ملف السوريين في تركيا يطفو على السطح مجددا.. الأسباب والدوافع

ثمة أسباب عديدة وراء عودة مسألة اللاجئين السوريين في تركيا إلى دائرة الضوء مرة أخرى، منها ما يتعلق بظروف اللجوء السوري، وارتفاع عدد اللاجئين بحيث أصبحوا يشكلون ما يقارب 4.6% من عدد سكان تركيا، ومنها اختلاف الثقافات والعادات والتقاليد، ومنها الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا، ومنها العمليات العسكرية التي لا بد وأن يقع خلالها ضحايا من الجنود الأتراك، لكن أخطر تلك الأسباب على الإطلاق، هو التحريض السياسي الذي لجأت إليه أحزاب المعارضة التركية في توظيف وجود السوريين كورقة ضغط ضد حزب العدالة والتنمية في انتخابات بلدية استانبول الأخيرة.

تستضيف تركيا، بحسب إحصائيات وزارة الداخلية التركية، ثلاثة ملايين و630 ألف سوري تحت بند الحماية المؤقتة في تركيا، وأكثر من مليون أجنبي، من سواهم ممن لديهم بطاقات إقامة، فضلا عن 300 ألف شخص تحت بند الحماية الدولية.

وزير الداخلية سليمان صويلو، بحسب وكالة الأناضول، أشار إلى وجود 5 ملايين أجنبي مقيم في تركيا، بينهم حوالي مليون شخص في إسطنبول لوحدها. يضيف الوزير بأنه قد "تم اعتماد خطة تنفيذية تشمل ثلاثة مجالات، هي الهجرة غير القانونية، والهجرة النظامية، والحماية المؤقتة".

استطرادا، من المفيد الإشارة إلى عدم وجود نظام للجوء في تركيا، باستثناء من يأتيها من دول الاتحاد الاوربي، بحسب الاتفاق بين الطرفين. أما من يدخل تركيا قادما من خارج دول الاتحاد الأوربي، فيعامل وفق قانون الحماية الدولية، الذي يسري على السوريين في تركيا، ويعاملون من خلاله.

بشكل مفاجئ ودون سابق إنذار، بدأت وزارة الداخلية، سلسلة من الإجراءات تجاه السوريين، في مدينة

إستانبول على وجه الخصوص، صاحبتها سلسلة لقاءات مع جمعيات ومنظمات مجتمع مدني وشخصيات قيادية سورية.

تميزت تلك اللقاءات بحرص المسؤولين الأتراك، وفي مقدمتهم وزير الداخلية سليمان صويلو، على شرح دوافع وحيثيات وضرورات الإجراءات الجديدة بالدرجة الأولى، ثم سماع آراء ومطالب وشكاوى السوريين خلال لقائه عددا من قادة الرأي، ومنظمات المجتمع المدني السورية.

بات من الواضح أن توقيت القرارات الأخيرة بشأن السوريين، مرتبط بشكل مباشر بالتطورات السياسية الداخلية التركية، حيث بدأ الحديث بصوت مرتفع عن تسبب السوريين المباشر في خسارة حزب العدالة والتنمية رئاسة بلدية إستانبول.

** مبدأ الأنصار والمهاجرين

رغم حملات التشكيك في نوايا تركيا، التي تسهر عليها أجهزة دول ومراكز مخابرات متخصصة في الحروب النفسية، فإن الرئيس رجب طيب أردوغان كان ولا يزال صادقا ومخلصا في اعتماد مبدأ الأنصار والمهاجرين، ليس مع السوريين وحدهم، بل مع جميع الشعوب المظلومة التي قصدت تركيا. إذ يزخر تاريخ تركيا باستيعابها لجميع موجات اللاجئين والنازحين الذين قصدوا بلاد الأناضول، ليس ابتداء من البوسنيين والأفغان والبلغار والعراقيين، وليس انتهاء بالسوريين وغيرهم من متضرري ثورات الربيع العربي.

