الفتنة المرفوضة والمبادرة المنتظرة

شهد العالم العربي والإسلامي عبر تاريخه سلالاتٍ من الفتن والصراعات ، دفعت الأمة بنتيجتها أثماناً باهظة أثـّرت على واقعها ومستقبلها لعقودٍ طويلة.

وكان من إبتلاءات وفتن هذا الزمان ، حكمُ أنظمةٍ عسكرية وأمنية رفعت شعارات المواجهة مع العدو الإسرائيلي ، لكنها كانت الخادم الأكبر لسياساته ، لأنها كانت الوسيلة الأفعل لتقييد الشعوب العربية ولَجْمِ نهضتها وتعطيل مسيرة نموها.

قمع عبد الناصر كل معارضيه بالحديد والنار ، وقام بتصفية خصومه وإعدامهم بالمئات مؤسّساً للفتنة الأولى الكبرى في مصر ، والتي إمتدت آثارُها لتشمل العالم العربيّ بأسره.

جاء حافظ الأسد ليضيف البقعة الأكبر من الدماء في تاريخ سوريا والعرب إلى أن تفوق عليه وريثه بشار ، محولاً سوريا إلى مسلخ بشري لم تعرفه الإنسانية منذ سنواتٍ طوال..

إنقسم العرب بين أنظمة العسكر والدول ذات الحكم الملكي ، وتطاحن الحكام وتطايرت أحلام الوحدة وتعزّزت الإنقسامات..

خرجت إيران بثورتها المذهبية ، فغزت عواصمَ العرب وأنبتت من براثنها تنظيماتٍ سنية الهوية ، ضالة المضمون ، لأنها إعتمدت القتل والتدمير وتشويه صورة أهل السنة وصولاً إلى إلصاقهم بالإرهاب والإدعاء بأنهم لا يصلحون للحكم ، وأن على الغرب أن يتحالف مع الأقليات المذهبية والدينية لتثبيت حكمها في المنطقة.

عانى العرب من ضعفٍ أدى إلى سقوط بعض كبريات عواصمهم تحت وطأة التحالف الإيراني الأميركي ، فخسرنا بغداد وبيروت وصنعاء ودمشق ، وإمتدت الفتنة إلى البحرين ، وكادت الفتنة أن تشتعل في الكويت لولا لطف الله... 

ولد الربيع العربي من رحم كل هذه المعاناة لشعوب توّاقة إلى التغيير وحقّها في الوصول إلى نظام حكمٍ رشيد وديمقراطي ، وقامت في وجهه الإنقلابات المضادة ، بدعوى إعاقة وصول الإسلاميين إلى الحكم ، بينما كان طاغية سوريا يستفيد من الإنقسامات والهواجس العربية ، وإيرانُ وروسيا تغرس براثنها في الجسم السوري المدمر والمنهك..

أسفر المشهد الراهن عن إنقسامٍ كبير بين شطرين من العالم العربي والإسلامي:

المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر والبحرين ، وفي المقابل: تركيا وقطر وجماعة الإخوان المسلمين ، وتوزعت بقية الدول العربية كساحاتِ صراعٍ ، من سوريا إلى العراق ، ومن ليبيا إلى الصومال ، وليس إنتهاءاً بتونس واليمن..

جبهاتٌ مفتوحة على إمتداد هذه البلدان التي خسرت إستقرارها وبات مستقبلُها معرضاً لأسوأ الكوارث والنوائب..

• توتر مزدوج

يحدث كل هذا مع إرتفاع منسوب الحماوة المتوقع على خطين متوازيين:

ــ خط المواجهة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية ، والدعم السعودي والإمارتي لحصار إيران ووضع حدٍ لإختراقاتها في العالم العربي ، والتحفظ التركي المعلن لأسباب ذات علاقة بعلاقات أنقرة المتشابكة بين المعسكرين الأطلسي والروسي ، مع ما يحمله هذا الخيار من مخاطر التسوية المحتملة بين إدارة ترامب ونظام الولي الفقيه ، وهذا أمرٌ وارد ويسعى إليه ترامب علناً ، ومع إستحضار أبعاد المواجهة إذا وقعت فعلاً.

ــ إستعداد الولايات المتحدة الأميركية لتصنيف جماعة الإخوان المسلمين كنظيم إرهابي ، بضغطٍ من السعودية والإمارات ،  في مسعى لخلق مسارٍ يوازي ضرب المشروع الإيراني في المنطقة.

أمام هذا المشهد ، يقف المسلمون في هذا العالم العربي وفي الدول الإسلامية ومناطق الإنتشار في الغرب ، بين سندان هذا الطرف ومطرقة الطرف الآخر ، بينما الغالبية العظمى من المسلمين ترفض الإنحياز لهذا الطرف أو ذاك ، لأنها ترفض منطق الصراع بين المسلمين كمبدأ ، ولولا أن إيران أوغلت في العدوان وسفك الدماء وتدمير النسيج الإجتماعي والحواضر والمدن ، لما رغب أحد بالصراع معها ، فما بالنا بدولٍ تشكّل أعمدة الصمود والوجود والحضارة الإسلامية؟!

