إعادة تعمير سوريا لن يكون الا بعد تحرير سوريا وبأيدي اهلها

أعزائي القراء

هناك حالة اجتماعية تصل الى درجة المرض لكل من يُؤْمِن انه قادر على تنفيذ الشيء ونقيضه بنفس الوقت ، وللايضاح لايمكن لمن يُؤْمِن  بالديكتاتورية ويكون نفسه صاحب مشروع ديموقراطي. ولا يمكن لمن يُؤْمِن بالفساد ان يكون نفسه صاحب مشروع اصلاحي . ولا يمكن لمن  يحرق ويدمر مدناً كامله ان يكون  نفسه صاحب مشروع اعماري . هذه المقدمة المنطقية الغاية منها الوصول الى ان المجرم الاسد وتحت اي ظرف من الظروف لن يكون  قادراً او راغباً  ببناء الوطن الذي هو من دمره مع عصاباته المجرمة الإ اذا كانت غايته سرقة الاموال من مقدميها وإضافتها الى امواله المكدسة ثم بيعنا اعماراً لا يختلف عن مسلسل باب الحارة وحارة الضبع .فالحالة التي امامنا ليست مسطرة وقلم وكومبيوتر فقط ، بل هي مجموعة حسابات ودراسات تبدأ بالاستقرار ولكن يكون هذا متيسراً الا بإبعاد صاحب الجريمة عن المشهد مروراً باتفاقات دولية ودراسات ميدانية مالية  وتشكيل طواقم اجتماعية قانونية مالية هندسية  متكاملة مرتبطة برأس هرم واع خبير  ومقتدر على ادارة كل مايعترض الإعمار من مشاكل  ووضع الحلول لها .    

النظام السوري يعتقد ان الامر يمكن حله باتباع سياسة فهلوية دأب عليها خلال خمسين عاماً تعتمد على الإعلام والمصفقين له مع عروض في موقع ما لبعض المهندسين من اصحاب القبعات الصلبة ممسكين بالمخططات بايديهم  واليات الحفر والروافع مصفوفة بجانبهم  يتناقشون مع بعض رجال المخابرات على انهم اصحاب البيوت المهدمة وهم يصفقون للإنجازات بينما عدسات تلفزيونات الصمود الصديء   يصورون لنا هذه المشاهد الاحتفالية .

فاذا كان هذا هو تصوره عن الإعمار وهو لا يملك غيره ، فالأمور لن تقود الا لمزيد من التعقيدات والفوضى والفلتان المعروف عن هذا النظام والذي كل همه الدعاية لنفسه  فقط .

اعزائي القراء

من خلال خبرتي الهندسية والإدارية في ثلاث دول عربية اضافة للولايات المتحدة والتي بلغ مجملها  ثمان واربعين عاماً  اشغل اليوم منصباً  هو مدير  للمشاريع الهندسية لادارة الصحة في نيويورك فاني اعتقد انه من حقي ان أبدي برأيي الاستشاري والهندسي والاداري والاجتماعي  في إعمار بلدي . فقد صادفني وانا اعمل ثلاثين عاماً في بلد التقدم العلمي والتكنولوجي مشاكل ادارية ومالية وهندسية لمشاريع عديدة قيمة المشروع الواحد لاتتجاوز ال مائة مليون دولار ، صادفني من المشاكل ما اقتضى حلها زمناً يزيد عن خمس اعوام ، فالقضية ليست كما يقال بالمثل العامي(لحسة لبن) . وحتى الخص الموضوع ببساطة شديدة  أقول: ان مشروع تعمير سوريا  هو مشروع يشمل اكثر من مائة مشروع في مشروع واحد ، واول سؤال نطرحه على أنفسنا هو: من اين نبدأ ؟

الجواب المنطقي على هذا السؤال  هو لن نبدأ قبل  الاتفاق على حل سياسي اول شرط له هو ارضاء الشعب السوري ببناء دولة ديموقراطية  وابعاد مدمر سوريا واعوانه عن مسرح الأحداث ، دون ذلك فلا يوجد مشروع ناجح أسمة "مشروع  اعادة اعمار سوريا" .فليس المهم انخفاض مستوى الاشتباكات العسكرية لنبدأ بالعمل فهذا لايعطي مؤشرا على نجاح اي عملية اعمارية ولكن الاستقرار هو المؤشر الاول لنجاح الإعمار، وبعد ذلك تتشكل لجان عديدة برئاسة لجنة مركزية معتمدة ومراقبة من قبل مجلس نيابي منتخب وليس معين  لمسح الارض السورية اجتماعياً واقتصادياً  وصحياً وهندسيا لوضع تقارير توصلنا الى الكلفة التقديرية للإعمار وهنا على ان أقول رأيي بصراحة ان اي كلفة سيتم اعتمادها لن تكون دقيقة الا اثناء التنفيذ فالأعمال الإضافية التي سنصادفها اثناء التنفيذ لا يمكن توقعها اثناء كتابة تقرير المسح الاجمالي فقد تزداد ميزانية الإعمار بنسبة قد تصل الى خمس وعشرون بالمائة ان لم يكن اكثر من ذلك . 

