هل يعود الرشد لقيادات السعودية قبل فوات الأوان؟

أبو يعرب المرزوقي

أعلم أن الكثير من أهل الحرمين سيرد على كلامي بأن أهل مكة أدرى بشعابها وأنه علي أن انشغل بتونس أو بما يسمونه بـ"بلادك المسكنية" واترك السعودية لأهلها فهم بألف خير ولا وجه للمقارنة بينها وبين بلاد العرب الفقيرة وهلم جرا من الكلام على "الحسد" ممن ليسوا حتى عربا أقحاحا كما يزعمون. وينسون أننا من المجاهدين وحماة الثغور أيام الفتح وهم من القاعدين لشرب القهوة وشم البخور.

كم سمعت مثل هذا ليس من الذباب فحسب بل ممن يتصورون أنفسهم "مفكرين" و"ليبراليين"و"حداثيين" ولا يدرون أنهم يقودون بلادهم إلى الهاوية. وما يجعلني مع ذلك أعود إلى الكتابه على بلد الحرمين هو الحرمان اللذان صرت أعتقد أنهما في خطر داهم إذا ظلت قيادة السعودية ونخبها النافذة بهذا الحمق والغباء.

فما حدث في الهلال -من العراق إلى لبنان-وما بدأ يحدث حول الخليج وحتى فيه بين مكوناته لا يبشر بأي خير. وقد يتحقق فيه بأسرع مما تحقق في الهلال وخاصة بعد أن تأكد الآن أن شمال اليمن صار قاعدة إيرانية واضحة مثل جنوب لبنان وأن حليفها في حرب اليمن أخطر عليها من الحوثي طلبا لتفكيكها.

فلا توجد قيادات سياسية وعكسرية وفكرية في العالم تعتقد أن الحروب تربح بالأسلحة وليس بأمرين كلاهما منعدم تماما في السعودية:

1-الكفاء العسكرية.

2-والعقيدة العسكرية.

فـيمكن أن تملك كل سلاح العالم ومع ذلك فمليشيا مدربة وذات عقيدة يمكن أن تهزمك بيسر لمجرد أنها تستعمل المطاولة والاستنزاف. وقد حاولت من البداية -بسبب تصديقي لتحليلات المرحوم خاشقجي ولعالم الاجتماع السعودي. ولا أشك في أنهما كان صادقين وحسني النية. لكنهما خدعا من الملك وبطانته من أدعياء الليبرالية المنافقين ولعلهم هؤلاء كانوا من أصحاب التقية المندسين في جهاز الدولة السعودية. فلا ننسى أن جل من كان حول صدام حسين كانوا منهم ولا يخلو بلد عربي منهم إذ هذه هي خطة الباطنية والحشاشين ولي بأمرهم دراية لأني درست فكر برنار لويس وماسينيون والفرق الغالية.

صدقت أن ما حدث في بداية حكم الملك سلمان كان ينحو إلى تعديل في سياسة السعودية في مصر وضد الربيع وهو وخطؤها الاستراتيجي المتمثل في الحرب عـلى الشعوب التي لم تكن تستهدفها بل تطلب حقوقا هي من جوهر الإسلام وحقوق الإنسان بدلا من انتهاز فرصته لتقوية صف السعودية خارجيا وللإصلاحات الضرورية للجبهة الداخلية.

ولما كنت مؤمنا بأن الحرمين في خطر -ليس بسبب دولة الملالي الحالية بل منذ نشأة الفكر الباطني لتقويض الإسلام من الداخل واحتلال روحه ومعالمه انتقاما لأسقاط العرب امبراطورية فارس-وكنت ذا دراية بمعنى الاستراتيجية والحرب كتبت رأيي للقيادات السعودية-وكنت أظنها قيادات ذات وعي بما يحاك لبلدهم-تطوعا.

وكان الدافع للكتابة في ا لاستراتيجية سماعي لبعض الخبراء السعوديين في بداية الحرب ففهمت أنهم لا خبراء ولا هم يحزنون بل مجرد ساردين لبعض التعليمات الأولية في نظرية الحرب البدائية لمتعلمين حمقى. فأشرت إلى أن ما يجري في اليمن حربان وليس حربا واحدة :

1-الحرب الأولى والأهم هي القضاء على نواة القاعدة الإيرانية على حدود السعودية. وهي الحرب التي ينبغي ان تحسم بسرعة وحسما بكل معاني الكلمة قبل أن يستفحل أمر القاعدة ولو أدى ذلك إلى دمار شامل لأن أصحابه لن يترددوا في تحقيق الدمار الشامل الذي من جنس ما حل بالعراق وسوريا إذا نجحوا في تحقيق خطتهم للإحاطة بالخلج كله بعد أكبر أقطاره واحتلا قلبه أي الحرمين الشريفين.

