إن لم تكن زوجتي معي .. فلا

د. محمد رشيد العويد

عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن جاراً للرسول صلى الله عليه وسلم فارسياً كان طيب المرق ، فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء يدعوه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له : ( وهذه ) لعائشة رضي الله عنها ، فقال الرجل : لا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم( لا ) . فعاد الرجل يدعوه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وهذه ) قال الجار : لا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا ) . ثم عاد يدعوه ، فقال رسول الله: ( وهذه ؟ ) قال: نعم في الثالثة ، فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله . صحيح مسلم .

هذا حديث عظيم في بيان رفقه صلى الله عليه وسلم، وسعة رحمته ، وعظم عطفه وشفقته ، وخاصة بزوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن .

فعلى الرغم من أن الجار الفارسي يدعو النبي صلى الله عليه وسلم لتناول ما صنعه له من مرق وطعام ، فإنه عليه الصلاة والسلام يأبى تلبية الدعوة وحده ، فيشير إلى عائشة ليشملها الجار بدعوته ، لكن الجار يرفض فيقابله النبي صلى الله عليه وسلم برفض تلبية الدعوة دون أن تكون معه زوجته السيدة عائشة .

يكرر الجار دعوته لعل النبي صلى الله عليه وسلم يغير رأيه فيوافق على تلبية الدعوة وحده دون زوجته ، لكنه صلى الله عليه وسلم يثبت على رفضه تلبيتها دون زوجته عائشة رضي الله عنها .

حتى في المرة الثالثة يثبت صلى الله عليه وسلم على رفضه تلبية الدعوة وحده دون زوجته ، فيستجيب الجار الفارسي أخيراً ويوافق على دعوة عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم .

هذا يوجه الأزواج إلى إبعاد الأنانية ، وعدم الاستئثار بشيء دون زوجاتهم ، ولهم في النبي صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة ، يقول النووي رحمه الله : فكَرِهَ صلى الله عليه وسلم الاختصاص بالطعام دونها ، وهذا من جميل المعاشرة ، وحقوق المصاحبة ، وآداب المجالسة المؤكدة .

بينما نجد اليوم كثيراً من الأزواج يؤثرون أنفسهم على زوجاتهم ، ولا يشترطون دعوة زوجاتهم معهم ، بل نجدهم يتهربون من ذلك حتى وإن دُعين معهم .

وحين تبدي المرأة رغبتها في أن تكون مع زوجها في سفر ، أو زيارة ، أو نزهة ، فإن زوجها يتهرب متعللاً بعلة من العلل ، أو سبب من الأسباب ، وكثير منها غير حقيقي .

قد يقول لها زوجها : بقاؤك مع الأولاد أهم ، أو يقول : في المرات المقبلة إن شاء الله ، أو يقول : والله أنا رايح مجاملة ولو تُرك لي الاختيار لما ذهبت وقد يعلل ويبرر غيرهم بأنه طلب من الداعي أن تكون معه زوجته فلم يقبل ؛ دون أن يكرر الزوج طلبه ، بل قد يجدها فرصةً حتى لا يصحب زوجته معه ، وهذا على غير ما وجدنا عليه النبي صلى الله عليه وسلم الذي يشترط ثلاث مرات أن تشمل الدعوة زوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها .

وقد يبرر آخرون بأنهم مرغمون على تلبية الدعوة دون أن تكون زوجاتهم معهم عملاً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتلبية الدعوة: ( إذا دُعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها ) صحيح مسلم .

( إذا دُعي أحدكم إلى الوليمة فليُجب ) صحيح مسلم .

( إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب ، فإن شاء طَعِم وإن شاء ترك ) صحيح مسلم .

