صراع بين المبادئ والمصالح

في بداية دخولنا كلية الهندسة كنا ندرس مادة الرسم الهندسي، نُقَدِم اللوحة بعد رسمها للمُعَلِم فيضع علامات حمراء في موضع الخطأ.

كان لي زميل حكيم نظر إلي اللوحة بخطوطها السوداء وعلاماتها الحمراء وقال لي: هل تدري يا محمود أن مسارات حياتنا تشبه هذه اللوحة تماما.!

قلت له كيف.؟!

قال: اللوحة تتكون من خطوط مستقيمة سهلة، ثم يأتي انعطاف هذه الخطوط المستقيمة أو تقاطعاتها مع خطوط أخرى، وهنا ينبغي الحذر واليقظة والدقة لرسم تلك الانحناءات المفاجئة، وهنا يتميز الطلبة بين مُتْقِن ومُهْمِل.

إذا تأملت لوحات كل الطلبة فستجد العلامات الحمراء عند تلك الانحناءات والزوايا، فالخطوط المستقيمة سهلة الرسم والكل يستطيع رسمها بلا عناء، ولذلك موضع الاختبار الحقيقي ومحل التمايز بين الدارسين يكمن في إتقان التعامل مع تحولات السير من الخطوط المستقيمة.

وهكذا حياتنا ياصديقي، نظل نسير في مسارات سهلة اعتيادية رتيبة، حتى يأتي وقت الاختبار والأزمات والمحن والاختيارات الصعبة، فيتمايز الناس.

ثمانية وثلاثون عاماً مرت على هذا الحوار بين طالبين في عمر الثامنة عشر، لم ولن أنساه، لأنه بالفعل تجسيد لمساراتنا في هذه الحياة.

وأظن أن خلود قصة البؤساء وانتشارها على مستوي إنساني كبير يكمُنُ في التقاط "فيكتور هوجو" لتلك الحكمة.

فهو في قصته يقف عن نقطة الانعطاف في مسار بطل قصته "جان فلجان"، ويحيك حولها خيوط ذلك الصراع الإنساني حين ينعطف الإنسان إلى مواضع الاختبار.

" جان فالجان " كان سجيناً فر من السجن وصار مطلوباً للعدالة، تخفى وصار بعد حين من وجوه المجتمع بعد أن حاز أموالاً، ثم صار عمدة البلدة، واستثمر أمواله ومنصبه في خدمة المجتمع، وأنشأ مصانع يعمل بها مئات المحتاجين، وصار في أعين الناس وجيهاً نبيلاً.

نما لعلمه أنه تم القبض على شخص بدعوى أنه هو السجين الهارب "جان فالجان" وأودع البرئ في السجن ظلماً وجاري محاكمته.

هنا لحظة الصراع .

قال"جان فالجان" لنفسه: سأسلم نفسي لأنقذ هذا الإنسان البرئ.

فقالت له نفسه: وإن سَلَّمتَ نفسك فمن لهؤلاء الفقراء والعمال والناس الذين تقدم لهم خدماتك.؟

وهل تضحي بمصلحة هذا العدد الكبير من الناس من أجل إنسان واحد بسيط حتى لو كان بريئا.؟!

لن أسلم نفسي فهذا في مصلحة الجميع لا لمصلحتي الشخصية. نعم : من أجل المصلحة العامة لن أسلم نفسي.

واستمر الصراع بين ما زينه له عقله من أن بقاءه طليقاً هو للمصلحة العامة، وبين روحه التي تأبى هذه الحجة لأنها سترمي بريئاً داخل السجن.

إنها لحظة انعطاف الطريق .. لحظة الاختبار .. لحظة الاختيار بين المصالح والمبادئ .. بين الغريزة والقيم .. بين الأرض والسماء.

تعلقت أنفاس القراء بالقرار الذي سيتخذه "جان فالجان".

واتخذ القرار الصعب ... ، سَلَّمَ نفسه للسلطات واعترف على نفسه لينقذ السجين البرئ.

انتصرت المبادئ على المصالح، وتنفس القراء الصعداء، وارتاحت نفوسهم لقرار " جان فالجان "، وصفقوا له واعتبروا القصة من أروع القصص الإنسانية التي لامست أشواق الروح والقلب، وتداولوها جيلاً بعد جيل.

وماذا بعد التصفيق بحرارة لانتصار المبادئ على المصالح في الروايات والقصص الخيالية.؟!

نعود للوحة الرسم الهندسي، تستمر حياتنا في مساراتها الرتيبة السهلة، ووقت الانعطاف والاختبار، نستسلم لخطاب المصالح وحججها وأسانيدها، ونضحي بالمبادئ، تحت سقف شعارات مصلحية رنانة من نوعية : مستقبل الأولاد .. المصلحة العامة .. أمن الوطن .. الاستقرار ...

نضحي بالأبرياء .. نضحي ببراءة أرواحنا .. نضحي بالقيم على مذبح المصالح ..

نضحي بأعز ما نملك .. نضحي بجوهر إنسانيتنا.

وسوم: العدد 827