نحن والدول المتقدّمة .. المقارنة الظالمة

محمد عبد الكريم النعيمي

يُكثِر بعضُ المثقفين من لوم وتعنيف الشعوب العربية وشعوب العالم الثالث، لانشغالها ببكاء ماضيها وإشباع أعدائها تقريعاً وشتماً، ويقارن بينها وبين شعوب غربية تمكّنت من النهوض بعد صراعات وحروب عالمية أكلت أخضرها ويابسها.. فصنعت لبلادها نهضة صناعية مبهرة، ورسّخت لنفسها عدالة اجتماعية منصِفة، وأنظمة سياسية مستقرّة..

أعترف أن هذه المقارنة تثير في النفس لأول وهلة مشاعر تحفيز خفية، لكنها رغم ذلك مقارنة ظالمة، تُغفِل في واقع دولنا وواقع الدول الناهضة أهمية القيادة السياسية، التي دفعت الناسَ بكل طاقتها لتصل إلى ما وصلت إليه الدول المتقدمة، والتي كرّست - في حالتنا - السلبية والجمود والعيش الذليل وترقّب المستقبل المخيف.. في ظلّ تغييب صوت الشعب ومصادرة خياره والعبث بمصيره..

ومع إيماني بأنّ ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه، وأن السعي للتغيير لابد أن يبدأه الفردُ في نفسه ومحيطه الأسري والمجتمعي الضيّق، بما يسعه وبما تمكنه الوسائل المتاحة، إلا أن البُعدَ السياسي يمكن أن يَختصر مسافاتٍ شاسعةً لتصل شعوبنا إلى ما وصلت إليه الدول الحديثة، مع الإقرار بخطورة هذا المسار بالنظر إلى حجم الركون للظلم في مجتمعاتنا، وحجم تآمر الدول التي تقتات من ركودنا، وتدعم جلادينا، وتتداعى إلى قصعتنا..

ولأن الاشتغال على صناعة الوعي المُفضِي - في المدى البعيد - إلى التغيير المنشود، لا يزال ضمن الوسائل المتاحة التي تضمنها ثورة الاتصالات والمعلومات..

ولأن تاريخنا - شئنا أم أبينا - جزء لا يتجزأ من عناصر ثقافتنا ووعينا الجمعي، بما يحمل من مفاخر ومخازي.. ولأنه اصطبغ كذلك بصبغة "دينية لاهوتية" لا يزال لها تأثيرها السلبي في التعامل مع أحداثه، وفي إضفاء هالة من القدسية على رموزه وشخصياته، وتجاوز هدف العظة والعبرة منه، إلى اعتباره نَصّاً مُنزّلاً مُحكَماً تُستقى من "مُستنقعاته" مبادئ "السياسة الشرعية"!!

لهذا وذاك.. وجب على نُخبنا غربلة هذا التاريخ، وإسقاط ونزع "القدسية" عن رموزه التي أجهَضَتْ - مبكراً - أروع تجربة بشرية في تطبيق نظام (الشورى)، وفي إعلاء كلمة الأمّة التي لا تجتمع على ضلالة إذا مُكّنت من الاختيار الحرّ..

ووجب كذلك إشعار الإنسان بقيمته ومنزلته، وهو الذي حظي بشرف استخلاف الله تعالى له في الأرض، ليعمرها بالتقوى والبناء، متمتعاً بالحرية والكرامة اللتين لا معنى لوجوده دونهما، ومُنِحَ أن يختار - بملء إرادته - بين الإيمان والكفر، فضلاً عن حقّه في اختيار مَن يَحكمه ويُمثّله..

كما تَحتَّم إسقاط خطاب الذلة والخنوع للطغاة والغزاة، وتبرئة دين الله من دنس هذا الخطاب، وإعادة الاعتبار للإسلام في نفوسٍ يُخشى أن تنزلق في مهاوي الإلحاد والتطرّف جرّاء هذا الخلط..

لتمضي الأمة والبشرية - إذا ما تحقق ذلك - في مسيرة الاستخلاف الأرضي، يحفّزها ويرشدها الإيمان، ويقودها ويخطو بها العلم.

وسوم: العدد 810