قال له عمر : إني مستعملك .. أجاب النعمان : أما جابيا فلا ، وأما غازيا فنعم

أدب وسياسة :

قال له عمر : إني مستعملك ..

أجاب النعمان : أما جابيا فلا ، وأما غازيا فنعم ...

فلخص سيدنا النعمان بن مقرن رضي الله عنه بهذا الجواب القصير أزمتنا الحقيقية بكل عمقها وتعقيداتها في هذا الزمان . ( وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ) وقد كان من سبب ضياعنا منذ الأيام الأولى لثورتنا السورية أن استنزفت عقول وطاقات خيرة شبابنا على منابر " المطاولة " أو في أعمال الجباية " الإغاثة " نصب الخيام وتوزيع الطعام ... وتنافس الناس على الأولى حتى تدابروا وهي مثل جناح بعوضة ، وعلى الثانية حتى خوّن بعضهم بعضا وفتك بعضهم ببعض.

وفي تقرير قرأته منذ السنوات الأولى للثورة السورية لناصح أمريكي ينصح المنظمات الدولية : اعتمدوا أكثر على شباب الإسلام في ميدان الإغاثة وتوزيع المساعدات فهم والكلام منقول :

الأنظف يدا ..

والأكثر خبرة ..

والأصدق سعيا ..

ثم إنكم تصرفونهم بذلك العمل الأهم والأجدى والأخطر ، فتستنزفون طاقاتهم ، وتملؤون أوقاتهم . وهذا الذي كان ..

كانت قبيلة مزينة من القبائل العربية القريبة من المدينة المنورة . وكان سيدها النعمان بن مقرن رجلا شريفا عاقلا حليما رزينا . ظل لفترة يتابع أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وصوله المدينة المنورة ، ثم إنه جلس ذات يوم إلى قومه وحدثهم عن أمر رسول الله ، وأنه ما علم عنه إلا خيرا وأنه عازم على الغدو عليه وإعلان إسلامه..

فوافقه في اليوم الثاني على أمره إخوته العشرة ، ثم سائر قومه فوفد على رسول الله بأربع مائة فارس مع إخوته العشرة وأصبحوا من يومها من جنود الإسلام . شهد مع رسول الله مشاهده . ثم كان له ولقومه أثره في عصمة المدينة المنورة يوم الردة ، وفي قتال المرتدين . ثم كان له شأن في فتح العراق . وولاه عمر في مرحلة مع إخوته جباية الفرات الأعلى فاستعفى .

ثم لما اقتربت معركة نهاوند ، فتح الفتوح ، التي أطاحت بملك كسرى ، عجم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عيدانه فلم يجد خيرا من النعمان لقيادة معركة المسلمين تلك ..

وقولنا " عجم عيدانه " هي كناية عن عمل القائد الحريص على نجاح مهمته وإدارته. عجم العيدان تعني أن يتفحص الرامي سهامه ليرمي عدوه الأخطر بسهمه الأقوم . فيكون لكل مهمة عودها المسدد الذي لا يخيب راميه ، وليس كما يفعل بعض الناس في ولاياتهم فهذا يولونه لصداقة وآخر لأنه ابن خالتهم ، وثالث عصبية ، ورابع لثقة في ولاء وليس لكفاءة في أداء .

وهذا رسول الله صلى عليه وسلم يقول في أبي ذر: ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر ؛ ثم يحجب عنه الولاية وقد طلبها ويقول له : إني آراك ضعيفا .. يا أبا ذر نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها !!

فعجم عمر عيدانه ، أي استعرض من حوله من رجال وصحابة فعاد عليه الرأي والنصح للأمة أن يستعمل سيدنا النعمان بن مقرن من جديد فأرسل إليه يعلمه ..

ذلك أن الولايات في فقه هذه الأمة : عقود ، لا بد أن يرضى بها طرفاها العاقد والمعقود له . فقال عمر للنعمان : إني مستعملك ، أي موليك ولاية ..

والنعمان كان في الجاهلية سيد قومه وظل في الإسلام من الخيار الذين فقهوا فيرد على عمر : أما جابيا فلا ..

فهو عند نفسه أعظم وأكبر وأهم من أن يشتغل على جمع الصدقات أو الخراج أو توزيع المساعدات فهذا عمل يمكن أن يتوفر عليه الكثير من أوساط الناس ، بل من النساء والفتيان ولا يحتاج أن يشتغل به أصحاب الهمم العلية ، والإرادات القوية وأولي الأحلام والنهى من السادة والقادة النجبا الذي كان سيدنا عمر يقوّم واحدهم بألف كما صرح بذلك لسيدنا عمرو بن العاص يوم فتح مصر ..

يرد سيدنا النعمان بن مقرن على عمر : أما جابيا فلا ...وأما غازيا فنعم ..

ويجيبه سيدنا عمر : بل غازيا ..

ويوليه معركة نهاوند ..

ويصير سيدنا النعمان مع إخوته إلى الميدان فيقف بين الصفين فيدعو بدعوة مزدوجة :

يدعو الله أن ينصر المسلمين . وأن يرزقه الشهادة ..

ويستجيب القريب المجيب الذي يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ..

ألا أشعث أغبر ذي طمرين يقسم على الله الليلة : اللهم بحقنا عليك إلا فرجت كروب المسلمين ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 827