتم به أصحاب المطحنة ولم يعطوه أولوية، فتوقفت المطحنة عن العمل، وأن لصوصاً حاولوا سرقة الماشية من عنده، وكلما دخلوا الحظيرة اختفت المواشي عن أعينهم، وحين خروجهم تظهر لهم من جديد.

   في متحف الكنيسة شاهدت الجرس الأول للدير، وقد صنع في العام 1885، لكنه تعرض للكسر عبر الزمن فجرى استبداله، اضافة إلى جرن المعمودية الأول، والذي قال عنه صديقي باسل النمري وهو يشير إليه: "هذا الجرن الذي تعمدت به، أليس أجمل من الحالي بكثير؟!"، فضحكنا بمرح. ورأيت قطع تعود للعديد من الآباء الذين مروا على الدير، وأجراس ومحابر وصور ومفاتيح ومباخر وقطع فضية وكتب قديمة وتراث يصعب حصره الآن، وإن كان من المؤسف أنه لم يتم الاحتفاظ بالباب الخشبي التاريخي للدير في المتحف بعد أن تم استبداله، فشكرت الأب سمعان على حسن استقباله وجمال أحاديثه، لنغادر الدير متجهين إلى مبنى الكاريتاس، وكان أقدم دير للراهبات وأقدم مدرسة لطائفة اللاتين، ومن هناك كنا نتجه إلى دير اللاتين.

   في دير اللاتين استقبلتنا راهبة بكل الترحاب، ثم حضر الأخ أيمن النمري وفتح لنا أبواب الدير لنتجول برفقته فيه، وهو كما أديرة اللاتين مبني على النظام القوطي، وقد تأسس في العام 1891م، وفي الداخل كانت هناك قاعات رئيسة مبنية على نظام العقود المتصالبة وبجوارها قاعات قائمة على نظام العقود النصف برميلية، وفيها مجموعة جيدة من الأيقونات واللوحات الفنية المتميزة، ولفت نظري بشكل خاص مجموعة من الصور القديمة، والتي تروي حكاية الحصن، وهي ثروة حقيقية حافظت الكنيسة عليها، ولكن بكل أسف كان الأب غير موجود كي يفيدني بمعلومات عن تاريخ الدير ومن أشرف على بنائه، فتجولنا في كل القاعات وأماكن الصلاة والساحات الأمامية والخلفية، وطوال الوقت كانت عدستي لا تتوقف عن التقاط الصور وتوثيق بوح الأمكنة بالعدسة، وغادرنا الدير على أمل أن أتمكن في زيارة أخرى من لقاء الأب وتوثيق الدير بمعلومات أشمل، لنغادر الدير مودعين بالحفاوة نفسها التي جرى استقبالنا بها لنكمل جولة لمناطق وبيوتات تراثية لم أرها في جولتي الأولى، وأنا على قناعة أكبر أنه يجب على مؤسسة إعمار الحصن، والتي يرأسها الآن الصديق الدكتور مازن مرجي، أن تعمل بالتعاون مع متحف الحصن التراثي والأديرة والسكان، على إقامة متحف كبير يضم آثار وتاريخ الحصن وتراثه بالتعاون مع وزارة السياحة والآثار والجهات المعنية، وأن لا يبقى هذا التاريخ متناثراً، وهذا ما سيكون استكمال الحديث في الحلقة الخامسة إن شاء الله.

   في هذا الصباح ورغم النسمات الحارة مع موجة الحر التي تجتاح المنطقة، أحتسي قهوتي وأستذكر من على الشرفة في مقري المؤقت في رام الله التي وصلتها وولدي المعز وزوجتي الرائعة ختام للمشاركة بخطوبة مصطفى ابن شقيقي جهاد، أستذكر زيارتي للحصن، وأكتب مع شدو فيروز وفنجان القهوة وهي تشدو، وأشعر الحصن من خلالها تهمس لي: " ترمي إلي سؤالها أترى؟ تدرين من حبي ومن جرحا، لقياه لي كانت على طلل؛ صخر به من أهلي الصرحا، وشغاف عمان تطالعنا؛ قلت البطولة وهجها لفحا، وتزيد سمح هوى حبيبي ما استعلى ولكن إن أثير محا".

فصباحكم أجمل أحبة وأصدقاء ورام الله والحصن حتى نلتقي في الحلقة الخامسة من بوح الأمكنة وبوح الحصن بأسرارها.

المزيد من المقالات...