رغم التجاذبات في المناطق الثلاث ورغم قتامة المشهد السياسي.. لا حل في ليبيا إلا الحوار والتوافق والتفاؤل

افتتاحية العدد 15 من مجلة رؤية ليبية : 

مهما بلغت الأزمة الليبية الراهنة من درجات التعقد، فإن الحوار هو قدر الليبيين لأنه سمة من سمات مجتمعنا طوال تاريخنا الطويل والمصبوغ بسمات الفداء وامتلاك العقلية الاستباقية (توقع الاستعمار الإيطالي قبل عشرين سنة من مجيئه بل والاعداد لمراحل النضال ضده ووضع خطط لاستنزافه)، مع الوعي أنه قد ترسخت عليه سمات أخرى سلبية على غرار عقليتي “الغلبة” و”الغنيمة” والعقلية القبلية في معالجة القضايا السياسية والثقافية والاجتماعية….

واليوم تفرض عليه الأوضاع السياسية والاجتماعية وطبيعة ما يحدث في الإقليم وطبيعة الصراعات الدولية، الحوار والتوافق والعمل على استنساخ النموذج التونسي وفقا لخصوصياتنا الاجتماعية والسياسية وتجنب الخيار المصري بل ان التوافق هو خيارنا الذي لا محيد عنه لا خيارا فقط بل أيضا نتاج طبيعي لحالة توزان الضعف بين طرفي الصراع، وخاصة بعد انهيار خيار الحسم العسكري ميدانيا وسقوط سيناريو “القذافي2” و شبيهه سيناريو “سيسي ليبيا” منذ منتصف 2016، مما يعني أنه يجب العمل بشكل دؤوب على دعم الحوار بين جميع مكونات المجتمع الليبي وممثلي مدنه، وقد أكد جميع المتابعين خلال الفترة الماضية أن أصحاب خيار العسكري قد اصطدموا بكره المواطنين للصراعات والمعارك وكرههم للاقتتال بين أطراف الصراع وبين المليشيات في المناطق الثلاث لقد اصطدم الحالمين بالحسك الميداني العسكري بخيارات شعبية وبالحراك الدولي الذي بدأ يغادر منصات السلبية واللامبالاة مع المآلات المنتظرة وتطور الازمة الليبية المتفاقمة منذ فبراير 2014، وقد تبين أخيرا لكل المتابعين سقوط استراتيجيا الالتفاف على العاصمة طرابلس والتي يطمح لها مقربين من اللواء المتقاعد خليفة حفتر….

ان الدفع نحو الحل السياسي خيار أوحد ووحيد للتلاؤم مع رغبة الليبيين والتوجهات الراهنة للمجتمع الدولي الطامح في نجاح البعثة الأممية الحالية وخاصة إمكانية تنزيل ما سمي بالخطة “ب لوليامز (مساعدة غسان سلامة – أنظر ملف العدد 13) كما تـأمل الدول السبع في نجاح أشغال المؤتمر الدولي المنتظر في إيطاليا خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر القادم، ويمكن القول أن ما حدث ويحدث منذ نهاية أغسطس/أوت الماضي ليس سوى سعي حثيث لتنزيل استراتيجيات استباق نتائج المؤتمر سياسيا وامنيا وعسكريا…

ان حتمية خيار الحوار والحل السياسي تفرض العمل على إنجاز مصالحة وطنية تدفن آلام الماضي وهنا لابد من استحضار سوداوية المشهد الحالي ميدانيا واجتماعيا، فليبيا تمر بأسوأ مراحل تاريخها منذ قدرة شبابها على انهاء 42 سنة من الديكتاتورية الفردية فلقد استفحل في العاصمة طرابلس نفوذ العصابات المسلحة التي تحكَّمت في كل شيء وأما في الشرق فقد لحق الدمار ثاني أكبر مدن ليبيا ووقعت فيها جرائم الحرب والإبادة وانتهى المطاف بانقسامات معتم عليها سياسيا واعلاميا، أما الجنوب فهو يكاد يفقد هويته السابقة بتدفق قبائل “التبو” و”الطوارق” والمهاجرين من الدول الافريقية المجاورة والذين بسطوا سيطرتهم على مناطق شاسعة، وبذلك يمكن تلخيص المشهد بالقول أن المسلحين والفاسدين والانتهازيين في مناطق ليبيا الثلاث، هم بصدد نهش خيراتها وما فيها….

