الحدث السوداني: ثورةٌ مَطْلبيةٌ أم ثأرٌ استئصالي؟

من خلال معايشة كاتب هذه السطور لما حدث ويحدث في السودان أستطيع القول بأن ما يحدث هناك هو ثورة حقوقية بامتياز، من زاوية أن المطالب التي ترفعها الجماهير حقيقية مائة بالمائة. ولا سيما ما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية التي يمكن وصفها بالمأساوية بدون مبالغة، فالأزمة الاقتصادية هنا طاحنة بشكل غير متصور، حيث أثقلت كواهل الجميع، وللعلم فإني أستاذ جامعي من اليمن و أعرف ما يحدث في اليمن في ظل الحرب وقبلها من معاناة اقتصادية تحدّث عنها العالم كله، غير أن معاناة الناس في السودان للأسف أشد وأنكى مما يحدث في اليمن رغم الحرب، فالمرتبات عندهم رديئة جدا والأسعار باهضة وفوق طاقة أعلى المرتبات، فكيف بصغار الموظفين؟ بل كيف بالملايين من العاطلين الذين لا يجدون قوت يومهم؟!.

ومن المفارقات أنني أتيت من اليمن الذي يعاني من أزمات اقتصادية طاحنة ومن حرب مستعرة، ومع ذلك فقد استغربت كيف يعيش الناس في السودان في ظل هذا الإدقاع الشديد. وعلى سبيل المثال فإن مرتب المدرس الشهري يساوي 20 $ ومرتب الطبيب لا يصل إلى 30 $ ومرتب البروفيسور في الجامعة بالكاد يصل إلى 100$ ، في ظل أوضاع معيشية صعبة وغلاء فاحش مستمر كل يوم ولا تكاد عجلته أن تتوقف، بجانب طوابير طويلة أمام المخابز ومحطات المشتقات النفطية ومحلات بيع الغاز، بل وأمام شبابيك البنوك حيث تنعدم السيولة ولا يستلم الفرد من مرتبه الشحيح إلا الفتات!

أما لماذا حدث هذا التهور المريع في الفترة الأخيرة، فيبدو أن هناك أسباب موضوعية وأخرى ذاتية عديدة، وسبق أن كتبت عنها مقالة من قبل عند بداية هذا الحراك الثوري، ولا تخطئ العين وجود مؤامرة خارجية تجوس خلال الديار في ظل عجز حكومي عن الإمساك بتلابيب المشكلة وعن التصدي للمؤامرة، فقد تدهور الجنيه خلال هذا العام بشكل مخيف نتيجة أسباب كثيرة، من ضمنها الفساد الذي استفحل في معظم مؤسسات الدولة، والحصار الذي لم ينفك عن البلد وما زال من عقود يخنق السودان، والمؤامرات التي نلمس آثارها التدميرية ولا نرى الأيدي التي تحركها، بجانب فوائد الديون السابقة وآثار الحروب العديدة.

مما يجدر ذكره هنا أن الجيش والمؤسسات الأمنية ساهمت في إفقار البلد، فقد تصاعد الحس الأمني بسبب الحصار السابق والحرب التي شنتها ثلاث دول في آن واحد على السودان مطلع ثورة الإنقاذ، بجانب الحركات الانفصالية المسلحة في الجنوب والغرب، كل ذلك دفع النظام لإعطاء الجيش والمؤسسات الأمنية ميزانية ضخمة تتجاوز 50% من ميزانية السودان، هذا البلد المترامي الأطراف لدرجة تبدو – أي ميزانية الجيش والأمن – كأنها بدون سقف؛ مما أثر على جميع الخدمات داخل البلاد، فالجيش أصبح قويا من حيث العدد والعدة، ويمتلك مؤسسات وإمكانات ضخمة بحيث يضاهي جيوش بعض الدول الغنية ويمتلك مصانع للتسليح الحربي يفوق ما هو موجود في أكثر الدول العربية ثراء، حيث يتم تصنيع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة وبعض الأسلحة الثقيلة.