• فلسفات الصراع والمواجهة 

تمتلك المملكة العربية السعودية ، ومعها الإمارات ومصر ، فلسفتها ورؤيتها لهذا الخلاف ، وتوردُ عبر قيادتها وإعلامها ما تراه مقاربةً صائبة ، رغم وجود تباينات في هذا المعسكر حول كثير من المقاربات ، وإن كانت تلتقي على محاربة جماعة الإخوان المسلمين بإمتداداتها وتفرعاتها ، مع إعلان المواجهة مع إيران بنسبٍ متفاوتة.

في المقابل ، تقدّم تركيا وقطر والإخوان المسلمون رؤيتهم والحُجج التي يملكونها ، ويملؤون وسائل إعلامهم بآرائهم ، ويخوضون المواجهات الدبلوماسية لتحصين موقفهم وتوفير عناصر التفوّق لهم.

والحق أن كلا الطرفين يمتلكان وجهات نظر يمكن فهمها أو تفهمها ، لكنهما أيضاً يعانيان من خروقاتٍ وضعفٍ ناجمين عن تراكم المشاكل وتعقيداتها ، وعن تداعيات التعصب لدى النخب والجمهور ، مع وجود عنصرٍ مشترك هو العامل الإسرائيلي الذي يجد نفسه في ذروة القوة ، مع هذا العجز العربي المتفاقم.

لكن ما لا يمكن لمسلم مخلص أن يتقبله هو أن تتعرّض المملكة العربية للإستهداف والتهديد ، أو للتواطؤ والطعن ، فهي مهبط الوحي وموطن النبوة ، وأيّ تهديدٍ لوحدتها يعني نهاية العرب ، وهي تبسط يدها في أرجاء المعمورة مساندة للمسلمين وحفظاً لمصالحهم الكبرى ، لا بل إنها حمت دولاً من الإنهيار والوقوع في دوائر الفوضى وساهمت في إخماد الحروب ونشر السلام ، وهي تشكل الدرع الواقي من التغوّل الإيراني في المنطقة.

وما لا يمكن لمسلم قبوله أن تتعرض قطر للحصار وما ينتج عنه من أضرار وخسائر ، لا تطال قطر وشعبها فقط ، بل تنعكس على مجمل دوائر النشاط القطري الإنساني والإغاثي والتنموي ، وهذه خسائر فادحة لفقراء المسلمين على إمتداد وجودهم.

ولقطر فضلٌ ويدٌ بيضاء وإسهاماتٌ في الخير والإنماء شكّلت مفصلاً في تطوير الكثير من مرافق العمل الخيري والإنساني ، ولا يمكن تجاهل كلّ هذا المسار ، بغض النظر عن أسباب الخلاف السياسي القائم.

وما لا يمكن لمسلم حريص قبوله أن تتعرض تركيا ، أرض الخلافة التاريخية والعمق الإستراتيجي للمسلمين في الغرب ، والإقتصاد الناهض الواعد ، والقوة المناصرة لقضايانا في المشرق والمغرب ، أن تُستهدف قيادتـُها بالإنقلاب وتتعرض ليرتـُها للحرب وإقتصادُها وسمعتها وسياحتها للتشويه... 

• منطلقات الموقف

ــ ليس هناك أي طرفٍ لديه الحق بالمطلق ، فالجميع يخطئون ويصيبون ، وتتحكم السياسة في تظهير المواقف ويتولى الإعلام التسويق ، وفي هذا المسار تظهر الإنحرافات الكبرى ، لأن الثوابت تصبح ضعيفة الحضور مع إرتفاع دويّ المواجهة واللجوء إلى كل الوسائل في سبيل تحقيق التفوّق فيها.

ــ لا أقصد بمقالي هذا إدانة طرفٍ بعينه أو تبرئة طرفٍ مقابل ، بل إنني ، كمسلم عربي ، أحمّل المسؤولية لقيادات هذه الدول الإسلامية لما وصلت إليه أمورنا . فبدل إستحضار عناصر القوة المشتركة ، يجري إحياء العصبيات المحلية والقومية ، وهذا إحياءٌ للفتن وتأجيجٌ غير أخلاقيّ للصراع.

ــ أزعم أنني أتحدث بإسم الأغلبية العظمى من المسلمين ، وأؤكد أنهم يرفضون أي صراع بين الدول والشعوب الإسلامية ، ولا يرون أن الحضور السعودي أو التركي أو القطري في بلدانهم عاملاً سلبياً ، بل إن هذه الشعوب طالما حملت تاريخاً وإرثاً مشتركاً ، يجب البناء عليه للوصل إلى حاضر ومستقبل حداثيّ مبنيّ على الثوابت في حياة أمتنا ، وعلى تطوير رؤيتنا السياسية والتنموية لتحقيق الإستقرار والمناعة وإستعادة الحقوق وتوحيد الصف في مواجهة التحدييين الصهيوني والإيراني.

