صفقة القرن: الشيطان في التفاصيل

أقترح على كل من يريد أن يتعرف عن قرب على صفقة القرن، أن يقتطع من وقته عدة ساعات، ويحمل معه قلما أصفر ليضع خطا تحت العبارات الملغومة والخطيرة والمخادعة والكاذبة، التي تنتشر في الصفقة المعنونة: «رؤية ترامب لتحسين حياة الفلسطينيين والإسرائيليين»، التي أكاد أجزم أن ترامب لم يقرأها، ولا يعرف ما بداخلها، بل أوكلت المهمة لثلاثة من غلاة الصهاينة ديفيد فريدمان وجاريد كوشنر وجاسن غرينبلات، فوضعوا هذه الوثيقة الخطيرة وأوكلوا المهمة لترامب، ليقدمها هدية لنتنياهو في احتفالية: ترامب يهدي ونتنياهو يقبل الهدية، وكأنه يمنح واحدا من عقاراته لابنه أو حفيده.

تتكون الرؤية من 181 صفحة، وتتضمن جزئين: «إطار العمل السياسي» ويتكون من 22 قسما وأربعة ملاحق، أحدها خريطة مفاهيمية، وثلاثة ملاحق عن الأمن والترتيبات الأمنية، وقد بلغ حجمه مع الملاحق 46 صفحة، والجزء الثاني «إطار العمل الاقتصادي» المكون من ثلاثة أقسام وملحق اقتصادي، وتصل صفحاته إلى 127 صفحة. وسأحاول أن أنبش في ثنايا هذه الوثيقة لكشف السم المغلف بشيء يشبه العسل، لكنه هو الآخر سم زعاف، فإذا ما تجرعتها وقبلت ما فيها، فأنت هالك لا محالة. وسأختار من بين مثالب الرؤية الخطيرة والعديدة مجموعة ملاحظات مهمة:

من يراجع الوثيقة يجد أنها تخلو تماما من ذكر الاحتلال إلا بطريقة مواربة. فالرؤية تشير إلى أن إسرائيل أعادت 88% من الأراضي التي استولت أو سيطرت عليها (تجنب كلمة احتلتها) في حرب 1967 الدفاعية. وهذا يعني أنها وضعت الآن كل العرب في سلة واحدة. فكرم إسرائيل الفائض كان جليا في إعادة سيناء إلى مصر وبالتالي تكون قد نفذت قرار 242 في غالبيته، ولم يبق تحت يدها إلا الجولان والضفة الغربية وغزة، وهذه لا تعادل إلا 12%.. والمسكينة ستعيد جزءا مما هو لها أصلا لأنها سيطرت عليه في حرب دفاعية، وكأن العرب هم من بدأ حرب 1967، وكأن مفاخرة إسرائيل بعنصر المفاجأة، الذي حسم الحرب في الساعات الست الأولى ليس صحيحا.

تعتبر الرؤية أن حرب 1948 أدت إلى هجرة عدد متساوٍ من اليهود والفلسطينيين تقريبا وفي الوقت نفسه. تقول الرؤية الترامبية: «تسبب الصراع العربي الإسرائيلي في مشكلة اللاجئين الفلسطينيين واليهود على حد سواء»، لكن إسرائيل، مشكورة، استوعبت اللاجئين، ووضعت تحت تصرفهم مصادر ضخمة يجب أن يتم التعويض عليها مقابل هذا الاستيعاب. ثم تنص الرؤية على: «يجب تطبيق حل عادل لهؤلاء اللاجئين اليهود، من خلال آلية دولية مناسبة منفصلة عن اتفاقية السلام الإسرائيلية الفلسطينية». وسيتم في المستقبل التوصل إلى اتفاقيات خاصة لتقدير تلك الممتلكات من أجل التعويض. فعلى دول شمال افريقيا ومصر والعراق، الاستعداد الآن لدفع التعويضات.

