فضيحة في النمسا: كيف تدهورت الديمقراطية؟

ما إن انتصر حزب الحرية اليميني المتطرف في معركة الأخيرة حتى داهمته الفضيحة المدوية.

حقّق الحزب في ائتلافه مع يمين الوسط الذي يقود الحكومة النمساوية، "إنجازه" الجديد بمنع التلميذات المسلمات في المدارس الابتدائية من تغطية شعورهن، في حظر تمييزي لا يشمل تغطية الشعر بالقلنسوة اليهودية أو العمامة السيخية.

جاء القرار الذي أقرّه البرلمان يوم 15 مايو/أيار حلقة جديدة في سلسلة ممتدة من خطوات الحظر والتقييد التي تنتهجها الحكومة النمساوية الحالية، بما يتجاوز قطعة قماش مثلاً إلى حمل دلالة استهداف رمزي ومطاردة معنوية للمكوِّن المجتمعي المسلم. لكنّ أقصى اليمين لم يهنأ بإنجازه الجديد، فسرعان ما أجهزت على قيادة أعرق أحزاب الشعبوية المتطرفة في أوروبا فضيحة مصوَّرة ومكتملة الأركان.

ثارت الفضيحة مع مقطع مصوَّر بالكاميرا الخفية يعود تسجيله إلى سنة 2017، أي قُبيل الانتخابات التي صعدت بحزب الحرية إلى الحكومة النمساوية. تمّ استدراج من سيصبح بعدها بقليل نائب المستشار النمساوي، بمعية قيادي آخر في حزبه، إلى مصيدة محبوكة في جزيرة إيبيزا الإسبانية، للتباحث مع امرأة انتحلت صفة ثرية روسية من أسرة معروفة مقرَّبة من بوتين، وغرض اللقاء إبرام صفقة مال سياسي. نشرت المقطع وسائل إعلام جادة بعد التحقق من صحّته والتدقيق في محتواه، واختير توقيت النشر بعناية قُبيل الانتخابات الأوروبية المقررة بعد أيام، فجاء التسريب الصحفي صادماً بحقّ.

يفضح المقطع سعي شتراخه إلى استمالة المال السياسي الروسي، ويكشف نزعته الجارفة للسيطرة على وسائل الإعلام، وتحايله لتمويل حملات انتخابية بخلاف ما تقرره الأنظمة المعمول بها.

قدّم السياسي النمساوي وعوداً بإرساء عدد من مشروعات الدولة لصالح مستثمرين روس على أمل دعمه انتخابياً، كما كشف عن نيّته تصفية حسابات مع خصومه في الحياة العامة النمساوية بحجب التعاقدات الحكومية عنهم، وتفاصيل أخرى مذهلة باح بها برعونة نادرة في الوسط السياسي.

في المحصِّلة تَصرَّف نائب المستشار النمساوي خلال ظهوره المرئي المخزي كما لو أنّ الحكومة النمساوية "قابلة للبيع"، وهو تعبير اختارته "دير شبيغل" الألمانية بالفعل في إحدى تغريداتها عن الفضيحة المزلزلة، وهو ما سيرسم هالات الشكك حول ولاء أحزاب شعبوية صعدت عبر أوروبا خلال السنوات الأخيرة، لما يحظى به بعضها من علاقات حميمة مع موسكو.

هوت الفضيحة السياسية المدوية التي اندلعت ليل الجمعة 17 مايو/أيار بحزب كان على موعد مع تصدُّر نتائج الانتخابات الأوروبية بعد أيام، وبحلول صباح السبت، اضطرّ شتراخه إلى إعلان استقالته المذلّة من منصبه في مؤتمر صحفي توسّط فيه قيادة حزبه.

ظهروا جميعاً بوجوه خجولة وأعيُن تُخفي مرارة عميقة، رغم أنّ السياسي حاول في لحظة سقوطه الحرّ تقديم ذاته في هيئة الضحية، متحدثاً عن مؤامرة مخابراتية دولية، وباشر لوم عملية التنصُّت "الخارجة عن القانون".

سيجرّ الحدث تداعيات جسيمة تتجاوز نطاق النمسا إلى المشهد السياسي عبر أوروبا عموماً، وهو يحمل دروساً وعظات مؤكدة تضع الساحة السياسية في مواجهة حقائقها بعيداً عن شعارات مضللة هيمنت على المداولات العامة وتساوقت معها بعض التغطيات الإعلامية.

فالفضيحة تتعلّق بحزب اشتهر بشعارات إيحائية مرمّزة وتشبَّع بعض حملاته بمزاعم قيمية في مسعى لتشويه الآخرين ومطاردة المسلمين بصفة خاصة.

كان من مقولاته مثلاً أنه حزب "النمساويين الحقيقيين"، وهو ما يرتدّ عليه الآن بصفة مهينة للنمسا أمام العالم الذي يتابع ما يأتي من فضائح جمهورية الألب.