ــ إن الإحترام لإستقلال دولنا العربية والإسلامية أمرٌ يجب إحترامه وعدم تجاوزه ، بل الإنطلاق منه نحو الحوار والتفاهم والتعاون على أساس التكامل وتبادل المنافع والمصالح.

• إشكالية الإخوان

يشكّل الإخوان المسلمون شريحة واسعة في عالم المسلمين والعرب ، وهم مندمجون في مجتمعاتهم ولهم مؤسساتهم الإجتماعية والخدماتية ، وحضورهم السياسي في عدد من الدول ، وهم قاموا بمهماتٍ جليلة في حفظ الدعوة الإسلامية ، ولكنهم لم يستطيعوا تجاوز العوائق في العمل السياسي بالإجمال ، ولم يمتلكوا رؤية للحكم ولم يستطيعوا تحقيق إنجازاتٍ واضحة في مجال التنمية.

الإخوان مدعوون إلى:

ــ معالجة مشاكل بنيوية يعاني منها التنظيم منذ عقود ولم تجرِ معالجتـُها بالجرأة المطلوبة ، وكشفتها الأحداث قبل أن يبدأ إتهامهم بالإرهاب ، وخاصة بعد الإنقلاب على حكمهم في مصر ، وما جرى في بقية الدول العربية ، ولم يعد ممكناً تجاهلها ، بل يجب الإنكباب عليها ووضع رؤية طارئة للخروج منها.

أبرز هذه الإشكاليات: 

ــ قضية المرشد العام وما يُطلق عليه تسمية "التنظيم الدولي". 

ــ إشكالية الإنتقال إلى العمل السياسي الوطني في الدول التي تتيح التعددية والحياة السياسية والتخلي عن الصيغة الملتبسة العابرة للحدود.

ــ الإنفتاح على خطة تواصل واسعة تفضي إلى حواراتٍ عميقة مع المملكة العربية السعودية ومع كل من لديه إشكالية مع الإخوان ، وصولاً إلى وضع نقاط إلتقاء تمنع هذا الصدام الهائل الذي يهدّد بإندلاع حربٍ في الدول الإسلامية (السنية) لن يكون ممكناً توقع تبعاتها.

• المبادرة المطلوبة

قد يقول البعض إن ما نطرحه مثاليّ وبعيد عن الواقع ، وربما يكون هؤلاء محقاً في الشكل ، ولكن دعوتنا تنطلق من من الثوابت التي يلتقي عليها عموم الرأي العام الإسلامي ، وعلينا أن نتذكر أن العلاقات كانت في مراحل سابقة جيدة بين هذه الدول والأطراف ، والأسباب المستجدة المؤدية للصراع هي أسباب سياسية طارئة يجب مكافحتـُها وعدم الإستسلام لها.

سيتداعى المتعصبون لرفض هذا الطرح لأن شرائح واسعة منهم تعتاش على إثارة الخصومة وتسعير الصراع وتعميم الكراهية ، وهذه الفئة ، على الأرجح ، هي وراء التوترات وهي الساعية لإستمرارها.

لكن النخب الدينية والسياسية والإعلامية والثقافية على إمتداد عالمنا العربي والإسلامي ، مطالبة بمقاربةٍ جريئة ، لا تطعن بقياداتِ دولها ، ولا تنخرط في الفتنة ، بل تدعو إلى الحوار وإلى إعتماده وسيلة لحلّ النزاعات ، طالما أن مجمل هذه الدول ترفع شعار قبول الآخر وتخطو بشكلٍ سريع نحو إقامة علاقاتٍ إيجابية مع العالم المسيحي ، وعلى رأسه الفاتيكان ، وهذا أمرٌ إيجابي..

فإذا كان الحوار مع الفاتيكان قد بات من يوميات التفاعل الحضاري الإسلامي المسيحي ، فمن باب أولى أن يتحاور المسلمون فيما بينهم ، وأن يقفلوا أبواب جهنم التي يفتحها أبالسة الفتنة ويسعرون لهيبها ليل نهار.

إن العالم الإسلامي بأمسّ الحاجة إلى مبادرة تحدّد الأخ من الخصم والعدوّ من الصديق ، وتتولى المصارحة ووضع المخارج الملائمة لهذه الأزمة وضمان إبقاء قنوات التواصل متاحة تجنباً لأي إنتكاسة محتملة.

نحن المسلمين ، نرفض حرباً سنية – سنية ستطيح بمقدرات الأمة ، ويجب أن نعمل جميعاً على وأدها بكل السبل الممكنة.

نحن المسلمين ، لا نريد أن نرى صراعاً بين تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر والإمارات ، بل نريد أن نجد التكامل فيما بينها شعوباً وحكاماً ، ولتسقط كلّ دعاوى الفتنة المدانة والمرفوضة.

وسوم: العدد 824