قتلوا الرئيس ويقتلون الشباب.. أحداث كاشفة (16)

سيف الدين عبد الفتاح

clip_image001_5e229.jpg

تمر الأيام بعد مقتل الرئيس، وبعد أن أثبتنا تلك البلاغات التي أتت من هنا وهناك على لسان أسرة الرئيس مرسي، وعلى لسان المنظمات الدولية غير الحكومية، وعلى لسان بعض البرلمانيين البريطانيين وبعض الموظفين الدوليين، فكل هؤلاء قاموا بتلك البلاغات أو تنبيهات إبان سجنه وقبل موته وبعد استشهاده، ليعقب المتحدث باسم مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان روبرت كولفيل بالقول، "إن أي وفاة مفاجئة في أثناء الاعتقال، يجب أن يتبعها تحقيق سريع وحيادي وشامل وشفاف من جانب هيئة مستقلة لتوضيح سبب الوفاة. لقد أثيرت مخاوف بشأن ظروف احتجاز مرسي، بما في ذلك إمكانية وصوله إلى الرعاية الطبية الكافية، ووصوله الكافي إلى محاميه وعائلته، خلال فترة احتجازه ست سنوات. ويبدو أنه احتجز في الحبس الانفرادي لفترات طويلة". وبوجه عام، كان الصمت الدولي على وفاة أول رئيس جمهورية منتخب بعد الثورة؛ يصب في حلقة كبرى في ذلك التواطؤ اللعين، وتلك الاستهانة المهينة من جانب قوى المعارضة ومقاومة الانقلاب؛ التي لم تقم بأدوار مؤثرة في حماية الرئيس حين حياته، ولم تقم بمتابعات ناجعة بعد مقتل الرئيس، فقد قال مرسي في جلسته في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017: "أنا لم أر أحدا على الإطلاق.. أنا حاضر غائب!!.. أنا أحاكم غيابيا.. أنا لا أعرف أين أنا؟!.. حديد وراء حديد وراء زجاج.. الشهود الذين تكلموا في المحكمة أغلب كلامهم غير صحيح بالمرة ولم يحدث على الإطلاق.. أنا عندي أربعة ملفات أساسية تتعلق بصحتي وبحياتي بالمقام الأول.. فماذا أقول.. المحاكمة بالنسبة لي هي غيابية.. أنا حاضر غائب لا أرى المحكمة ولا أرى إلا خيالات.. وكنت متأكدا عند وجود هذه الإضاءة أن المحكمة لا تراني على الإطلاق.. وضعي الآن أنا محاصر حصارا عنيفا.. أريد أن أتحدث للدفاع في حضرة المحكمة.. أين دفاعي.. لا أراه ولا أسمعه.. لم أره منذ سنين.. أين دفاعي؟ أريد أن أتحدث معه عن قضايا تخصني.. أريد أن أرى الدفاع أمام المحكمة وليس خارج المحكمة.. هذا حقي... أريد أن أجلس مع المحكمة جلسة خاصة لأقول لها ما يقال لي.. أنا مهدد وأهدَد.. فماذا أقول.. إذا أردتم جلسة خاصة.. أنا أجلس معكم جلسة خاصة في وجود أحد أفراد الدفاع اذا أردتم.. أنا أريدكم أن تعلموا حالتي".

وأيا كانت التسمية التي يطلقها البعض على هذا الأمر، من خلال الإبلاغ المتكرر والشكوى المستمرة والتجاهل العمديّ والإغفال المتواطئ من القضاة، وتجاهل شكواه الصحية، وسواء سمي ذلك بالقتل والاغتيال المباشر، أو بالقتل البطيء من جراء إهمال طبي متعمد مع سبق إصرار وترصد، فإنه أمر لا يستحق بأي حال من الأحوال الإشارة إليه بأنه إهمال طبي اعتيادي. فالأمر أبعد من ذلك بكثير، والأمر المؤكد أن هذا النظام الفاجر الذي كتب في صفحته منذ أسابيع قليلة أنه قد "أحبط خطة الأمل"؛ في رسالة رمزية بأن كل من تحدثه نفسه بالأمل هو موضع تجريم، وأن أي أمل سيواجه بالوأد في المهد بلا رحمة وبأقصى سرعة. وهكذا أراد هؤلاء من خلال إعلامهم الفاجر أن يصدروا تلك الرسالة لعموم الشعب. ومن جهة أخرى، فإنهم قد سمّوا آخر سجن قاموا على بنائه بـ"سجن المستقبل"، فأحبطوا الأمل وسجنوا المستقبل.. رسائل بعضها تلو بعض؛ تؤكد أن هذا النظام الفاجر لا يقوم إلا بالاعتقال والمطاردة والقتل، خارج إطار القانون أو بالإعدامات أو بالتصفية الجسدية أو بالقتل البطيء لشعب بأسره؛ من جراء الإفقار وإطلاق غول غلاء الأسعار عليه. وقتل بطيء من جراء منع التداوي وتقديم العلاج اللازم لهؤلاء الذين يعانون من أمراض مزمنة، أو أصابتهم أمراض خطيرة داخل السجون. ليست حالة الرئيس مرسي الأولى ولن تكون الأخيرة؛ حينما كتبنا ذلك وأشرنا إليه لم يكن ذلك تزيّدا، فتطالعنا الأخبار في صبيحة يوم الاثنين (22 تموز/ يوليو 2019) بأن اثنين من شباب مصر قد قضيا داخل زنازينهم، من جراء ممارسات ممنهجة بالقتل البطيء وعدم تقديم العلاج الضروري لحالتهما، لتكون خطة متعمدة يعبر بها ذلك النظام الانقلابي عن منهاجه الخطير في التعامل مع هؤلاء جميعا بعمليات منظمة بالقتل البطيء.

