الضمانات المانعة من استبداد الحاكم (3)

افتراءات المستشرقين وتصورهم الخاطئ للحكم في الإسلام

خرج علينا بعض المستشرقين وأتباعهم من مبغضي تطبيق النظام الإسلامي بأقوال باطلة، تدعي أن الإسلام ساعد على إيجاد الاستبداد في الحكم، ومن هذه الأقوال:

ماكدونالد: لا يمكن على الإطلاق أن يكون الإمام -يعني في الدولة الإسلامية- حاكماً دستورياً بالمعنى الذي نعرفه. أرنولد: إن الخلافة التي اعترف بها هكذا ( يقصد من علماء الشريعة) كانت نوعاً من الحكومة المستبدة الجائرة التي يتمتع الحاكم فيها بسلطة غير مقيدة بقيود، ويطلب من الرعايا أن تطيعه بدون تردد. مرجليوث: أيا كان الحاكم الذي يستقر الرأي على الاعتراف به، فإن الرعايا المسلمين ليست لهم أية حقوق ضد رئيس الجماعة القائم. موير: المثال والنموذج للحكم الإسلامي هو الحاكم المستبد المطلق[1].

أسباب افتراءات المستشرقين:

وأرى أن السبب في هذه الافتراءات يرجع إلى عدة أمور:

الأول: القراءة الانتقائية للتاريخ الإسلامي فهؤلاء قد بنوا فكرة لديهم، وهم يبحثون في التاريخ على ما يؤيد فكرتهم. فلا تقع أعينهم إلا على السقطات والقاذورات التي وقعت خلال التجرية الإسلامية على مر التاريخ، من أناس يمثلون أنفسهم لا الإسلام.

الثاني: الاعتماد على روايات كاذبة، وحكايات باطلة، بل وكتب عمد أصحابها إلى تزييف التاريخ الإسلامي، ومن هذه الكتب:

كتاب (الإمامة والسياسية) المنسوب لابن  قتيبة، وهو ليس ابن قتيبة الإمام المشهور صاحب كتاب (تأويل مختلف الحديث) وقد نسب الكتاب إليه زورا، لكن المحققين يرفضون ذلك. لما فيه من الكذب والأباطيل. كتاب (الأغاني) لصاحبه الأصفهاني، وهو وإن كان كتاب أدب وغناء، إلا أنه مليء بالسموم والأباطيل، وقد رد عليه وليد الأعظمي في كتاب أسماه (السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الأغاني). كتاب (نهج البلاغة) وينسبه الشيعة إلى الشريف الرضي، وقد جمع الكتاب ما ينسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكنه لا يصح.

الثالث: وجود نماذج سيئة للحاكم في التاريخ الإسلامي، مارست الاستبداد بأشكاله وصنوفه، وهذا موجود في كل الدول التي حكمت باسم الإسلام؛ ولا يستثنى من ذلك سوى دولة الخلافة الراشدة، والتي كان الحكم فيها راشدا، حيث ساد العدل، وطبقت الشورى، وتحققت المساواة، وعمت الحرية، وانتصف الناس كل الناس (المسلمون واليهود والنصارى والمشركون) من الخلفاء.

الرابع: أن هؤلاء -كما يذكر ضياء الدين الريس- قصروا نظرهم على حالة الضرورة، وما صرح به الفقهاء بشأنها[2]. وهذه الحالات حالات استثنائية وشاذة لا يمكن الوقوف عندها حتى ولو تكررت. وتناسى هؤلاء صفحات مضيئة في التاريخ الإسلامي في كل فتراته، وقد أشار إلى ذلك القرضاوي في كتابه (تاريخنا المفترى عليه) فقال: رأيناه –أي النموذج العمري- في سَميه عمر بن عبد العزيز، الذي أقام العدل، وأحيا ما مات من سننه، ورد المظالم، ومكن لدين الله في الأرض، وأعاد الحكم إلى نهج الخلافة الراشدة، حتى سماه المسلمون " خامس الراشدين"...ورغم قصر مدته، استطاع أن يبث الأمن والرخاء والاستقرار في أنحاء دار الإسلام.