الخطوة الثالثة وبعد اتفاق الدول على اعتماد المسح الاجتماعي والصحي والثقافي والهندسي وتأمين الأموال اللازمة بإشراف لجنة وطنية ذات خبرات متعددة  يشارك بها خبراء من الدول المساهمة وأزيد على ذلك تواجد أشخاص معتمدون من سكان الأحياء باللجان الفرعية بمثابة الدليل السكاني لاصحاب العقارات مع وجود ممثلين لموظفي السجل العقاري ، يتم توزيع الاعمال وفق الاختصاصات حيث تجمع كافة المعلومات من قبل لجنة مركزية.

 وبفرض ان كل الدراسات  قد انجزت واعتمدت وتم تأمين الميزانية او جزءاً منها تبدأ مكاتب الدراسات الهندسية عملها بتقسيم المناطق حسب الاولويات ومعتمدين على اجراء  تعديلات هامة على الانظمة العمرانية المعتمدة في البلديات والتي لايمكن العمل بمقتضاها من حيث التصميم واستعمال نوعيات من المواد الجديدة في البناء ، فمثلاً لايمكن البدء بالعمران  بدون دور رعاية اجتماعية وبناء مساكن مؤقتة للسكان او بدون بناء مستشفايات متخصصة للخدمات السريعة او أسواق مركزية ، كما لايمكن قبول حمل اسطوانات الغاز على ظهور السكان لإيصالها للطابق العاشر بينما الكثير من الدول الافريقية مددت شبكات توزيع الغاز الى البيوت والمرافق الاخرى ...

ان ازالة الانقاض وفرزها وإيجاد أماكن معتمدة لدفنها دون احداث أضرار بالبيئة هو بحد ذاته مشروع ضخم يحتاج لكادر كبير متخصص للقيام بهذه المهمة ، واذكر وانا كنت احد المهندسين الذين شاركوا مع اكثر  من ١٠٠ مهندس وموظف بالتعاقد مع عشرات المقاولين المتمكنين ماليا وفنياً بالمعدات الضخمة  بازالة أنقاض المركز المالي والتجاري في نيويورك الذي دمر في ١١ ايلول ٢٠٠١  ورغم ذلك استغرق عملنا في الاشراف على ازالة الانقاض فقط حوالي سنة كاملة.اما الدراسات الهندسية لاعمار سوريا  فهذه مرحلة معقدة لاتتم الا بعد اشتراك كل اصحاب الامر من مختلف الوزارات واتحاد المكاتب الهندسية الوطنية والأجنبية  . وبعد اعتماد الدراسات وطرحها على شركات المقاولات الوطنية  والدولية يجب تخصيص لجان خبيرة وطنية غير محابية لأحد للإشراف على دراسة عروض الشركات مالياً وهندسياً  حتى لا نعيد سيرة النظام الاولى. .

وبعد ذلك تبدأ ورشات التنفيذ والصعوبات المصاحبة لها.

لا توجد حتى الآن دراسات دقيقة ومتكاملة عن حجم الدمار في سوريا وتكلفة إعادة إعمارها،  وكل ما يجري تداوله هو تقديرات لناشطين أو هيئات سياسية أو هيئات ذات مصلحة لتحقيق أهداف بعينها وهذا مايجب الانتباه اليه فالسماسره كثر ويحومون دوماً حول الدسم . 

اعزائي القراء..

الاحداث تشير الى أن هناك تسع محافظات بمدنها وأريافها تعرضت للدمار من أصل أربعة عشر محافظة في سوريا. وتتفاوت نسبة الدمار بين محافظة وأخرى، فضلاً عن اختلاف شكل الدمار . ففي حلب على وجه التحديد، فإن الدمار طال في البداية  البنية الصناعية في المدينة والذي تشير الخسائر فيها الى أكثر من عشرين  مليار دولار ، غير أن تعرّض المدينة في الفترات الاخيرة للدمار بواسطة البراميل المتفجرة ودخول آلة الدمار الروسية على الخط والذي طال بيوت المدنيين والمرافق العامة ، جعل من هذه التقديرات غير واقعية وغير منطقية، ليجري الحديث عن خسائر تتجاوز الثمانين  مليار دولار في حلب وحدها.