2-اما الحرب الثانية فهي بين اليمنيين ولا يمكن أن يعالجها غيرهم ويكفي مساعدتهم بالسلاح والمال لأنهم أقدر على الحرب من جيش السعودية وأشجع والقضية قضيتهم وهم مجتمع قبلي وعسير التضاريس. ومن ثم فالحرب ستكون طويلة ككل حرب أهلية والغطاء الدبلوماسي لن يدوم طويلا الذي ينبغي أن تستغله السعودية للحرب الأولى الأخطر على أمنها.

طبعا كنت أعلم أن الأمير الأحمق والقادة العسكريين الذين سمعتهم وهم ليسوا دونه حمقا لن يفهم ذلك لظنه أن القوة المالية للسعودية كافية لربح الحرب. ومع ذلك فقد كتبت في ذلك مرتين أو ثلاثا. وأشرت إلى أن الجري وراء انتشار الحوثيين وصالح الطالح من الغباء الاستراتيجي. فلو ركز الجيش السعودي حربه على قواعدهم بدل ذلك لعزلهم أو لفرض عليهم الرجوع إليها لحمايتها فيصفيهم أو لحال دونهم وكل مدد ولوجيستيك.

فلا يوجد قائد يفهم معنى الحرب في أرض ذات تضاريس وقبلية لا يدرك أن الحرب هي أساسا في قطع الامداد والامساك بالممرات وتمويل القبائل للحصول على ولائها بدلا من تركها نهبة لولاء صالح والحوثي وبصورة خفية الحليف الذي له نفس نفس أجندة إيران: تفكيك السعودية ليكون هو الأكبر في الخليج. ومن يذكر قضية البنك المركزي الذي لأجله حالوا دون توحيد العملة الخليجية يفهم ذلك جيدا.

قد يسأل سائل: ماذا دهاك؟ لماذا عدت للكلام في الأمر وهو قد حسم؟ لا أعتقد أنه قد حسم. فالتدارك ما يزال ممكنا. وله عدة خطوات أهمها خطوتان:

1-الصلح مع المحيط العربي من غير عملاء إيران وإسرائيل فكلاهما يريدان الإطاحة بها ومعهما عملاؤهما من العرب.

2-ارضاء الشعب بدل ترومب وصهره لأن المافيات لن يرتوي إلا بعد أن تحففا الضرع وتحصد الزرع.

وأعلم أن هذا ليس سهلا. لكن الثابت أن السعودية من دون ذلك لن تنحو من مصير العراق وسوريا واليمن ولبنان وقريبا جدا لأن ترومب لن يغامر بحرب وهو يستعد لانتخابات ويطمع في دورة ثانية لحكم أمريكا. وإيران لا تجهل ذلك. ومن ثم فستدفع الحوثي من تحت والحشد من فوق لاستنزاف السعودية بلا توقف. وينبغي أن تتخلص الأسرة الحاكمة من وهمين أقنع بهما الأمير المتخابث بأوامر إسرائيلية الأمير الأحمق:

1-أن الربيع خطر على حكم السعودية من حيث هو حكم وليس على فساده واستبداده وجهله بشروط بقائه كما حدث للملكيات في أوروبا عندما علمت شروط بقائها من خلال تبني ثورة أوروبا بعد تأكدها من استحالة هزيمتها.

2-وأن تركيا عدو للسعودية بدلا من فهم أنـها هي نفسها تبحث عن حليف لأنها مهددة مثل السعودية وإن كان الدافع عكس ما يدفع لتهديد السعودية. فالدافع هنا ليس الطمع في ثروات تركيا بل الخوف من نجاح نهضتها التي بدأت تخيف من كانوا يعتقدون أنها فقدت طموحها التاريخي واكتشفوا فشل ما خططوا له.

وإذا لم تسارع قيادات السعودية بهذين الحلين وفي أقرب فرصة وظلت تتصور أن إسرائيل وترومب ينويان مساعدتها ضد إيران فإن مبدأ الحمق لا علاج له سيصبح حقيقة في مجريات الحرب وقريبا سنسمع باحتلال جنوب السعودية خاصة ومن كان يحارب على الأرض -جيس السودان-قد ينجلي ويعود إلى بلده.

