حين يتعاطف السجان في سجن تدمر

وبدأت رحلة العذاب معه مسيرتها. تنقلات من فرع إلى فرع، ومن سجن إلى سجن، ومن زنزانة إلى زنزانة. في التحقيق راح أحمد يقسم للمحقق بأنه قد بصق أربع مرات أثناء مرور جثة إبراهيم اليوسف وهي تسحل سحلا بالسيارة من أمامه، في مدرسة المدفعية بالراموسة. لكن المحقق في البداية لم يقتنع بكل ما أدلى به من إفادة وأقوال. وظل الشاب يقسم مردداً:

ــ أقسم بالله العظيم ياسيدي بأني بزقت أربع بزقات..

والمحقق يصر مواصلاً الضغط عليه:

ــ تريد الصراحة..؟ أنت لم تبصق حتى بصقة واحدة على جثة إبراهيم اليوسف.. قل لي بصراحة: هل تأثرت من المشهد؟ هل شعرت بشيء من التعاطف مع صاحب الجثة؟

ــ لا والله.. أقسم لك بأنني قد بزقت أربع بزقات ياسيدي..

ــ ذكر التقرير أنه لم يخرج من فمك أي رذاذ ولا بزاق.. وإنما نفخت الهواء نفخاً من فمك..

ــ يا سيدي يومها كنت مرضان ومكرب وكان ريقي ناشف.. أقسم لك على ما أقول..

أخيراً، وبعد تفكير وتقليب نظر في القضية، قرر المحقق ما يلي:

ــ طيب.. أنا رح أتعاطف معك.. وشايف انو انت صادق.. بس من غير الممكن اني اثبتلك بضبط إفادتك بأنك بزقت أربع بزقات.

ــ والله أربع بزقات يا سيدي..

ــ طيب.. خلينا نقسم البيدر بيناتنا بالنص، مشان ما نظلمك ولا نظلم حالنا في الإفادة.. رح أثبت بأنك بزقت بزقتين.. شو رأيك؟ هيك بكون تعاطفت معك وما ظلمتك..

ــ ياسيدي بس ضروري كمان، طالما عملت معي كل هالمعروف، أن تذكر بأني كنت مرضان في هداك اليوم.. كنت مكرّب وريقي ناشف.. لحتى ما..

ــ ولا يهمك.. كمان رح اثبت بأنو ريقك كان ناشف.. منيح هيك؟ 

ــ شكرا لك يا سيدي، وكتر خيرك.

وانتهى به المطاف أخيراً في تدمر، بالطبع كان عليه أن يعرض أمام المحكمة العسكرية الميدانية،  التي يرأسها سليمان الخطيب. هنالك تفاجأ سليمان الخطيب بأن أحمد لم يكن له ملف ادعاء، بل ولا حتى تهمة واضحة.. كل ما كان أمام قاضي المحكمة الميدانية عبارة عن سطرين فقط، ولا شيء غير ذلك.

نظر سليمان الخطيب إلى أحمد، وإلى إضبارته المحيرة المحرجة، ولم يعرف كيف سيتصرف معه أو يبدأ بالكلام.. فسأله:

ــ احكيلنا يا ابني.. شو قصتك.. مكتوب عندي انك ما بزقت على جثة المجرم ابراهيم اليوسف.. ليش يا ابني ما بزقت؟

أجابه أحمد مرتبكاً مذعوراً خائفاً، وهو يعلم يقيناً بأن مصير حياته كله سوف يتقرر في دقيقتين أمام سليمان الخطيب:

ــ والله ياسيدي بزقت.. أقسم بالله العظيم بزقت.. بزقت أربع بزقات، بس المحقق بالأول ما رضي يثبت بإفادتي ولا بزقة.. بعدين اقتنع وثبتلي بزقتين.. ويومها كان ريقي ناشف.

هز سليمان الخطيب رأسه بتفهم وتعاطف.. وقال بلهجة مسايرة ندر أن يحظى بها أحد:

ــ طيب يا ابني لا تخاف.. شوبك خايف.. أنا رح اساعدك، والمحكمة متعاطفة معك ومع قضيتك.

ثم التفت الخطيب إلى لجنة المحكمة من حوله، فشاورهم وشاوروه، بعدها أمر الكاتب المكلف بكتابة حيثيات التهم والأحكام الميدانية مملياً عليه نص الحكم:

ــ .. واستناداً إلى الفقرة د من قانون العقوبات المذكور، وبعد الاطلاع والتحقيق في الأدلة والشهادات، تبين بأن المتهم فلان، قد بزق بزقتين، وكان ريقه ناشفاً بسبب المرض، وللأسباب المخففة تقرر الحكم عليه بالسجن مع الأشغال الشاقة لمدة ثلاث سنوات.

وثلاث سنوات سليمان الخطيب ومحكمته الميدانية تعادل تقريباً حكم البراءة، وأقصى درجات التعاطف التي لا يصل إليها إلا القليلون. 

أحمد كان لا يعرف في كل المهاجع التي تنقل بينها في سجن تدمر إلا بلقبه الجديد: ( الأخ الذي بزق بزقتين وكان ريقه ناشفاً). كان اسمه الجديد كافياً للتعريف به وبقضيته. وقد تم الاحتراز عليه عرفياً بعد انقضاء فترة حكمه، وأفرج عنه من سجن تدمر بعد حوالي اثني عشر عاماً. 

#قبل_حلول_الظلام

وسوم: العدد 829