ولكن هل مطالب الثوار ومن يحاول ركوب ثورتهم تقف عند هذا الحد؟ بمعنى هل جميع المطالب موضوعية وعادلة؟ ما ألاحظه من تتبعي للشأن السوداني ووجودي في القلب منه، ولا سيما في الأيام الأخيرة من الحراك ومنذ أن بدأ يلوح النصر، أن هناك اتجاهات وسط الذين يبدو أنهم يسيرون الثورة، ينذر بخطر كبير على الحريات وحقوق الإنسان وعلى الإسلاميين بكافة فصائلهم بل وعلى هوية السودان العروبية والإسلامية. فهناك مطالب تُطرح بكل وضوح حول هوية السودان الإفريقية العلمانية وتطالب باستئصال الإسلاميين جملة وتفصيلا بشكل عجيب ويدعو للغرابة، خاصة بالنسبة لمن يعرفون طبيعة السودان ذلك المجتمع الزاخر بالتدين والمشهور بالتسامح، فالأحزاب التقليدية في السودان وعلى رأسها الحزبان الكبيران اللذان كانا في السلطة قبل ثورة الإنقاذ وهما حزب الأمة (الصادق المهدي) والاتحادي الديمقراطي (الميرغني) يستندان على أرضية إسلامية شديدة الوضوح ويستمدان أدبياتهما من مناهل الإسلام وتراثه الثري. هذا بجانب الحركة الإسلامية ذات الفصائل المتعددة ومنها الأحزاب التي خرجت من رحم الحركة الإسلامية، كالمؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي الذي أسسه د. الترابي رحمه الله وحركة الإصلاح الآن التي يقودها د.غازي صلاح الدين بجانب الحركات والمجموعات السلفية، ولم يعد يوجد خارج هذه الدائرة إلا بقايا الشيوعيين و القليل جدا من البعثيين الذين لا يذكرون وقليل من المجموعات العلمانية، بجانب مجموعات من الشباب الذين دفعتهم الاحباطات للفناء في الغرب وتبني دعوات عدمية تصل إلى حد الإلحاد!

 والحقيقة بأن من يعرف الخارطة الفكرية والسياسية للمجتمع السوداني يستغرب كيف تمكّن هؤلاء الاستئصاليون، رغم قلتهم ومخالفتهم للتقاليد السودانية، من النفاذ إلى الحراك الثوري الحقوقي، ويتعجب كيف أصبحت كثير من الدعوات التي تخرج من أوساط المتظاهرين تذهب إلى حد المطالبة باستئصال شامل للإسلاميين بكافة فصائلهم لدرجة المطالبة بفصل موظفيهم من كافة مؤسسات الدولة!

 ومن الواضح أن هناك اتجاهات يقودها اليساريون وبعض الليبراليين ومن ملأت الأحقاد قلوبهم للثأر من كل الإسلاميين؛ لدرجة أن هناك من يطرح أننا لن نبرح الساحة حتى يفصل كل الموظفين في المؤسسات الحكومية ومن القضاء ومن الجيش والمؤسسات الأمنية ومن السفارات ووو. وأن كل من تولى ولاية ما في عهد الإنقاذ خلال 30 سنة يجب أن يُفصل ويقدم للمحاكمة . وأننا لن نبرح الساحات حتى تزول المؤسسات التي أحدَثها الكيزان وتُلغى كافة الاتفاقيات الخارجية التي عقدتها الحكومة في عهدهم، وحتى تعود أموال السودان من الخارج، وتُطرح في هذا السياق أرقام مبالغ فيها تفوق دخل السودان ومقدراته بشكل عجيب، وكأن هناك من يريد أن يدفع الاسلاميين للمواجهة والتي لو حدثت فإن السودان سيعاني ويلات لم يعرفها من قبل وسيتشظى مناطقياً إلى عدد من الدويلات بعد حرب أهلية لا تبقي ولا تذر والعياذ بالله.