يقول النووي الذي أورد هذه الأحاديث وغيرها في باب ( الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة ) : وأما الأعذار التي يسقط بها وجوب إجابة الدعوة أو ندبها فمنها أن يكون في الطعام شبهة ، أو يخص بها الأغنياء ، أو يكون هناك من يتأذى بحضوره معه ، أو لا تليق به مجالسته ، أو يدعوه لخوفِ شرِّه ، أو لطمعٍ في جاهه ، أو ليعاونه على باطل ، وأن لا يكون هناك منكر من خمر ، أو لهو ، أو فرش حرير ، أو صور حيوان غير مفروشة ، أو آنية ذهب أو فضة ؟ فكل هـذه أعذار في ترك الإجابة .

يضيف النووي : ومن الأعذار أن يعتذر إلى الداعي فيتركه ( أي يقبل الداعي اعتذاره ) . ولو دعاه ذمي لم تجب إجابته على الأصح .

وعلى هذا فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان له إجابة الدعوة وعدم تلبيتها ، فاختار عدم التلبية إلا إذا دعيت معه زوجته عائشة ، يقول النووي : فلما أذن لها ( أي أذن الجار الفارسي حضورها مع النبيعليه الصلاة والسلام ) اختار النبي الجائز لتجدد المصلحة ، وهو ما كان عليه الصلاة والسلام يريده من إكرام جليسه ، وإيفاء حق معاشرته ، ومواساته في ما يحصل .

وأرجو أن نتأمل في الكلمات الأخيرة من كلام النووي رحمه الله : ( إكرام جليسه ، وإيفاء حق معاشرته ، ومواساته في ما يحصل ) والمقصود بهذا كله السيدة عائشة رضي الله عنها ، فهل نفعل مثل هذا مع زوجاتنا من إكرام ، وإيفاءِ حق ، ومواساة ؟!

وأرجو أن نتأمل في وصف تلبية النبي عليه الصلاة والسلام وزوجه عائشة دعوة جارهما بعد أن قال نعم في الثالثة ( فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله ) يقول النووي : ( يمشي كل منهما في أثر صاحبه ) ففي هذا بيان فرحتهما بأن يكونا معاً في تلبية الدعوة .

ولعلنا لا حظنا أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يرجع إلى زوجته عائشة ليسألها : هل ألبّي دعوته وحدي ؟

أو : هل رأيت .. إنه يأبى أن يدعوك ، فيحضرها أحدنا خير من أن لا يحضرها أحد !

أو : ماذا أفعل .. لقد طلبت منه مرتين أن يدعوك معي .. أنا حريص على هذا ، لكنه مصرٌ على رفضه .

لم يقل عليه الصلاة والسلام شيئاً من هذا ، مؤكداً أنه يحب لعائشة ما يحبه لنفسه ، ويريد لها أن تأكل مثلما يأكل ، وأن تسعد مثلما يسعد ، حتى وإن أذنت له أن يلبي الدعوة وحده .

ما أعظم الحب الذي سيفيض في قلب كل امرأة لا يتراجع زوجها عن إصراره على أن تنال من الخير مثل ما ينال ، وأن تأكل من الطعام ما يأكله ، كما قال عليه الصلاة والسلام ( أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تُقَبِّح ، ولا تهجر إلا في البيت ) . صحيح الجامع .

يبقى سؤال يخطر في الأذهان : لماذا اقتصر الجار الفارسي في دعوته على النبي عليه الصلاة والسلام وتأخر في استجابته للنبي الذي طلب مشاركة أم المؤمنين له في الدعوة ؟

يقول النووي : قالوا ، ولعل الفارسي إنما لم يدعُ عائشة رضي الله عنها أولاً لكون الطعام كان قليلاً ؛ فأراد توفيره على رسول الله عليه الصلاة والسلام .

وبعد ؛ فإن هذا الحديث يضيئ لنا صورة مشرقة من حبه عليه الصلاة والسلام ورفقه وعطفه ، وشفقته بالناس عامة ، وبالمرأة خاصة ، نحتاج كثيراً الاهتداء بها ، والاقتباس منها ، في حياتنا الزوجية اليوم ، وقد كَثُرتْ فيها النزاعات ، واحتدت فيها المشاحنات ، وسيطرت عليها الماديات ، وامتلأت قلوب أطرافها بالأنانيات .

وسوم: العدد 872