تحريف التـــوراة

هل تمَّ تحريف "التوراة"؟ ومتى؟ وكيف؟ ولماذا؟!

لا يوجد بين المؤمنين من ينكِر تحريف "التوراة" على يد الأحبار؛ لكثرة الشواهد، ووضوح الأدلة، التي لا تحتاج إلى مزيد!

لكنَّ المشكلة في "المعارضين" لهذا الرأي! 

فمثلاً؛ زعم ابن تيمية "أنَّ (التوراة) كما نزلت، ولمْ تُحرَّف ألفاظها، وإنما وقع التحريف في تأويلها"! وقد أنكر عليه علماءُ عصره هذا القول المتهافت، وقرَّعوه على هذا الزعم غير المسبوق.

فقد ذكر الحافظ أبو سعد العلائي -شيخ الحافظ العراقي- فيما رواه المحدِّث "شمس الدين بن طولون" في مخطوط عن ابن تيمية، أنه قال: إن التوراة لن تُبدَّل ألفاظها، بل هي باقية على ما أُنزِلت وإنما وقع التحريف في تأويلها!

لذلك؛ قال الشيخ/ محمد زاهد الكوثري: "ولوْ قلنا لم يُبلَ الإسلامُ في الأدوار الأخيرة بمن هو أضرّ من ابن تيمية في تفريق كلمة المسلمين لَمَا كنَّا مبالغين في ذلك، وهو سهل متسامح مع اليهود يقول عن كُتبهم إنها لم تُحرَّف تحريفا لفظياً".

يبدو أنَّ "ابن تيمية" لم تمر عليه الآيات القرآنية التي ذمَّت اليهود، وكشفت عن جرائمهم في حق التوراة، كقوله -عزَّ وجل-: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ (البقرة: 79). وقوله تعالى: ﴿مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ (النساء: 46). وقوله سبحانه: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بعد مَواضِعِه﴾ (المائدة: 41).

*   *   *

ألمْ يطَّلِع "ابن تيمية" على ما قاله الصحابة والتابعون وجمهور المفسِّرين في معنى هذه الآيات، وسبب نزولها؟ ألمْ يسمع رأي علماء السلف في تلك الآيات البيّنات؟

بلْ إنَّ جميع علماء أهل الكتاب -بلا استثناء- يتفقون على تحريف التوراة، وضياع جميع النسخ الأصلية، ويعترفون أنَّ الإخفاء والتحريف والتغيير قد وقع لأسباب سياسية، وتاريخية، ومذهبية، وغيرها.

إنَّ علماء اليهود أنفسهم -الذين تخصصوا في نقد العهد القديم- يشهدون أن أسفار العهد القديم هي مزيج من الاختلافات والتحريفات، ويقولون: "إن هذه الأسفار المقدسة هي من طبقات مختلفة، وعصور متباينة، ومؤلفين مختلفين ... فلا ارتباط بينها، سواء في أسلوب اللغة أمْ في طريقة التأليف". وشهادات أحبار اليهود على التحريف، جمعها العالِم اليهودي "زالمان شازار" في كتابه (تاريخ نقد العهد القديم من أقدم العصور حتى العصر الحديث) [3].

وها هيَ دائرة المعارف البريطانيةEncyclopeadia  Pritannica – التي تعدُّ مفخرتهم العلمية- تقول: "إنَّ أسفار التوراة (العهد القديم) جُمِعتْ على عدة قرون كان آخرها في القرن الخامس الميلادي، ونتيجة امتداد زمن التأليف إلى أكثر من ألف سنة خضعت الأسفار لمؤثرات كثيرة عملت فيها بالزيادة أوْ النقصان، ولعلَّ في ذلك ما يُبيِّن بوضوح ما أصاب العهد القديم من تعديلات نتيجة لضياع النصوص، ثم التحريفات والتغييرات الناتجة عن النقل والترجمة". لذلك يتناقش رجال اللاهوت حول بعض الأسفار، وهل هي حقاً من أسفار "العهد القديم" أمْ دخيلة عليه، خاصة ما ورد في سِفْري: الجامعة، ونشيد الإنشاد!

ويقول مؤلفو دائرة المعارف وأساتذة اللاهوت المسيحيون واليهود: "إن العهد القديم كما هو بين أيدينا الآن مشكوك في صحته، بلْ في أحداثه، وبالتالي نستطيع أن نجزم بأن التوراة الحالية التي بين أيدينا غير صحيحة، وليست هي التي أنزلها الله على موسى عليه السلام".

لقد كان العهد القديم قبل أن يكون مجموعة أسفار، تراثاً شفهياً، لا سند له إلاَّ الذاكرة، وكان المنشِدون يتغنَّون بهذا التراث كما يتغنَّى شعراء اليوم بقصة الزناتي خليفة، وعنترة بن شداد!