 وهناك شعارات كثيرة تبدو وكأن هؤلاء الذين يعتقدون أنهم يديرون مقاليد الاعتصامات، يريدون علمنة السودان وتجفيف منابع الإسلام في أفريقيا و إغلاق كافة المؤسسات الإسلامية التي تتبع (الكيزان). و هذا المصطلح يطلق على الإسلاميين الذين حكموا السودان من جماعة الدكتور حسن الترابي وينطبق على كل أعضاء المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي ثم انقسم المؤتمر الوطني نفسه وخرج منه مجموعة قبل فترة بقيادة غازي صلاح الدين اسمها حركة الإصلاح الآن، وهنالك تيارات أخرى مثل التيار الثالث عندما حدث الانفصال بين الترابي والبشير انزوى وابتعد عن العمل السياسي ومنهم البروف حسن مكي والبروف الطيب زين العابدين، وكل هؤلاء من الكيزان المطلوب استئصالهم من قبل هذه القلة من اليساريين ومن لف لفهم، حيث تطالب باستئصال هؤلاء جميعا، بجانب حركة الإخوان المسلمين التي تمر عليها د. الترابي وظلت وفية للقيادة المصرية، لدرجة أنهم أنزلوا كشفاً بأسماء المطلوبين للقبض عليهم، ومنهم مفكرون قد ماتوا أو خرجوا من البلاد بعد أن عارضوا الحركة الإسلامية (وبالأصح المؤتمر الوطني)، وصاروا يعيشون في أوروبا أو أمريكا منذ سنوات طويلة ومع ذلك فقد نزلت أسماؤهم ضمن المطلوب استئصالهم ومنهم د. التيجاني عبد القادر ود. عبد الوهاب الأفندي . وكلما اقتربت ساعة النصر ظلت المطالب العجيبة والغريبة تتصاعد، لدرجة أن أحد الأساتذة في جامعة الجزيرة من انصار الحركة الإسلامية علق على أحدهم فقال بطريقة ساخرة: لم يبقَ إلا أن تطالبوا بمحاكمة عبدالله بن أبي السرح الذي حمل الإسلام إلى السودان، وتطالبوا بمحاكمة حسن البنا لأنه أسس حركة الإخوان المسلمين في مصر!

وخلاصة القول إن السودان يواجه أخطارا كبيرة جدا في هذه الأثناء، فهو بجانب أزماته الاقتصادية المستفحلة، يواجه أخطارا تهدد هويته الإسلامية وسلامه الاجتماعي، فبجانب الحراك الثوري الذي يطالب بالحرية والعيش الكريم والتداول السلمي للسلطة، كامتداد لثورات الربيع العربي، هنالك اتجاهات تريد إدخال السودان في دوامة بشكل واضح، ويضعون مطالب عسيرة لمنع قطار الحراك من الوصول بسلام إلى محطته الآمنة، ولنلاحظ كيف طالبت محكمة الجنايات في نفس يوم الانقلاب بتسليم عمر البشير مدعومة من الدول الغربية بما فيها أمريكا التي لا تعترف بشرعية هذه المحكمة! وتُستخدم حشود الشباب للضغط نحو وضع الاستئصاليين من اليسار ومن الليبراليين على قمة السلطة؛ بغرض تجفيف منابع الإسلام التي تغذي المجتمع السوداني وتغذي عددا كبيرا من الدول الأفريقية كالجمعيات والمؤسسات الخيرية والدعوية والجامعات الإسلامية، وفي مقدمتها جامعة أفريقيا العالمية التي تحتضن الآلاف الذين جاؤوا من كافة الدول الأفريقية .

على كل نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنب السودان ما يحاك له من مؤامرات وأن يهدي جميع العقلاء من داخل السودان وخارجه حتى يعملوا سوياً من أجل أن ترسو هذه السفينة في المرافئ التي تستحقها، بعيدا عن دوامات العنف والاحتراب الأهلي، فقد شبع هذا البلد مثل غيره من البلدان العربية والإسلامية كثيرا من الحروب والقلاقل ومن الفقر والفاقة، وآن له أن يرتاح وأن يصرف طاقته نحو تحقيق النهوض الحضاري المنشود. ورغم المؤامرة التي تلوح في الأفق وتبدو أصابعها في الميدان، ضد السودان كواحدة من أهم وأكبر الدول العربية والإسلامية، فإننا نؤمن بأن السودان يضم كتلة ضخمة من العقلاء الذين يحبون وطنهم، ونرجو فقط أن يترك البعض سلبيتهم وأن يترجموا حبهم لبلدهم إلى أفعال تساهم في تحقيق الحرية ومنع الفوضى، نسأل الله سبحانه وتعالى مرة أخرى أن يكتب للسودان ما فيه الخير وأن يجمع السودانيين على كلمة سواء، تؤدي إلى وحدتهم وتحقيق ما يصبون إليه من عز وفخار.

وسوم: العدد 820