ثمّ إنّ هانز كريستيان شتراخه صعد بشعبية حزب الحرية منذ أواسط العقد الماضي بشعارات معادية للإسلام والمسلمين، مثل "الوطن بدل الإسلام"، ونادى بما سمّاه "وقف الأسلمة"، ونشر ملصقاً في العاصمة النمساوية سنة 2005 جاء فيه "غير مسموح أن تصير فيينا إسطنبول"، في تعبير إيحائي عن حملة الإسلاموفوبيا التي دأب عليها حزبه منذ ذلك الحين تصاعدياً وأثبتت مفعولها في صناديق الاقتراع.

تاجر حزب الحرية في حملاته السياسية بقيم مجيدة واستغلّها للانتقاص من مبادئ المساواة والحريات الدينية والشخصية وروح الوئام المجتمعي، وجعل بعض القيم والمبادئ ستاراً للتشويه وذريعة لإذكاء الإسلاموفوبيا.

ومنذ أن صعد الحزب بقوّة إلى ائتلافه الحكومي مع يمين الوسط، أي بعد اجتماع إيبيزا مع الثرية الروسية المزعومة، خاض مع المستشار سباستيان كورتس جولات متلاحقة من خطوات الحظر وفرض القيود التشريعية على المسلمين، آخرها منع التلميذات المسلمات في المدارس الابتدائية من تغطية شعورهن في إثارة انتخابية مفتعلة بعيداً عن شواغل البلاد الحقيقية.

يبدو مثيراً للسخرية الآن أنّ هوس الحظر والتقييد تذرّع طوال السنوات الماضية بحماية المبادئ الدستورية والنظام الديمقراطي ودولة القانون وقيم الدولة وثقافة المجتمع، لكنها المبادئ والقيم ذاتها التي استهان بها شتراخه وقيادة حزبه، عندما بدا في المقطع شغوفاً بشراء ذمم الصحافة بالمال الروسي والسطو على الفضاء السمعي البصري التابع للحق العام عبر حيلة الخصخصة، في غفله من شريك الحكم المنشغل بحملات متلاحقة على مساجد وأئمة ورياض أطفال المسلمين وقطع القماش على الرؤوس والجمعيات المسلمة المحلية، بعد أن سعى إلى فرض ترجمة مخصوصة للقرآن الكريم بالألمانية دون سواها.

إنّ قيادة حزب الحرية اليميني المتطرفة هي ذاتها التي ظهرت في المقطع وهي تتذاكى على أنظمة دولة القانون، وتسعى إلى الالتفاف على المبادئ الدستورية وتقويض روح الديمقراطية والإمعان في خداع الجمهور الذي استغفلته. ممّا قاله شتراخه في المقطع مثلاً، أنّ صبّ المال الروسي في أبرز صحيفة شعبية في النمسا كفيل بأن يصعد بطموح حزبه في تلك الانتخابات العامة إلى فوق الثلاثين في المئة من الأصوات بضربة واحدة.

تتهاوى مع هذا الجشع السياسي مقولات وطنية وشعارات قومية بإيحاءات متطرفة ظلّت مادة تسخين جماهيري، وعمدت إلى شقّ صفوف المجتمع وبثّ الضغائن لتحسين الرصيد الانتخابي وفرض أولويات آيديولوجية بأدوات الديمقراطية ودولة القانون، دون أن تلقى مناوأة جادة من الوسط السياسي.

باتت فيينا مع حقائق مؤلمة ليل الجمعة، منها أنّ هذا الانكشاف لم يأتِ بحملة تطهير حكومية تحت قيادة المستشار كورتس الذي يرفع شعار "التغيير" الصارم في أوروبا في حملته الانتخابية الحالية. ولم تكن المعارضة مَن نزع الستار المضلل عن الواقع السياسي المخجل، فقد تصرّفت بأدب جمّ طوال السنوات الماضية مع التصعيد الشعبوي خشية أن تخسر ما تبقى لها من رصيد لدى الناخبين.

وحده المقطع المسرَّب عبر الصحافة الألمانية أساساً هو ما كشف طرفاً من العالم المتواري خلف الواجهة السياسية المكللة بالشعارات القيمية، فظهر أحد أبرز سياسيي النمسا في هيئة مزرية شكلاً ومضموناً متحدّثاً بصحبة الفودكا عن دولة صار من بعد الرجل الثاني في حكومتها، كما لو كانت "جمهورية موز".

يبدو اندلاع هذه الفضيحة المصورة لحظة كاشفة لتدهور قيمي استمرأ فقاعة شعبوية متطرفة وتهاون مع تواطؤات تتجاوز أقصى اليمين إلى المشهد الحكومي المتحالف معها والمشهد المعارض الذي يخشى مكاشفة الجمهور بتلاعباتها.

وستكون فضيحة المقطع المصوّر عبئاً على أقصى اليمين عبر القارة في الانتخابات الأوروبية الوشيكة وما بعدها، وستحجِّم آمال تشكيل كتلة فاعلة لهذه القوى في البرلمان الأوروبي، وقد تساعد الجمهور على ممارسة النقد مع منحى التسخين العنصري وإثارة الهلع في المواسم الانتخابية. لكنّ فضيحة مدوية على ضفاف الدانوب لا تضمن وحدها المكاشفة مع السؤال الملحّ: كيف تدهورت الديمقراطية إلى هذا القعر؟

وسوم: العدد 825