دليل من أدلة الذكر الحكيم على حلول العقاب بالمفسدين

حديث الجمعة :

من تداعيات جائحة كورونا التي شغلت الناس في كل المعمور خوفا من شرها المستطير، أحاديث كثيرة عنها مس بعضها قضايا دينية عند البعض . ومن هذه القضايا قضية حلول العقاب بالمفسدين . ولقد نشر البعض مقالات أنكروا فيها حلول العقاب بالمفسدين بالرغم من أن كتاب الله عز وجل يذكر ذلك بشكل صريح لا غبارعليه .ويحسن بأهل الإيمان ألا يسايروا  هؤلاء في ما يزعمون مخافة أن يوقعهم فيما لا تحمد عقباه من قبيل الشك في ما جاء في محكم التنزيل أو لا قدر الله بلوغ حد تكذيبه  .

ومعلوم أن القرآن الكريم باعتباره الرسالة الخاتمة للناس كافة ،لا يقتصر حكمه على من نزل فيهم بل يتعدى ذلك إلى كل إنسان حتى تقوم الساعة ، وهو بذلك غير منته الصلاحية كما يزعم البعض ممن يرومون بدائل عنه مما تمليه عليهم أهواءهم . ولا مندوحة لمؤمن يحرص على ألا يخدش إيمانه بشيء من الانطلاق من هذه القناعة في التعامل مع كتاب الله عز وجل ، ولا بد أن تكون قناعته هذه في منهى الرسوخ .

ومن الأدلة التي ذكرت حلول العقاب بالمفسدين في الذكر الحكيم وهي كثيرة، قوله تعالى في سورة الروم :

(( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي كسبوا لعلهم يرجعون )) .

 وعملا بقاعدة العبرة بعموم لفظ الذكر الحكيم لا بخصوص أسباب نزوله ، وهي قاعدة اقتضاها كونه الرسالة الخاتمة للعالمين إذ لو اقتصرت أحكامها على من نزلت فيهم لما  جاز أن تكون خاتمة ولا عالمية ، ذهب المفسرون إلى أن حكم هذه الآية ينسحب على كل من أفسد في الأرض برا وبحرا مهما كان عصره أو مصره . وقد تناول بعضهم صور الفساد كتلك التي وقعت بسبب الصراع بين الفرس والروم حيث تعطلت الأسفار برا وبحرا ، وتعطلت المعاملات التجارية  في أرض العرب الذين كانوا منقسمين إلى أنصار للفرس وأنصار للروم ،وكان ذلك سببا  في حصول ضائقة .

 ويبدو أن العرب في هذا الزمان  أيضا لا زالوا كما كانوا ينتصر هؤلاء لقوم من  وينتصر آخرون لغيرهم ، وحين يقع الفساد بسبب  صراع بين هؤلاء الأغيار يكتوون  هم بناره كما كان حال أسلافهم من قبل . فها هو التنافس الاقتصادي  بين أمة الصين وأمة أمريكا قد تحول إلى صراع كانت جائحة كورونا مما أثمر ، والحديث عن كونها أداة من أدوات الصراع بينهما لا زال دائرا  لحد الساعة على الألسنة إلى أن تحسم فيه جهيزة  على حد قول المثل العربي" قطعت جهيزة قول كل خطيب "، وذلك بثبوت الدليل الدامغ .

ولنعد إلى قول الله تعالى : (( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس لنذيقهم بعض الذي كسبوا لعلهم يرجعون ))  ، لنقول ما قاله أهل العلم من المفسرين بأن الله تعالى ما أنزل الإنسان على ظهر هذا الكوكب ليستخلفه فيه  إلا وكل ما فيه  صالح لا فساد فيه ،لأنه سبحانه وتعالى منزه عن العبث مصداقا لقوله عز من قائل  : (( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ))  . وهذا يعني أن الفساد في الأرض برها وبحرها إنما هو من فعل الإنسان ، وهو إخلال بصلاحها. وقد حمل بعض المفسرين صيغة المضي في فعل " ظهر " على معنى توقع الفساد كأنه قد وقع ، وقالوا أنه كقوله تعالى (( أتى أمر الله ))  . وهذا الذي ذهبوا إليه يؤكد أن حكم هذه الآية الكريمة ينسحب على كل زمان وكل مكان ، ذلك أنه حيثما أفسد الناس في الأرض برا أو بحرا ،علما بأن العرب تسمي البوادي برا ، وتسمي الحواضر بحرا،فإنها تكون لذلك نتائج وخيمة تصيبهم . ولقد ذهب بعض المعاصرين أن هذه الآية كما انسحبت على فساد وقع في الأرض في الماضي ، فهي تنسحب على الفساد الحاصل في هذا العصر من قبيل الاحتباس الحراري... وغيره من الجوائج بما فيها جائحة كورونا وأخواتها السابقات . وذهب هؤلاء إلى أن  في هذه الآية إعجاز علمي على غرار غيرها من آيات الإعجاز التي اكتشف إعجازها  وتأكد عند أهل الاختصاص .

