علي شريعتي: لماذا نعظم كربلاء ونستهين بالحج؟

محمد عياش الكبيسي

هكذا طرح المفكر الإيراني علي شريعتي سؤاله قبل ما يزيد على أربعين سنة: (حقيقة لماذا يعظّم الشيعي كربلاء، بالرغم من استهانته بالحج؟).

نعم هكذا بالنص ص84 من كتابه التشيّع مسؤولية! الذي نشرته دار الأمير الشيعية في لبنان، ثم يردف بعد أسطر: "إن زيارة الحج والاتجاه إلى الله ليست بالذهاب إلى الكعبة، بل بالذهاب إلى الحسين"! وبعد تقريره لهذه العقيدة الخطيرة راح يسوق المسوّغات والتي تتلخّص عنده بقوله: "لقد صارت الكعبة وصار الطواف بالكعبة قاعدة دعاية عظمى لجهاز الخلافة… إذًا وقد سقط الحج كشعار في يد العدو ما العمل؟ الاتجاه معلوم ومعروف، الطواف بقبر الحسين هو إذاً الطواف حول الكعبة الحقيقية"!

واستطراداً يمكن أن نسأل شريعتي هذا: هل يا ترى الحج وحده هو الذي سقط بيد العدو؟ فيجيبك بكل صراحة: لا، بل (القرآن، والسنّة، والحج، والجهاد، والمسجد... فماذا يمكن إذن أن تكون شعارات الطبقة المحكومة المحرومة؟ هذه الطبقة التي ترى الشعارات الأصيلة للإسلام في يد العدو، فتنهض للبحث عن شعارات ومرتكزات وأسلحة جديدة) ثم يبدأ بتفصيل هذه المرتكزات البديلة: الولاية بديلاً عن النبوّة، والعترة بديلاً عن السنّة، والخمس بديلاً عن الزكاة، والحسينية بديلاً عن المسجد! ثم تمادى فوق هذا فراح يطرح سؤالاً آخر: (لكنهم لا يفتؤون يتحدّثون عن مناقبه، يقصد سيدنا علِيّا رضي الله عنه، وكراماته ويرفعونه إلى مصافّ الآلهة، وأنا وأنت من المفكرين نتعجب متسائلين: لماذا كل هذا الغلوّ؟ فإذا عدنا إلى التاريخ ووجدنا الظلم الذي حاق بهذه الأسرة لما توقفنا عن الدهشة فحسب، بل واعتبرنا ما يحدث لازماً).

إن علي شريعتي الذي سوّقته بعض الجماعات الإسلامية كنموذج للاعتدال وأدخلت بعض كتبه في مناهجها التربوية، بينما سوّقته بعض الأبواق العلمانية على أنه رمز من رموز العلمانية الظريفة، هؤلاء جميعاً ربما سيصطدمون كثيراً حينما يرون أن هذا (المعتدل) يدعو صراحة لتأسيس دين جديد بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وهذه ضرورة للمشروع الفارسي الكبير لتصدير الثورة واستبدال أمة مكان أمة، من هنا كان أئمة (التشدّد) الشيعي يثنون بشكل لافت على هذا المعتدل، يقول فيه (الولي الفقيه) الخامنئي: (إن النجاح الذي حقّقه شريعتي لم يحققه سواه) مجلة الوحدة، العدد162.

ويقول بهشتي أحد أكبر أقطاب الثورة الخمينية: (لقد أوجد الدكتور علي شريعتي طوال السنوات الحساسة من عمر الثورة الإسلامية جواً حماسياً مؤثراً، وكان له دور بنّاء في جذب الطاقات الشابّة)، التشيع العلوي..ص6.

أما آية الله محمود الطالقاني، وهو الذي لا يكاد ينافسه أحد في حظوته عند الخميني فقد قال: (لقد استطاع، شريعتي، أن يبلور ذلك النهج الإسلامي الذي هو كفيل بتغيير أمة بكاملها... أرجو من الله أن يحفظ أفكار ونظريات ذلك الإنسان العظيم.. ناضلوا وسيروا على الدرب الذي انتهجه شريعتي) من كلمته في الحفل التأبيني لذكرى وفاة شريعتي، التشيع العلوي..ص12.