أما عن اللاجئين الفلسطينيين فتنص الوثيقة: «لن يكون هناك أي حق في العودة، أو الاستيعاب لأي لاجئ فلسطيني في دولة إسرائيل». ولكن يمكن الاتفاق على عدد محدود من اللاجئين للعودة للدولة الفلسطينية المزعومة، بموافقة لجنة إسرائيلية فلسطينية، تأخذ بعين الاعتبار القدرة الاستيعابية، ومتطلبات الأمن الإسرائيلي. فعودة أي لاجئ للدولة الفلسطينية مربوط بموافقة إسرائيل أولا، وبرؤيتها لأمنها هي. كما يجوز استيعاب خمسة آلاف لاجئ إلى الدول الإسلامية لمدة عشر سنوات.

لقد وضع من الشروط على قيام الدولة ما يجعل قيامها الفعلي أمرا مستحيلا، بل من رابع المستحيلات، لأن أحد الشروط المسبقة لقيامها نزع أسلحة حماس والجهاد، وبقية التنظيمات المسلحة، وهذا يتطلب حربا أهلية أولا. فهذا هو المطلوب منهم: «إذا أسفرت المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين عن اتفاق سلام، فلن يُتوقع من دولة إسرائيل أن تنفذ التزاماتها، بموجب اتفاق السلام الإسرائيلي الفلسطيني، إلا إذا كانت السلطة الفلسطينية، أو هيئة أخرى مقبولة لدى إسرائيل، تسيطر بالكامل على غزة، والإرهاب. المنظمات في غزة منزوعة السلاح، وغزة منزوعة السلاح بالكامل». وقيام الدولة بعد أربع سنين مرهون بموافقة إسرائيل، بعد تقييم احتياجاتها الأمنية.

تقول الوثيقة: «إن الحل الواقعي يمنح الفلسطينيين كل السلطة لحكم أنفسهم، ولكن ليس القوى التي تهدد إسرائيل. يستلزم هذا بالضرورة قيود بعض السلطات السيادية في المناطق الفلسطينية، مثل الحفاظ على المسؤولية الأمنية الإسرائيلية، والسيطرة الإسرائيلية على المجال الجوي غرب الأردن». وللتعرف على حدود الدولة فشرطها الأول كما جاء في الوثيقة: «يلبي المتطلبات الأمنية لدولة إسرائيل؛ويقدم توسعًا إقليميًا كبيرًا للفلسطينيين؛ ويأخذ في الاعتبار مطالبات دولة إسرائيل القانونية والتاريخية الصحيحة؛ ويتجنب عمليات النقل القسري للسكان العرب أو اليهود».

إذن ليس فقط تلبية متطلبات الأمن، بل مطالبات إسرائيل التاريخية والدينية، ثم سماها «صحيحة». وكأن على الفلسطينيين أن يؤمنوا بما جاء في روايات التلمود والعهد القديم، ويعترفوا بأنهم محتلون لهذه الأرض وعليهم أن يتركوها لأصحابها الشرعيين الذين مروا من هنا قبل 3000 سنة، وسموا أنفسهم عبرانيين من الفعل «عبر» أي إجتاز الحدود، ويشتق منه أيضا على رأي درويش: «عابرون في كلام عابر».

إن أكثر ما يصدم الإنسان في هذه الرؤية تقديم تبريرات توراتية للاستيلاء على الأرض، خاصة القدس. فكيف لمن يقدم حلا سياسيا لصراع على الأرض استمر لأكثر من 100 سنة، يقدم تعليلا توراتيا ليقنع الضحية، الذي لا يعتقد أصلا بالتوراة بأن المغتصب للأرض يقف الرب إلى جانبه ويدعمه، لأنه يذكر في دعائه «العام القادم في القدس» وأن القدس ذكرت في التوراة، بينما لم تذكر في القرآن (وهذا غير صحيح أصلا). فأي سفه أكثر من هذا. وما دخل الشعب الفلسطيني في هذا؟ وهل من أجل نص يختلف عليه اليهود أنفسهم، يقدم الفلسطيني أرضه وبيته وتاريخه ومستقبله؟ ثم إسمع الكذب «أصبحت القدس المركز السياسي للشعب اليهودي، عندما وحد الملك داود القبائل الاثنتي عشرة في إسرائيل، ما جعل المدينة العاصمة والمركز الروحي للشعب اليهودي، التي ظلت قائمة منذ ما يقرب من 3000 عام».