ولا يبدو أن الرئيس أردوغان قد ابتعد أو حاد عن مبدأ الأنصار والمهاجرين لحظة واحدة، لأنه موقف إنساني نابع من القيم التي يتبناها أردوغان ويدافع عنها، وتعتبر سر نجاحه، وتبوئه مكانة خاصة في قلوب المؤمنين في شتى بقاع الأرض.

بالنسبة لتركيا، مبدا الأنصار والمهاجرين ليس فنتازيا إيدلوجية، ولا وسيلة ينتظر منها منافع سياسية واقتصادية، إنما هو نتاج علاقات الأخوة والتعايش والتاريخ والثقافة المشتركة بين الشعبين التركي والسوري عبر التاريخ.

مبدأ الأنصار والمهاجرين ليس قرارا سياسيا مؤقتا، إنما هو خيار استراتيجي، يفرضه الدور الاقليمي الذي تضطلع به تركيا كدولة رئيسية في المنطقة، مما يوجب عليها تحمّل مسؤوليات وأعباء إضافية.

** معوقات عودة السوريين إلى المناطق المحررة درع الفرات وغصن الزيتون

غالبية السوريين في بلاد المهجر، ينتظرون اللحظة التي يتم فيها تأسيس الأمن من أجل العودة إلى بيوتهم، وهذا مسؤولية الدول المشاركة في المعادلة السورية، ومنها تركيا التي تتضطلع بمهمة الإشراف على منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون.

وقد رأينا عندما تم تأمين الحد الأدنى من الأمن، عودة حوالي 335 ألف لاجئ سوري إلى منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون، هذا بالرغم من أنه من المبكر لأوانه الحديث عن أمن مستتب في تلك المناطق، حيث لا تزال العمليات الإرهابية تستهدف أمن المواطنين بشكل شبه يومي.

وهنا لا بد من الإشارة إلى الصعوبة البالغة في تأسيس الأمن، بسبب موجات النزوح الداخلي، التي أدت إلى زعزعة النسيج الداخلي للمجتمع السوري، بدأ بموجات التهجير القسري باتجاه الشمال الذي فرضها الروس والايرانيون على سكان حمص والغوطة، وليس انتهاء بعمليات التغيير الديموغرافي التي تمارسه الميليشيات الانفصالية في مناطق شرق سوريا.

** المخالفات في عملية ترحيل المخالفين للقانون

ثمة ظروف ضاغطة دفعت حكومة العدالة والتنمية إلى إعادة النظر في ملف وجود السوريين في مدينة إستانبول على وجه التحديد. حيث أصبحت مشكلة ينبغي حلها على وجه السرعة، لذلك فقد ترافقت إجراءات ترحيل المخالفين، مع سلسلة لقاءات جمعت المسؤولين الأتراك بممثلي هيئات المجتمع المدني السورية.

تعاطي السلطات الأمنية المتسرع والنزق مع ملف المقيمين السوريين في إستانبول، أدى إلى وقوع أخطاء وانتهاكات بحق بعض السوريين أثناء حملة الترحيل، لا أعتقد أن صاحب القرار، وخصوصا الرئيس أردوغان، يرضى عنها. مثل تسفير شاب هو المعيل الوحيد لعائلته، وعنده بطاقة الكيملك، لكنه نسيها في البيت، فتوسل لدورية الأمن أن يحضرها من بيته القريب، أو يسمحوا لأحد من أهله أن يأتي بها، فلم يجد أذنا صاغية، وتم تسفيره بغير وجه حق.

بضغوط من منظمات المجتمع المدني التركية والسورية، أقر بعض المسؤولين الأتراك بوقوع أخطاء خلال عمليات ترحيل المخالفين لقانون الإقامة، ووعدوا بالتحقيق في تلك الحوادث، ودراسة أوضاع من تضرروا ورحلوا عن طرق الخطأ، وإعادتهم إلى أماكن إقامتهم.