بقي أن نعرف ما هي الأصول المرجعية التي اغترف منها شريعتي فلسفته هذه، بعد أن صرنا نرى الحج إلى كربلاء، واتخاذها قبلة واقعاً وشعاراً تتغنى به عمائم دينية وأقلام سياسية!

إن ما طرحه شريعتي هنا ليس جديدا، فهناك الكثير من الروايات الشيعية التي يمكن اعتبارها مستندا لطروحاته، إنما الذي يسجل له هذه الجرأة في وقت كان النهج السائد فيه هو نهج التقية الذي اتخذ من شعار التقريب أداة لتخدير الأمة، ومركبا لحمل المؤيدين الذين تستهويهم الأضواء والضوضاء والشارات والشعارات حيث كان الخميني بحاجة إلى هذه الأبواق أيام حربه الطويلة مع العراق، أما اليوم وبعد أن خلعوا قناع التقية فقد بان ما كان مستورا، وصار التهديد بغزو الكعبة والاستهانة بالحج تسمعه من (المعتدلين) قبل المتشددين، ومن دعاة (التقريب) قبل دعاة التبعيد، وصار شخص مثل نوري المالكي القيادي في حزب الدعوة -الذي كان يصنّف ضمن الأحزاب المنفتحة والمتنورة- يطالب بالتوجه إلى كربلاء خمس مرات في اليوم!

لقد اعتمدت الروايات المتعلقة بهذا الشأن مساقات متعاضدة لصناعة الرأي الشيعي العام المساند لهذه الفكرة:

المساق الأول: تعظيم كربلاء، وتفضيلها على الكعبة (خلق الله كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام وقدسها وبارك عليها، فما زالت قبل أن يخلق الله الخلق مقدسة مباركة ولا تزال كذلك) التهذيب للطوسي ج6، ص7، (عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: إن أرض الكعبة قالت: من مثلي وقد بني بيت الله على ظهري، يأتيني الناس من كل فج عميق؟ وجعلت حرم الله وأمنه؟ فأوحى الله إليها كفي وقري، ما فضل ما فضلت به فيما أعطيت أرض كربلاء إلا بمنزلة الإبرة غمست في البحر، فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضلتك، ولولا من ضمنته كربلاء لما خلقتك، ولا خلقت الذي افتخرت به، فقري واستقري وكوني ذنبا متواضعا ذليلا مهينا غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء، وإلا مسختك وهويت بك في نار جهنم) وسائل الشيعة ج6 ص403.

المساق الثاني: تفضيل زيارة كربلاء على الحج (من أتى قبر الحسين عارفا بحقه في غير يوم عيد كتب الله له عشرين حجة وعشرين عمرة مبرورات مقبولات... ومن أتاه في يوم عيد كتب الله له مائة حجة، ومائة عمرة.. ومن أتاه يوم عرفة عارفا بحقه كتب الله له ألف حجة وألف عمرة مبرورات متقبلات) فروع الكافي1/324 وغيره، وانظر تأكيدهم لفضل الزيارة في يوم عرفة!

المساق الثالث: نقل الحجر الأسود إلى الكوفة! جاء في رواية الكاشاني: (يا أهل الكوفة لقد حباكم الله بما لم يحب أحدا من فضل، مصلاكم بيت آدم، وبيت نوح، وبيت إدريس، ومصلى إبراهيم... ولا تذهب الأيام حتى ينصب الحجر الأسود فيه) الوافي 1/215، وهذه الرواية تدل على أن جريمة القرامطة في نقل الحجر الأسود إلى الإحساء لم تكن نشازا في هذا الجو العام الذي صنعته هذه الروايات التي تستعصي على الحصر.

كنا نقرأ مثل هذه الروايات على مشايخنا ودعاتنا ومفكرينا فكنا نواجه بالصدود وعدم الاكتراث، لأنها (خزعبلات) لا تستحق النظر، وأما القادة فهم دائما مشغولون بما هو أهم! لكن هذه الخزعبلات أمست اليوم دعائم المشروع الزاحف الذي ابتلع العواصم العربية، وعينه ما زالت على مكة، فليعتبر المعتبرون..

وسوم: العدد 835