إقامة الأمة بديلا عن إقامة الدولة

نقصد بإقامة الدولة تأسيس حياة سياسية جديدة على دعائم علمية متينة مكان النظام السياسي المتوارث منذ الاستقلال والذي أثبت أنه ليس دولة بالمعنى الصحيح، لكن حتى هذا الواجب ينبغي تأجيله لنبدأ بإقامة الأمة، فهذا هو واجب الوقت بالنسبة لنا نحن المسلمين.

إقامة الأمة يعني استمرار الحياة الطبيعية للناس وخدمتهم ونموّ الدعوة وامتدادها حتى في غياب الدولة المنبثقة من إرادة الشعب التي تسيّرها الأمة لا العصابة أو الطغمة أو الأقلية، وإنما يتمّ ذلك عبر نشاط المجتمع المدني الذي يحتاج هو الآخر إلى إعادة تعريف وإعادة هيكلة وتنشيط حتى لا يبقى عبارة عن واحدة من تجليات استحواذ الفكر التغريبي على المجتمع المسلم كما هو الحال الآن، هنا لا بدّ من توافر الإنسان الايجابي لنتحرر من تأليه الدولة وتضخيم دورها ونعمد إلى المبادرات التنافسية والفاعلية المجتمعية، وهذا ما يضمن استمرار خدمة المجتمع مهما كان انحراف الدولة وتخاذلها.

ولنا عبرة في تاريخنا الإسلامي، فقد استمرّ عمل العلماء والدعاة والمصلحين ولم يتوقف في أي حقبة رغم انحراف أنظمة الحكم قليلا أو كثيرا، وهذا ما عليه المجتمعات المتقدمة خاصة في أمريكا وأوربا حيث تمّ التركيز على الأمة وتفعيلها حتى إن دور الدولة توارى في كثير أو تراجع في كثير من المجالات، والشرط الضروري الأول لإقامة الأمة بدل الدولة هو توفير عدد كاف من المفكرين والمبدعين والعلماء والدعاة والأثرياء أصحاب الإخلاص والكفاءة موزعين على الجمعيات والنوادي والمساجد والجامعات، ينخرطون في العمل التطوعي المؤسس على قواعد وأسس علمية عالية الجودة كما هو موجود في الغرب...هذا هو المجتمع المدني الذي يتولى شؤون العمل الخيري والدعوي ويكون له حضور فاعل في ميادين التعليم والإعلام والتنمية، وهذا الجوّ الصحي هو الذي يفسح المجال للتدافع السياسي والثقافي السلمي فيؤدي إلى إقامة الدولة التي تكون في خدمة المجتمع بروحها ونظمها وفلسفتها ومؤسساتها، حتى إذا حدث خلل بين الدولة والأمة سهل إصلاحه لأنها حينذاك قضية أمة يقظة وليست قضية نخبة منعزلة ولا أقلية تتصرف في الظلام، بهذا نتيقن أن نجاحنا لا يتوقف على فشل غيرنا كما هو سائد في ثقافة الدولة البوليسية والأوليغرشية المتخلفة...هذا أمر أساسي في التصوّر والرؤية والاستراتيجية: عملنا من أجل الأمة ليس مرتبطا شرطيا بسقوط هذا الطرف أو ذاك لأن في الساحة مجالات تستوعب الجميع، فنتعاون فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، أي لكلّ وجهة هو موليها والأمة هي الحَكم وليس القرار السياسي الفوقي أو المنفرد، معنى هذا أن المعيار هو المصلحة التي نقدمها للأمة، تعمل جميع الأطياف على تحسينها وترقيتها باستيعاب إيجابياتها وتفادي سلبياتها.

كل هذا يستدعي ضرورة الالتفاف حول مشروع الأمة التوافقي بدل مشروعات تأليه الدولة التي هي في الغالب مشروعات وهمية تستهلك الجهود والأوقات والأموال في غير طائل بل في تأجيج الصراعات بين مكوّنات المجتمع كخطة ثابتة لبقاء قوة الدولة – أي النظام الحاكم – وضعف الأمة، وهذا سيؤدي إل تطليق عقلية المؤامرة المسيطرة على الأنظمة والجماعات والأفراد والانخراط في الفعل بدل رد الفعل .

وكما نتعلم من التجارب الناجحة في تاريخنا نأخذ العبرة من المجتمعات الغربية بحيث لا يوجد من ينصب نفسه وصيا على الأمة بل الكلّ – نسبيا – يسعى إلى خدمتها ليس بالخطابة والكتابة والتجييش العاطفي فحسب بل عبر التواجد العملي الإيجابي في مجالات الأداء الاقتصادي والأمني والإداري والإعلامي والفني.

وكلمة السرّ في هذا كله هي إعادة الاعتبار للإنسان والاهتمام بالبعد الإنساني (وهو معتبر شرعا كالبعد العقدي بالتفصيلات التي يعرفها علماء الشريعة) وصبّ الاهتمام على خدمة الحلقات الضعيفة في المجتمع كالأميين والفقراء ومن لا سكن لهم والعزاب  والعوانس والمدمنين... وهذا دور النخبة التي ينبغي أن تنتقل من تقليد الخطابة إلى فنّ العمل لتنقل الأمة من الممانعة إلى المبادرة والمشاركة .

وخلافا للصراع السياسي الممتلئ بالخصومات والشكوك والهواجس فإن مشروع إقامة الأمة يرتكز على خطاب الطمأنة لأنه خطاب أفقي وليس عموديا، يجمع ولا يفرق و يصلح ولا يفسد، لا يضيق واسعا بل يترك الساحات والأبواب والفرص كبيرة كثيرة لجميع المبادرات لخدمة الأمة ، وعندما نرجعها إلى وضعها كأمة تصبح إقامة الدولة مسألة بسيطة، وعلى النخبة أن تتولى تضع- أو على الأقل تبين – مرحلة الانتقال من الغياب إلى الحس الاجتماعي أي الإحساس بالتحديات إلى مرحلة الوعي أي إيجاد قوة المعرفة والقدرة، إلى مرحلة الانتقال من الوعي إلى التطبيق.

وسوم: العدد 847