لا أحد يماري في حق السلطات التركية في تنظيم ملف الوجود السوري على أراضيها، فهذا حقها وهو واجبها تجاه مواطنيها، ولا أحد ينفي حقها في معاقبة المخالفين أيضا. لكن التطبيق المفاجئ، دون سابق تنبيه وإنذار، ودون منح اللاجئين مهلة وفرصة كافية لترتيب أوضاعهم، يعتبر تصرفا متعجلا لا يليق بتركيا الدولة، ولا بحكومة العدالة والتنمية التي رفعت شعار الانصار والمهاجرين.

غض البصر عن المخالفين لقانون الهجرة لسنوات، ثم محاولة ترحيلهم خلال أيام بل ساعات، لا بد وأن يتسبب في أخطاء جسيمة على صعيد حقوق الإنسان، وسيجعل تركيا عرضة للنقد واللوم الشديد، ويفتح الأبواب مشرعة للمغرضين والمشككين، ليوجهوا سهام حقدهم ضدها، وهي التي تحتل مركز الصدارة عالميا، في مجال فعل الخير والإحسان ومساعدة للمظلومين أيا كانت هويتهم.

لا أحد ولو كان لاجئا، يمكن اقتلاعه من مكان إقامته وتسفيره خلال ساعات. حتى أولئك المخالفين، بسبب التغاضي عنهم لفترات طويلة، أصبح لديهم ارتباطات عائلية وعلاقات اجتماعية، ومتعلقات بالعمل والدراسة وحقوق الآخرين.

في القول المأثور، "جبلت النفوس على حب من يحسن إليها"، وقد أحسنت تركيا للاجئين السوريين وغيرهم، ولا ينكر فضلها إلا جاحد أو حاقد. لكن محبتها والإقرار بفضلها، لا يجب أن يقف عائقا أمام التنبيه إلى القصور والأخطاء، من أجل تلافيها ومحو آثارها، وإعادة الحقوق إلى أهلها.

** هل ساهم السوريون في خسارة حزب العدالة والتنمية رئاسة بلدية إستانبول؟

ثمة دلائل تشير إلى حالة استياء من السوريين، لكونهم أحد الأسباب الرئيسية التي أدت لخسارة حزب العدالة والتنمية في المدن الكبرى، وخصوصا انتخابات بلدية إستانبول.

ما هي أسباب هذا الاستياء؟.. وهل السوريون وحدهم من تسبب به؟

ثمة أسباب كثيرة يمكن سردها بهذا الخصوص، لكننا سنتناول أهمها كالتالي:

القانون الاستثنائي لمنح الجنسية التركية لبعض السوريين

أعلن الرئيس أردوغان عزم بلاده منح عدد من السوريين الجنسية التركية، من خلال قانون استثنائي، بهدف الاستفادة من الكفاءات والخبرات المتوفرة لديهم.

من الطبيعي جدا أن تقوم أحزاب المعارضة بالاعتراض على قانون تجنيس السوريين، لكن من حقها أيضا أن يعرض عليها في البرلمان لكي يتم مناقشته كبقية القوانين.

الأهم من ذلك أن هذا القانون لم يتم شرحه بالقدر الكافي لرجل الشارع العادي. مما تسبب ببعض الاعتراضات التي انعكست على السوريين بالسلب.

يقول جاري شنر  Şenerالمحب للسوريين والمرحب بوجودهم :" أن يبقى السوريون في تركيا سنوات طويلة فهذا مفهوم بسبب ظروف الحرب، وانعدام الأمن في بلادهم، لكن أن يمنحوا الجنسية التركية، فلا أجد له مبررا". هناك أتراك كثر يشاركون جاري مخاوفه، ولا يلقون بالا، وربما لا يدركون البعد الاستراتيجي لعملية التجنيس كما يراها الرئيس أردوغان. وهنا نقف مرة أخرى

وجها لوجه أمام قصور ماكينة حزب العدالة والتنمية في شرح حيثيات القانون، وإقناع المواطن العادي بتوجهات الحكومة بهذا الأمر.