ورغم ذلك فقد عرف المشهد السياسي والاجتماعي منذ أشهر نسقا متطورا حيث يعمل الجميع رغم المؤثرات الذاتية والموضوعية الضاغطة عليهم، على اجراء الانتخابات، بل أن المشهد عرف ويعرف باستمرار نسقية تفكيك وتركيب متماهية مع التطورات الاقليمية والدولية، ويمكن تلخيصه بانه مُعقد كثيرا في العاصمة طرابلس بدرجة أولى بل وفي الجهة الغربية عموما وخاصة بعد الاشتباكات الدموية الأخيرة، وهو خطير جدا في الجنوب بينما الأمر في برقة أكثر تعقيدا  حيث هي في وضع لا يسمح بقبول أي مخرجات سياسية راهنة خاصة في ظل التدخل المباشر لقوى إقليمية معروفة ووجود وكلاء اقليميين مستعدين لفعل أي شيء من أجل إرضاء تلك القوى الإقليمية…

وتنبني قتامة المشهد من جهة وتعقده من جهة ثانية بناء على تقييم العقل السياسي للفاعلين السياسيين من مختلفي النخب:

تواصل سياسة التخبط والتشظي لدى تيار فبراير والذي من المنتظر أن تتفشى داخله مستقبلا العقلية الغنائمية وعدم الثقة بين أطرافه بل أن مكوناته لن تتطور إلا بتبلور تيار قادر على بناء الائتلافات والتحالفات والتوافقات والاستجابة لإرادة الليبيين وبناء على نتائج الصناديق…. تواصل الانقسامات الجذرية في تيار السبتمبريين (أنصار وأعوان النظام السابق) بين الواقعيين والافتراضيين، ومعلوم أن تطورهم سيبقى صعبا في الوقت الراهن نتاج عقلية ماضوية في قراءة أربع عقود من الحكم الفردي ونتاج استفحال الزعاماتية ونتاج مؤثرات فكرية وسياسية واجتماعية متعددة …

ورغم تعقَد تفاصيل المشهد السياسي الحالي وتعدد مُفرداته، الا أن نجاح الحوار أمر قدري لليبيا والليبيين، ولابد أن تصدق النوايا عبر الكف عن مُمارسة الابتزاز السياسي، بل ان الامر يقتضي المسارعة في تشكيل حكومة وحدة وطنية بعد مؤتمر إيطاليا المنتظر عقده في نوفمبر المقبل لترتيب ما تبقى من المرحلة الانتقالية ذلك أن كُل تأخير هو تعميق للفوضى والانقسام وقبل ذلك لابد من تغيير تركيبة المجلس الرئاسي الحالي وتغيير بعض أعضائه والعمل على توحيد المؤسسات السيادية ووضع استراتيجية امنية في المناطق الثلاث…

إن تطورات المشهد الإقليمي وطبيعة موقع ليبيا المهم وقربها ومن السواحل الأوربية ستحتم عليانا كليبيين إنجاح الحل السياسي وإجراء انتخابات حتى يتم غلق باب الصراعات الأمنية والعسكرية، بل والوعي أننا امام تحديات جسيمة على غرار تفاصيل الترتيبات الأمنية وكيفية بناء وقيادة المؤسسات السياسية والعسكرية…

ان الواجب يفرض على كل الليبيين أن تشهد الانتخابات المقبلة مشاركة سياسية واسعة ومنقطعة النظير، وأن ندفع نُخبنا وأحزابنا الوطنية بالمشاركة الإيجابية بغض النظر عن النتائج، إضافة للسعي أن يكون النظام السياسي في ليبيا مهيأ الى التقبل والطرح الفكري والمتعدد حتى يكون تنافس الأحزاب تنافسا طبيعيا خدمة لليبيا، أما في سياق الأقاليم الليبية فإن كل إقليم شهد ويشهد تطورات عدة ممَا يعني أن المشهد الانتخابي من حيث طرح البرامج الانتخابية والجدل بين المترشحين لابُد أن يُساهم في تحديد سياساتها الاقتصادية الداخلية حسب الظروف التي تعني كل إقليم وفي تماه كامل مع مؤسسات السلطة المركزية للدولة الليبية …

وسوم: العدد 791