ولنعد إلى قول الذين أنكروا أن تكون جائحة الكورونا عقابا مسلطا على الناس  بما كسبت أيديهم أو بما أفسدوا ، لنقول إذا صح شيء مما يدور من اتهام بين الصينيين والأمريكان من أن فيروس هذه الجائحة مصنع في مختبرات الأسلحة الجرثومية ألا يعتبر هذا فساد انتهى باكتساح هذه الجائحة معظم أقطار المعمور ، والله تعالى وحده يعلم  كم سيكون مداه في الأيام المقبل لا قدر الله ؟ ولنفرض أن تصنيع جرثومة هذه الجائحة لا تعدو أن تكون مجرد  دعاية  سببها حرب كلامية بين الذين يخوضونها من أجل مآرب  بدافع سباق أوصراع اقتصادي ، فهل يخلو العالم من أنواع أخرى من الفساد لا تترتب عنها عواقب وخيمة ؟ أليس البلد الذي ظهر فيه هذا الوباء أول الأمر قد اضطهد النظام فيه طائفة من شعبه  بسبب إسلامها ، وقد لفق لها تهمة الإرهاب لتبرير اضطهادها ، ولقد صار تلفيق هذه التهمة ذريعة كل من يريد النيل من المسلمين في كل أرجاء المعمور ؟ وهل يوجد فساد أكبر من إضرام الحروب في أقطار عربية وإسلامية على وجه الخصوص ، وتزويد القوى العظمى من يخوضونها  بالأسلحة الفتاكة لمن ، بل مشاركتهم فيها بالتداريب والخبرات والمعلومات ... ؟ ألا يكون لهذا الفساد نتائج وخيمة ؟

ومع أن نتائج إشاعة الفساد في البر والبحر تعود بالسوء على المفسدين ، فإن الله عز وجل في قوله : ((  ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون )) يعطي رحمة منه فرصة للمفسدين  ليرجعوا ولينتهوا عن فسادهم ، فيعود بذلك الصلاح إلى  الأرض بر وبحرها .

والرجوع إنما يكون إلى ما شرع الله عز وجل وهو الذي وحده فقط يحصل به الصلاح، ولنضرب مثالا على ذلك بما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر من ربه عز وجل حين يقع الوباء بأرض فلا خروج منها ولا سفر إليها لمنع العدوى مع وعد بأجر الشهادة لمن صبر واحتسب وكان على يقين تام بأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله عز وجل له ،فهذا الإجراء عبارة عن مصلحة لدرء مفسدة . ولقد اضطر العالم اليوم الذي يفاخر بالمدينة والحضارة  والرقي والتطور المادي الهائل إلى هذا الإجراء ،لأنه لا يوجد بديل أفضل منه ، وبفضله تفخراليوم  الصين بؤرة جائحة كورونا بمحاصرتها والتقليل من ضحاياها . ولو تم الحرص في بداية الوباء على هذا الإجراء الرباني لما انتشر في العديد من دول العالم .

ومن المؤسف أن يشيد البعض عندنا بلجوء النظام الصيني صاحب القبضة الحديدية  كما وصفوه إلى هذا الإجراء الإسلامي بعدما ثبتت فعاليته على أرض الواقع ، وليس للنظام الصيني من فضل فيه سوى أنه أخذ به لأن الفضل فيه لله تعالى الذي أوحى به

إلى رسوله صلى الله عليه وسلم منذ خمسة عشر قرنا ليكون ذلك دليلا على صدق الرسالة الخاتمة ، وصدق الرسول الخاتم عليه أزكى الصلاة والسلام .

وفي الأخير نأمل أن تحصل قناعة أولا لدى المحسوبين على الإسلام بأن الفساد يستوجب العقاب في شريعة الله عز وجل كما جاء ذلك في كتابه الكريم ثم تحصل قناعة مثلها لمن لا يدينون بدين الإسلام ، ويكون نزول هذه الجائحة بالبشرية مهما كان نوع الفساد الذي تسبب فيها فرصة للرجوع والإقلاع عن الفساد بكل أنواعه والذي استفحل في عالم اليوم بسبب تجاسر البشر على خالقهم سبحانه وتعالى بالدعوة إلى استبدال شرعه بشرائع أهوائهم .

اللهم إنا نسألك اللطف يا لطيف ، وندعوك ضارعين لكشف السوء الذي حل بنا  ، فإنه لا يقدر على ذلك إلا أنت ، نستغفرك  اللهم لا إله إلا أنت سبحانك  إنا كنا ظالمين  ، ربنا  أصابنا الضر وأنت أرحم الراحمين ، ولك الحمد فأنت الذي لا يحمد على مكروه سواك ، حمدا حتى ترضى  وإذا رضيت وبعد الرضا ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 869