في الجهة المقابلة، تسبب الإعلان عن منح الجنسية التركية للسوريين، في ولادة أمل لدى ملايين السوريين داخل تركيا وخارجها، بإمكانية بل بأحقية كل واحد منهم بالحصول على الجنسية التركية، مما خلق سباقا محموما، وفتح الباب واسعا أمام الاستغلال، وسلبيات كثيرة لا يتسع المقام لذكرها.

هذا القانون فضلا عن كونه أحد الأسباب الرئيسية المؤدية لحالة الاستياء من السوريين، فإنه لم يرض السوريين أنفسهم. فباستثناء من حصلوا على الجنسية التركية، يعترض الباقون بأنها منحت لمن لا يستحقها.

مسألة الانفاق على السوريين

تقول المصادر الحكومية بأن مجموع ما تم إنفاقه على السوريين حتى الآن، تجاوز 37 مليار دولار. هذا الرقم أصبح يثير حفيظة المواطن التركي، خصوصا وأن البلاد تعيش حالة ركود اقتصادي، وخصوصا أن المواطن لا يعرف/ ولم يشرح له آلية حساب هذا المبلغ الضخم، ولا طريقة إنفاقه، هذا بالإضافة إلى تحريض المعارضة ودعاياتها السلبية.

تمايز السوريين وضعف اندماجهم في المجتمع التركي

اجتماعيا، عموما انغلق السوريون على أنفسهم، ولم يخالطوا جيرانهم الأتراك، ولم يحتكوا بهم، ولم يعايشوهم ولم يشاركوهم مناسباتهم الاجتماعية.

اقتصاديا، بنى السوريون لأنفسهم اقتصادا مستقلا ومنغلقا، يتناسب مع ثقافتهم في الطعام والاستهلاك. فأسسوا صناعاتهم الخاصة بهم، وفتحوا محلاتهم التجارية التي تروج لمنتجاتهم المتمايزة في غالبها عن منتجات أهل البلد.

هذا التمايز وعدم الاندماج، خلق عند الطرف الآخر حالة من التوجس والحذر، أعقبتها حالة من الاستياء.

ومما زاد الطين بلة، الحركة الدؤوب لدى السوريين، إذ أصبح من المستحيل الذهاب إلى مكان لا يوجد فيه سوريون، وخصوصا في إستانبول، مقابل عادة التزام البيوت عند أهل البلد.

صعود الخطاب القومي بسبب كثرة الانتخابات في الآونة الأخيرة

كل استحقاق انتخابي لا بد وأن يصاحبه استقطاب سياسي وتوتر اجتماعي. إذ تعمد الأحزاب السياسية المتنافسة إلى استخدام جميع ما في حوزتها من أوراق. وتعد مسألة اللاجئين السوريين من أهم الأوراق التي تستخدمها أحزاب المعارضة في الهجوم على الحكومة.

كثرة استخدام الورقة السورية في المناكفات السياسية، ساهمت في خلق أجواء سلبية ضد السوريين.

وأخيرا، فإن سياسة الدولة التركية حيال المسألة السورية لم تتغير، بل على العكس أصبح الاهتمام بالقضية السورية مسألة أمن قومي بالنسبة لتركيا. وبالتالي فإن الإجراءات بحق المخالفين مسألة فرضتها ظروف معينة، سوف تنتهي بانتفاء تلك الظروف.

السوريون بأمس الحاجة أكثر من أي وقت مضى، إلى الاندماج في المجتمع التركي، والبعد عن التقوقع والانعزال. إذ المخالطة والدفع بالتي هي أحسن، تجعل الآخر المستاء وليا حميما.

وسوم: العدد 835