أحمد سعيد ..مذيع الوكسة!

في ذكرى الهزيمة (الوكسة) أفضى مذيع صوت العرب الأشهر أحمد سعيد (1925-2018م) إلى ربه بعد 93 عاما قضى كثيرا منها في التعبير عن إرادة البكباشي المؤسس للحكم العسكري المهزوم دائما، وكان ناطقا باسمه، ومخاطبا الأمة العربية في وقت كان فيه المجال مفتوحا لاستقطاب الشعوب العربية والإسلامية والإفريقية، من خلال العزف على وتر الاستعمار والإمبريالية، والتحرر الوطني منهما.

أجاد أحمد سعيد أداء دوره وأثبت جدارة فيما فشل فيه الشاعر صالح جودت حين كلفه ضابط المخابرات المصرية فتحي الديب بإنشاء صوت العرب، وقد صدّق العالم العربي صوت أحمد سعيد الجهوري، وكان يصحو على افتتاح صوت العرب "أمة عربية خالدة" وينام على "أمجاد يا عرب أمجاد، في بلادنا كرام أسياد!"، ويتابع الانتصارات الصوتية عبر الأخبار المضللة والبيانات الزائفة والأغاني الحماسية لعبد الحليم حافظ وفايدة كامل وآخرين. وفي أواسط الستينيات ظهر نجم مشابه اسمه أحمد الشقيري- أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية- وكان صوته ضخما غليظا يفوق صوت أحمد سعيد، وكانت لدى الشقيري مقدرة تعبيرية بلاغية عالية أسهمت مع مقدرة أحمد سعيد على تعبئة الأمة لخوض معركة لم تكن في حسبان البكباشي ولا تخطيطه، ولم يُعِدّ لها الإعداد الكافي أو المستطاع، وصدق نائبه وحبيبه الصاغ الذي صار "مشيرا"، حين قال له: "برقبتي يا ريس!" واعتمد التهويش والعبارات الرنانة (أنا مش خرع زي مستر إيدن) واتخذ القرارات المستفزة غير المحسوبة (إغلاق خليج العقبة، وسحب القوات الدولية على حدود سيناء)، وهي القرارات التي كانت تحظي بتصفيق الناس وخاصة الشباب- وكنت منهم- حين ظنوا أن تحرير فلسطين سيستغرق سحابة من نهار، وأن السيدة أم كلثوم ستقيم حفلها الساهر في تل الربيع (تل أبيب) ، وسينتشي العرب بنصر غير مسبوق على يد البكباشي البطل.. وإذا الدنيا ليست كما نعرفها، وإذا الفجر مطل كالحريق!

لا أود التطرق إلى مشاهد المهانة والمذلة في سيناء، فهي تفتت فؤادي، وإن كانت قد جعلتني أتمنى بعد أن التحقت بالجندية عام 68 إلى السعي لتفريغ الغضب عبر مواجهات العدو التي بلغت ذروتها في حرب رمضان، وعبّرتُ عنها في بعض رواياتي وقصصي ومقالاتي.

قد يكون أحمد سعيد رجلا طيبا ومهذبا، ويحلم بالخير لبلاده وأمته، ولكنه للأسف كان نموذجا صارخا للاستلاب تحت الحكم العسكري الفاشي الذي لا يعرف المحاورة أو المشاورة، فيندفع الى الهاوية السحيقة دون أن يبكي عليه أحد. أتباع البكباشي المهزوم يأخذون على الناس تسميتهم لأحمد سعيد بمذيع النكسة، أو الوكسة، وكأنهم يريدون أن يدفنوها إلى الأبد، ويتجاهلون أنها ما زالت تلسعنا بأسياخها المحماة في كل مكان بجسدنا المنهك المهزول، وما زالت آثارها قائمة  لم تمح، في سيناء وغزة والضفة والقدس والجولان والأغوار والمزارع والسفارة في العمارة والمدعو أفيخاي أدرعي! 

أتباع البكباشي المهزوم يطلبون منا ألا نتوقف عند الانكسارات التي نمر بها، ولننظر إلى المستقبل، وهذا صحيح بشرط أن تكون الأمة قد استوعبت الدرس وأفادت من دروسه، واستطاعت أن تمحو آثاره تماما، ولكن المشكل أننا استوعبنا بعض الدروس وحققنا العبور في رمضان، ثم نسينا المسألة تماما، وأعدنا سيرة البكباشي المهزوم في أسوأ أشكالها، وهو ما نعيشه الآن بكل البؤس والهوان، ويبشر بما يزلزل القلوب والصدور!