هل هناك خزعبلات أكثر من هذا، وهل كان مفهوم المركز السياسي والمركز الروحي، أو العاصمة قد تبلور آنذاك عند قبائل مهاجرة، تنتقل من مكان إلى مكان؟!

أنظر اللغة المواربة في إبقاء جميع المستوطنات في مكانها: «يجب ألا يطلب السلام اقتلاع الناس – العرب أو اليهود – من منازلهم. مثل هذا العمل، قد يؤدي إلى الاضطرابات المدنية، ويتعارض مع فكرة التعايش. تخلق ممرات النقل المتضمنة في هذه الرؤية مواصلات نقل، تقلل بشكل كبير من الحاجة إلى نقاط التفتيش، وتعزز بشكل كبير من قابلية التنقل ونوعية الحياة والتجارة للشعب الفلسطيني». إذن الجميع سيبقى في أماكن سكناهم، عربا ويهودا. وإذا تقطعت سبل الفلسطينيين بسبب المستوطنات، فالحل يكون ببناء الممرات كالأنفاق والجسور. أما بالنسبة لغور الأردن وشمال البحر الميت، فاللغة تكون واضحة تماما: «سيكون غور الأردن، وهو أمر حاسم للأمن القومي لإسرائيل، تحت السيادة الإسرائيلية».

يخترع الثلاثي فريدمان، كوشنر،غرينبلات، تعريفا جديدا لمعنى السيادة، ويريدون فرضه فقط على الفلسطينيين، أما سيادة إسرائيل فالموضوع مختلف. هذا ما يقولون: «السيادة مفهوم غير متبلور تطور على مرّ الزمن. مع تزايد الاعتماد المتبادل، تختار كل دولة التفاعل مع الدول الأخرى، من خلال إبرام اتفاقات تحدد المعايير الأساسية لكل أمة. إن فكرة السيادة كمصطلح ثابت ومعرَّف باستمرار، كانت حجر عثرة لا لزوم له في المفاوضات السابقة. الشواغل العملية والتشغيلية التي تؤثر على الأمن والازدهار هي الأكثر أهمية». المهم الهموم اليومية والعمل والأمن. أما فكرة سيادة السلطة على الأرض والشعب فهذه «موضة قديمة».

إسرائيل تريد أن تتخلص من أكبر تجمع سكاني فلسطيني في منطقة المثلث. فتقول: «يمكن أن تشمل مقايضات الأراضي التي توفرها دولة إسرائيل، مناطق مأهولة وغير مأهولة بالسكان. تتألف مجتمعات المثلث من كفر قرع، عرعرة، باقة الغربية، أم الفحم، قلنسوة، الطيبة، كفر قاسم، الطيرة، كفر برا، جلجولية. هذه التجمعات، التي تعرف إلى حد كبير بأنها فلسطينية، تم تحديدها أصلاً لتقع تحت السيطرة الأردنية خلال مفاوضات خط الهدنة لعام 1949، لكن إسرائيل احتفظت بها في النهاية لأسباب عسكرية، تم تخفيفها منذ ذلك الحين. تفكر الرؤية في إمكانية إعادة رسم حدود إسرائيل، وفقًا لاتفاق الطرفين، بحيث تصبح مجتمعات المثلث جزءًا من دولة فلسطين». والغريب أنها استثنت قريتي جت وزيمر لموقعهما الاستراتيجي والجغرافي المرتفع والمطل على الساحل من الجهة الغربية، وعلى الضفة من الجهة الشرقية. فكرة شيطانية ترتقي إلى مستوى التطهير العرقي، والرد القوي عليها يكون كالتالي: «أهلا وسهلا بتطبيق قرار التقسيم 181 (1947) بكامله.

هذا غيض من فيض. وأخيرا فالرد على صفقة القرن لا يكون بالاستمرار في رفضها لفظيا أو بعقد اجتماعات وإلقاء خطب في مجلس الجامعة العربية ومجلس الأمن ومنظمة التعاون الإسلامي ومؤتمر الاتحاد الافريقي ومجموعة ال 77 والصين… على أهمية ذلك كرديف لاستراتيجية جديدة تقوم على مبدأ «الخروج من عقلية المساومة وتبني عقلية المقاومة».

وسوم: العدد 863