رأيناه في سيرة يزيد بن الوليد، الذي ثار على ابن عمه الوليد بن يزيد، لمجونه وانحرافه، وكان يلقب "الناقص"؛ لأنه نقص من أعطيات الجند، وكان هو وابن عبد العزيز أعدل بني مروان.

رأيناه في مثل نور الدين محمود الشهيد، الذي كانوا يشبهونه بالراشدين في سيرته، وعدله، وجهاده للغزاة الصليبيين، وتصميمه على تطهير المجتمع من الظلم والفساد.

رأيناه في مثل صلاح الدين الأيوبي، الذي شهد له خصومه قبل أنصاره. شهد له الصليبيون الغربيون، الذي حاربهم وحاربوه، كما شهد له المسلمون.

صحيح أن واحدا من هؤلاء لم يبلغ مبلغ عمر؛ لأن أعوان عمر كانوا من الصحابة الكرام، وعصره كان عصر الصحابة، وهذه ميزة لم تكن لأحد ممن ذكرناهم[3].

الأخطاء يتحملها الأشخاص لا الإسلام:

والذي أحب التأكيد عليه في هذا المقام: أن وجود سقطات حتى وإن كبرت أو كثرت، فإن ذلك لا ينسب إلى الإسلام، ولا يجوز محاكمة الإسلام بها، إذ (للقرآن تعاليمه الواضحة التي توجب تساوي جميع الناس في جميع الحقوق، فإذا ما قامت خلافة تتحقق هذه التعاليم التي جاء بها القرآن، فهي التي تنطبق عليها الصفة الإسلامية، ولا يستطيع أي طاعن أن يطعنها حينئذ في سموها، وأما إذا لم تتفق هذه الخلافة مع تعاليم القرآن، فإنه لا يصح القول بأن الخلافة خلافة إسلامية[4]).

إن الإسلام بريئ براءة تامة من كل فساد أو استبداد صدر من حاكم، فهو مهما كان كغيره من رعايا الدولة الإسلامية، تحكمه قواعد، وتضبطه أحكام، فإن استبد وظلم، أو زاغ عن جادة الطريق قُوّم حتى يعتدل، وهو كما يقول ابن حزم: تجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالى وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم... فإن زاغ عن شيء منهما منع من ذلك، وأقيم الحد والحق، فإن لم يؤثر أذاه إلا بخلعه خلع وولي غيره [5].

حدود ولاية الحاكم في الإسلام:

وحدود ولاية الرئيس الحاكم في الإسلام تتقيد بمبدأين جوهريين:

ألا ينتهك القانون، وإلا ارتكب ظلماً، وهذا يسمى: تجاوز السلطة. ممارسة السلطة في مصلحة الأمة، وإلا اعتبر ذلك فساداً، وهذا يسمى: إساءة استعمال السلطة[6].

والحاكم في كلا الأمرين (تجاوز السلطة أو إساءة استخداهما) لا تقف الأمة أمامه مكتوفة الأيدي، وإنما هي له بالمرصاد: مراقبة وناصحة ومحاسبة ومقومة؛ بل وعازلة إن لزم الأمر. وهذا ما سنوضحه في المقالات التالية....

يتبع....

[1]  نقلا عن: النظريات السياسية الإسلامية / محمد ضياء الدين الريس/ ط مكتبة التراث – القاهرة/ ط سابعة/ ص 345 ، 346.

[2]  النظريات السياسية/ ضياء الدين الريس/ ص 345.

[3]  تاريخنا المفترى عليه/ يوسف القرضاوي/ ط دار الشروق ط أولى 2005م/ ص 19 وما بعدها.

[4]  رياسة الدولة في الفقه الإسلامي/ محمد رأفت عثمان/ ص 430.

[5]  الملل والنحل/ ابن حزم (4 / 84).

[6]  يراجع: المدخل إلى فقه الدولة في الإسلام / محمد العلمي/ ط دار الكلمة/ ط أولى 2010م / صـ173.

وسوم: العدد 865