كما لا يمكن الاعتماد على تقديرات الكلفة استناداً لعدد اللاجئين والنازحين السوريين والتي تشير أرقامها الى وجود اكثر من سبع ملايين لاجئ و نازح .فمن يعتمد على هذه الفرضية فدراسته لاترقى للدقة اطلاقاً.وعليه أعيد وأكرر ثانية ان الحديث عن إعادة الاعمار لا يمكن أن يكون موفّقاً قبل وقف الدمار وفرض الحل السياسي والوصول لحالة الاستقرار ثم حصر الخسائر وفق دراسات ميدانية احترافية.وعلى سبيل المثال يقول أخصائيون في مجال الطب إن أكثر من ثلاثين مستشفى كبير تعرض للدمار بشكل كامل ومثلها لدمار جزئي كما انه بتقديري  اعادة المستشفيات الى حالتها الطبيعية لا يعتبر كافيا بل يجب زيادتها باحداث مستشفيات جديدة في كل حي  يوكل  اليها الحالات الإسعافية ، بالإضافة الى تعرّض أكثر من ستمائة  مدرسة للدمار الكامل واكثر منها الى الدمار الجزئي أيضاً، وأما بالنسبة لبيوت المدنيين والأسواق والمساجد والمرافق الاخرى ، فإن هناك أحياءً بكاملها في حلب وحمص وريف دمشق والغوطة ودرعا وادلب ودير الزور  والرقة قد دمرت بالكامل، وفي بعض هذه المحافظات مثل حلب ودير الزور وحمص، يشير الناشطون الى أن نسبة الدمار في بيوتها بما في ذلك الارياف قد تصل الى نحو  ستين بالمائة على الاقل .

لقد كانت  الايام الماضية  حبلى بالتصريحات والتخمينات عن تكلفة اعادة الإعمار وفي حال الاعتماد على التقديرات الغير دقيقة  فإن التكلفة قد تصل إلى ٢٥٠ مليار دولار، وهو رقم مماثل لتقديرات المبعوث الأممي إلى سوريا.

ان الهم الاول قبل الشروع بالإعمار هو عودة سوريا الى الحياة الديموقرطية بازالة كل عنصر إجرامي هدم سوريا اعتباراً من الاسد الى اصغر عنصر في النظام . اما الهم الثاني فهو تامين المصدر المالي. 

واذا سألني سائل عن الكلفة الإجمالية لاعادة الإعمار الهندسي والاجتماعي والصحي والثقافي والبيئي وهذا هو مفهومي لاعادة الإعمار وليس اعادة الحجر فقط . أقول يصعب على كل مراقب تحديد ميزانية  محددة، فمنهم من كانت أرقامه تناهز الألف مليار دولار ومنهم من كانت بحدود ٢٥٠ مليار دولار فالفرق شاسع جداً ، ولكن حتى أستطيع تحديد الرقم بدقة على ان ادرس صاحب التقديرين عن ماهية البنود المدرجة في ميزانية كل منهم وماذا  تتضمن كلفته من اعمال وليس قراءة الرقم فقط . فمثلا هل صاحب تقديرات الألف مليار دولار تتضمن كلفته على سبيل المثال :  مراكز لمصانع  سيارات  ومحطات نووية كهربائية ومشروع قطارات الإنفاق وابراج سكنية وتجارية  وأسواق وسوبر ماركات حديثة ومراكز معاقين وملاعب دولية وغيرها  من الامور المتطورة والتي اشدد على ان تكون ضمن الدراسات الهندسية ، وحتى ولو كانت هذه الخدمات متوفرة في صاحب تقديرات ال الف مليار دولار فاعتقد انها ارقام مبالغ فيها الى حد ما ، كما ان صاحب تقديرات ال ٢٥٠ مليار دولار  تحتاج إلى اعادة تدقيق وخاصة لا نعرف ماذا تتضمن تقديراته.وان كنت أميل الى الرقم ٣٠٠ مليار الى ٤٠٠ مليار كرقم وسطي شاملا خدمات حديثة محددة هو اقرب للواقع .. ولكن أكرر ان ذلك يدخل في باب التخمين.

اعزائي القراء 

لاشك ان سوريا تحتاج الى تحديث ولكن لا يعني ان يحدث التحديث دفعة واحدة ولكن بخبرتي الهندسية ان  تشمل الدراسات  الهندسية كل مشروع تحديثي على المخططات بما فيها محطات نووية لإنتاج الكهرباء او مصانع سيارات او محطات معالجة مياه المجاري او مصانع تدوير النفايات حيث ترصد امكنتها على المخططات  مع بيان كل الخدمات المتعلقة بها وكلفتها على ان تنفذ في الوقت المناسب .

بقي كلمة واحدة وأختم بها هذا المقال الهام لاقول:

على الوطنيين السوريين من مهندسين وباحثين وإعلاميين وسياسيين واصحاب الدراسات العليا  والكفاءات والعسكريين وغيرهم ان يكونوا جزءاً هاما من مشروع إعمار سوريا، فنحن اصحاب الالم ونحن قادرون على معالجة المنا ، ولانعتمد كلياً على الأجنبي ووجوده ضروري في تقديم الخبرات الضرورية الفنية والاستشارية و الدعم المالي فهذا امر لابد منه .

اخواني لا يوجد مستحيل عند الشعب السوري ولن يتحقق مشروع  بناء سوريا الحديثة الا بوحدتنا ، ومع الاسف مازال الكثير من حملة السلاح لايفقهون ذلك ...

تحياتي

وسوم: العدد 776