ولن يحمي السعودية جبناء الليبرالية والعلمانية الذين يريدون تجريب ما فشل في تركيا أعني التحديث السطحي بأخذ آخر ما وصل إليها الغرب من الترف وكأنه ثورة وهو في الحقيقة عورة وليس ثورة. واستعمل عورة بمعناها العربي القرآني أي ثغرة في الحماية ونقطة ضعف: تعلم الرقص بدل الحرب. وقد يفر جلهم إلى أمريكا خاصة من لهم منهم جنسيتها.

أمليت هذا النص على الراقن بعد أن سمعت بما حدث في مطار أبها. ولي فيها أصدقاء وأحباء أكاد اعتبرهم طلبة يحبون الفلسفة والفكر. ولا يمكن أن أصدق أن السعودية بعد أكثر من نصف قرن من البعثات وآلاف المبتعثين ليس لها بعد نخبة حديثة قادرة على حمايتها. المشكل هو خوف الأمراء الحمقى من شباب شعبهم.

فليطلقوا العلماء وليحرروا الشباب وسيكونوا قادرين ليس على حماية السعودية فحسب بل سجعلون الملالي يشربون السم مرة ثانية في عصرنا بعد المرة الأولى التي أنهت امبراطورية فارس في بداية التاريخ الإسلامي. وأنا واثق من أن الشباب مستعد للتضحية إذا شعر بأن البلد بلده وبأن خيراته خيراته وليست ثورة تدفع م جزية لاعدائهم في الداخل والخارج.

هذا رأيي أقوله للتاريخ. وأنا واثق أن شيوخ السعودية المسجونين ظلما وعدوانا لو تركوا أحرارا لكانوا خير محرك للحمية بين الشباب للدفاع عن الوطن. فلا أحد منهم يمكن أن يرفض حتى الشهادة من أجل حبة تراب من الحرمين. واعتبر نفسي واحدا منهم لو كان النظام السعودي حقا مخلصا للإسلام والأمة.

وأخيرا وكلامي الآن ليس موجها للسعودية وقياداتها بل لقيادات العرب الآخرين. قد نختلف مع النظام السعودي وخاصة إذا عانى الإنسان من ظلم الأمير الأحمق كما حصل لقطر من جراء الحصار أو للفلسطينين من جراء الصفقة اللعينة. لكن ذلك لا يجعلنا نصبح حلفاء لإيران. فمثلا صرت أتساءل من مدة هل مازالت الجزيرة مستقلة أم إنها صارت ضحية الاختراق الإيراني؟

بدأت أشعر وكأن ايران تبتز قطر المحاصرة حتى تجعل الجزيرة شبه ناطق بلسانها. أشعر بأن المبالغة في "تثمين" جرائم الحوثي لا تليق بقطر وقياداتها التي أعلم أنها ذات بصيرة ولا تسب المستقبل. صحيح أنهم ظلموا. لكن لو أن إيران اسقطت السعودية فلن يبقى شيء اسمه قطر بل الضفة الغربية من الخليج ستحتل مثل ضفته الشرقية. لن تحمي أمريكا أحدا.

فمن ينسى أن والد الشاه أوصى الشاه قائلا: استرددت الضفة الشرقية من الخليج وعليك أن تسترد الضفة الغربية. والملالي أحرص من الشاهين لتحقيق هذه الوصية. واعتقد أن قيادات الإمارات ميلهم إلى ذلك مع حلفهم مع أسرائيل بات أكثر من مفضوح. ومن لا يجيد قراءة البنية المادية"ونوع الترف"فيها وطبيعة النظام والحماة والعلاقة الخفية مع إيران يفهم ذلك.

ولا يوجد قطر خليجي بمأمن من هذا الخطر من الكويت إلى سلطنة عمان. ومن يتجاهل ذلك ينسى المعادلة التي عرضتها ذات مرة: أخذوا عاصمتي الخلافة الثانية والثالثة وبقيت الأولى والأخيرة. وهم يريدون أخذ الأولى استعدادا لأخذ الأخيرة. لذلك فكل عربي يحارب تركيا يمهد الطريق لإيران وإسرائيل سواء بوعي أو بغير وعي.

آمل ان يعود الرشد لنخب بلد الحرمين قبل فوات الأوان. فترومب لن يحارب إيران حتى لو غزت البحرين أو الكويت. هو يريد حلا يحمي إسرائيل من السلاح النووي المحتمل بل وأكثر من ذلك فقد يسعى بحثا عن طريقة لنزع سلاح باكستان ومنع تركيا من حماية ذاتها فضلا عن منع حماية العرب لذواتهم حتى تتمكن إسرائيل من السيطرة على الإقليم كله فيعود لإيران دور الشاه مساعدا للشرطي الإسرائيلي فيه(مساعد الشريف المعنى الأمريكي

وسوم: العدد 829