الشاب الأول اسمه عمر عادل، الذي توفي في منطقة سجون ليمان طرة في سجن طرة تحقيق، والذي اعتقل سنة 2014 وحكم عليه في "القضية 2 عسكرية" بالسجن 10 سنوات. عمر لم يستطع أهله زيارته يوم الخميس بسبب وجوده في التأديب، التأديب هو سجن داخل السجن بظروف أكثر قسوة ووحشية وتعذيب، ونفاجأ بعدها بخروج تقرير وفاته، بل مقتله، بأنه توفي نتيجة توقف لعضلة القلب. أما الشاب الآخر فهو الكيلاني حسن، الذي قتل بالإهمال الطبي في سجن المنيا، وقد اعتقل منذ ثلاث سنوات ومحكوم عليه بالسجن المؤبد. هذه ليست إلا نماذج من كثير من الشباب الذين يُقتلون بطيئا جراء الإهمال الطبي المتعمد، بل إن البعض يكتشف إصابته بالسرطان بعد خروجه من السجن، وهناك العديد من الأسماء. فكلنا نتذكر قصة الشاب مهند إيهاب الذي شارك في ثورة يناير وعمره 15 عاما، وتوفي في أمريكا خلال رحلة علاجه من مرض السرطان. هؤلاء الشباب في السجون يُقتلون لكونهم شاركوا في ثورة.

 ب

هكذا يستباح الإنسان.. هكذا تقتل مصر وتمتهن كرامتها، وحينما نرى السيسي يتحدث عن الشباب الصغير الذي شاهد وعايش الثورة وأعمارهم ثماني أو عشر سنوات وأصبحوا 16 أو عشرين عاما، فهو يدرك جيدا أن معركته الحقيقية هي مع هؤلاء الشباب.

بين اغتيال الرئيس وقتل الشباب على نحو ممنهج داخل السجون وخارجها وإحباط الأمل وتشييد سجون المستقبل؛ تكون سياسات هذا النظام الفاشية في محاولة الانتقام وقتل ثورة يناير في نفوس الناس، ولكن الأمر لا يمكن أن يكون كذلك. فعلى هؤلاء الذين يعارضون هذا النظام ويقاومون ذلك الانقلاب أن ينتفضوا جميعا، ليجعلوا من كل ذلك مناسبة لإحياء ثورة لن تموت في مواجهة نظام فاشي ظالم قاتل فاجر لا بد أن تٌكتب نهايته. ليس لنا أن نقف والحال هذه عاجزين لا نفعل شيئا، أو مشلولين لا نتحرك؛ لأن ما يحدث قد فاق كل تحمّل، ولأن هذه السياسات الممنهجة تتطلب مواجهة منظمة على المستويات كافة وفي كل المحافل الدولية؛ لتأكيد ضرورة مواجهة هذه الظروف الظالمة التي يحاول هؤلاء أن يشيعوها وأن يكرسوها تخويفا وترويعا، وإفقارا وتجويعا، وتعبيدا ليكونوا قطيعا. لقد حان وقت العمل والقيام بوضع استراتيجية متكاملة للاضطلاع بشأن المعتقلين بمناسبة هذه الحوادث التي تتوالى واحدة تلو الأخرى؛ في عمل من ذلك النظام الفاجر الذي يستخف بالأرواح ويستهين بحرمة النفوس.

وسوم: العدد 838