هناك من يتحذلق ويفسر الهزيمة المريرة بأنها نكسة! إصرارا على المصطلح الذي أطلقه مسيلمة الكذاب في يونيو 67، والحقيقة أن الفارق كبير بين النكسة والهزيمة. الهزيمة أن تستسلم لعدوك وتترك له أرضك، وهو ما حصل في الخامس من يونيو، أما النكسة فهي إخفاق جزئي يتم التغلب عليه بعد وقت قصير، وهو مالم يحدث أبدا! هل يغالط أحد أن العدو يحرمنا من السيطرة على سيناء سيطرة كاملة، وأنه أقام احتفاله بذكرى اغتصاب فلسطين في الريتز كارلتون بميدان التحرير، بعد أن شارك في إهانة الشعب المصري بإسقاط ثورة 25 يناير التي انطلقت من هذا الميدان؟

الفارق بين إعلام البكباشي الذي كان عنوانه أحمد سعيد ومسيلمة الكذاب وبين إعلام العدو، أن كلا منهما حاصل قوة على الأرض يصنعها الطرفان. فإعلام البكباشي كان حصاد بلاغة فارغة تتحدث عن قوة لا وجود لها. القوة الضاربة في الجيش تقاتل في حرب غير مفهومة على جبال اليمن الوعرة وداخل وديانها العميقة. والقادة في القاهرة مشغولون بالأهلي والزمالك وغيرهما، بالإضافة إلى تصفية الإقطاع وتعذيب المعتقلين السياسيين في السجن الحربي، ونشر الاشتراكية المهلبية!

أما إعلام العدو فهو لا يكذب إلا في حدود قليلة، وينشر أحداثا ووقائع لها أصل على الأرض، ويعبر عن قوة تتزايد يوما بعد يوم تدريبا وتسليحا وترابطا وتعبئة معنوية وعقدية، في قلب مجتمع متماسك، يشارك أفراده بالراي والشورى وصندوق الاقتراع، ويتفق على أهداف أساسية، وجهاز استخبارات يتجسس على الأعداء وليس مواطنيه الغزاة!

الطريف أن إعلام العدو كان يتخذ منطقا هادئا عقلانيا يركز على ما يعانيه المصريون، ويتحدث عنه بهدوء يفضح القصور في إدارة البكباشي، وكان يتتبع كل شيء لدرجة أنه كان يخصص برنامجا للفلاحين المصريين يقدمه يهودي خائن من أصل مصري باسم العم حمدان، وكان يتابعه جمهور كبير من فلاحينا، مما يدل على قوة هذا الإعلام الذي يقدم في شكل بسيط ومقنع!

أحمد سعيد كان منبهرا بما يسمع ويقال مثل كل المصريين، وتصور أنه يخدم الأمة العربية كلها بعد أن سقطت الخلافة وصار العرب أسرى لمن غدروا بهم من حكومات الغرب الاستعمارية، ولكنه مثل كثيرين ضل الطريق. فقد بشرنا يوم الهزيمة بسقوط عشرات الطائرات المعادية، ولم يكن للبشرى ظل من الحقيقة. فقد أجهز جيش العدو على طائراتنا في الثامنة والنصف صباحا، وهي في مرابضها بينما كان الجنرال موردخاي هود قائد سلاح الطيران اليهودي يرقص فوق مكتبه ابتهاجا بما حققته طائراته المغيرة، وكان السادة عندنا يستيقظون على صوت القنابل، ويفركون أعينهم ليذهب أثر النوم بعد سهرة لذيذة(؟) في إنشاص بمنطقة بلبيس!

كان أحمد الشقيري في الوقت ذاته يبشرنا بتحرير جبل المكبر في القدس، وللأسف دخل العدو إلى القدس الشرقية، وسيطر على الجولان والأغوار والمزارع. وأمجاد يا عرب أمجاد، في بلادنا كرام أسياد. رحم الله أحمد سعيد والشقيري ورحمنا معهم!

الله مولانا. اللهم فرج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!

وسوم: العدد 778