وتقول دائرة المعارف العالمية في صـ572 تحت كلمة Bible "ولمَّا كان الكتاب المقدس عبارة عن مجموعة من الوثائق التي تلقيناها من التراث أغلبه (أساطير) وكانت الأجزاء الأخيرة من هذا التراث قد وقعت أحداثها في نحو مائة سنة بعد الميلاد، والأجزاء الأولى منه في نحو ألف سنة أو أكثر قبل الميلاد، فإنَّ دراسته تتطلب تكتيكات معينة، كذلك يجب التعرف على الكلمات التي كانت تستخدم في فحص الأدب القديم، ولمَّا كانت أقدم المخطوطات للكتب المقدسة عبارة عن نسخ مأخوذة من التراث عُدّلت وبُدّلت عدة مرات، وجب التخفيف من نقد النصوص حتى نستطيع أن نعين بقدر الإمكان الكلمات الأصلية، وأن نغمض أعيننا عما لا يتلاءم مع عقولنا". 

وتقول الموسوعة البريطانية: "إن النص السامري يختلف عن النص اليوناني في الأسفار الخمسة بما يزيد عن أربعة آلاف اختلاف، كما أن النص العبري القياسي يختلف بما يربو على ستة آلاف اختلاف عنهما".

لذلك؛ فإنَّ الكنائس مازالت مختلفة في كثير من هذه الأسفار. فالكاثوليك -مثلاً- يؤمنون بثلاثة وسبعين سِفْراً. بينما الأرثوذكس لا يؤمنون إلاَّ بستة وستين سِفْراً فقط!

ولا نعجب كثيراً مما قالته دائرة المعارف وما قاله علماء اللاهوت في شأن الكتب التي بأيديهم؛ فالكتاب "المقدس" ذاته يشهد صراحة على تحريفه: فقد جاء في (المزمور 56) على لسان الربّ: "ماذا يصنعه بيَ البشر؟! اليوم كله يُحرِّفون كلامي على كل أفكارهم بالشر"! وجاء على لسان "إشعياء" مُقرّعاً بني إسرائيل، قائلاً لهم: "يا لتحريفكم"! وفي سِفْر إرميا مخاطباً بني إسرائيل: "أمَّا وحي الربّ فلا تذكروه بعد؛ لأنَّ كلمة كل إنسان تكون وحيه، إذْ قد حرفتم كلام الإله الحيّ ربّ الجنود إلهنا". وفي (سِفْر إرمياء 8: 8) أيضاً: "كَيْفَ تَدَّعُونَ أَنَّكُمْ حُكَمَاءُ وَلَدَيْكُمْ شَرِيعَةَ الرَّبِّ، بَيْنَمَا حَوَّلَهَا قَلَمُ الْكَتَبَةِ المُخَادِعُ إِلَى أُكْذُوبَةٍ؟". وفي سِفْر الخمسينات من مخطوطات البحر الميت، ورد على لسان الربّ مخاطباً موسى عن بني إسرائيل قائلاً: "سينْسون شريعتي كلها ووصاياي كلها وأحكامي كلها".

ولعلَّ أظهر شاهد على وقوع التحريف في كتبهم تلك القبائح التي ينسبونها إلى أنبياء الله الكرام صلوات الله عليهم- مما يتنزّه عنه أقل الناس صلاحاً وسلوكاً، نعني بذلك ما نسبوه إلى نوح ولوط وداود -عليهم السلام- من شرب الخمر، والوقوع في المحارم، والغدر والخيانة! [4]

وغير ذلك الكثير مما جاء في تلك الأسفار، ولكن القلم لا يملك من الجرأة لنقل هذا الفحش وهذه الإساءات التي يرمون بها فاطر السماوات والأرض، وعالِم الغيب والشهادة.

        فــي الختـــام: نسأل ابن تيمية: إذا كانت هذه شهادة أنبيائهم على التحريف الذي مارسه اليهود بشأن التوراة؟ وإذا كانت هذه شهادة علماء اليهود على تحريف كتبهم؟ فكيف تزعم أنَّ التوراة لم تُحرَّف كلماتها؟ ومن أين أتيتَ بهذا الرأي الشاذ الذي لا يوافق عليه اليهود أنفسهم؟!! وهل ما ذهبتَ إليه هو "رأي السلف"، و"مذهب السلف"، و"موقف السلف" الذي تدَّعيه؟!

------------------------

[1]  "ذخائر القصر" (مرجع سابق).

[2]  "الإشفاق على أحكام الطلاق"، دار ابن زيدون.

[3] تاريخ نقد العهد القديم، منشورات المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة سنة 2000م.

[4] كتاب (مُشتهَى الأمم)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2018م.

وسوم: العدد 836