هل يتحمل العثمانيون مسؤولية تأخّر العرب؟

مصر أنموذجًا..  (مرصد تفنيد الأكاذيب)

موقف تركيا من كل من ثورات الربيع العربي، والانقلابات على الأنظمة الشرعية في دول عربية، والحصار المضروب على قطر، ومقتل الصحفي السعودي، جمال خاشقجي في سفارة بلاده بإسطنبول، كلها ملفات شائكة جعلت من تركيا هدفًا للأقلام والمنابر الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي في بعض دول الوطن العربي.

وجزافًا، اندفعت التهم الموجهة نحو تركيا، وسارت في اتجاهين: حرب موجهة نحو القيادة التركية الحالية، وأخرى بقصاصات التاريخ، فصرنا نشهد حملة ممنهجة شرسة بالغوص في كتب التاريخ، واستخراج وقائع يرون أنها "تدين" الدولة العثمانية.

وبعض هذه الوقائع لا شك صحيح، لكن استدعاؤه في هذا الوقت هو محل شبهة، والبعض الآخر تم اجتزاؤه من سياقه أو تلفيقه من الأساس، ليصبح سلاحًا يشهر في وجه أحفاد العثمانيين.

ومن نماذج هذا الاتجاه الثاني، ما يتداوله كُتّاب وصحف ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي من الزعم بأن ما أسموه بالاحتلال العثماني كان وراء تأخر نهضة الدول العربية.

والنموذج الأشهر لهذه المزاعم هو قيام السلطان العثماني، سليم الأول، لدى دخوله مصر، عام 1517م، بترحيل كبار التجار والصناع والحرفيين وموظفي الحسابات الحكومية إلى إسطنبول، فيما يشبه النفي، للعمل على بناء نهضة حضارية للدولة العثمانية، ما نتج عنه تأخر المصريين صناعيًا وحرفيًا وتجاريًا على مدى ثلاثة قرون حتى تولي محمد علي باشا زمام الأمور، عام 1805.

ابتداءً، لن نجحد الوقائع التاريخية، وما ينبغي لنا أن نفعل، فالواقعة حقيقية، وقيام السلطان سليم الأول بنقل بعض المهنيين والحرفيين والصُّناع والتجار وغيرهم إلى عاصمة العثمانيين هو أمر لا مرية فيه، وذكره مؤرخون منهم ابن إياس، في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، والذي تحدث عن "تعطيل" خمسين صنعة خلال إقامة السلطان سليم في مصر، والتي كانت ثمانية أشهر إلا إيامًا، بنص كلام ابن إياس.

وكالعادة، تلقف الباحثون والكتاب كلام ابن إياس للبرهنة على تسبب العثمانيين في تخلف المصريين عن النهضة، دون بحث موضوعي في جملة السياق التاريخي ووقائعه، ودون جمع شتات الأحداث بعضها إلى بعض لتكتمل الصورة.

ولعل من المناسب أن نستند إلى كلام ابن إياس نفسه في تفنيد هذه المزاعم، فالرجل عاصر الفتح العثماني لمصر، وكان شاهد عيان على الأحداث، والأهم من ذلك أنه مملوكي شركسي يكن العداء للدولة العثمانية، ويرى أنها أسقطت دولة المماليك في مصر والشام، فالاستشهاد بكلامه مع كونه خصمًا للدولة العثمانية، من الأهمية بمكان.

أولا: يُرد على الزعم بأن صنيع السلطان سليم سبب تأخر مصر عن النهضة ظاهر البطلان، فصناعة التخلف تحتاج إلى فترة طويلة، وابن إياس نفسه أثبت أن الفترة التي قضاها الحرفيون والصناع والتجار المصريون في إسطنبول لا تتجاوز ثلاث سنوات، ثم عادوا بعدها إلى مصر بقرار من السلطان سليمان، الذي خلَف والده سليم الأول المتوفى سنة 1520م، أي بعد ثلاث سنوات من ترحيل أصحاب الحرف والصناعات وغيرهم إلى إسطنبول.

ويقول في الصفحة 394 بالجزء الخامس من كتابه: "وفيه (أي شهر جمادى الأول 927ه) حضر جماعة كثيرة من إسطنبول ممن كان السلطان سليم شاه أسرهم وأخرجهم من مصر، فلما مات سليم شاه ابن عثمان واستقر ولده سليمان بعده، رسم بعودة الأسراء قاطبة إلى بلادهم، ورأف عليهم وأظهر العدل فيهم".

وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل يمكن لغياب بعض الصناع والتجار والمهنيين عن بلادهم ثلاث سنوات أن يتسبب بالتخلف الاقتصادي والتجاري والزراعي لبلادهم؟!

وهذا قطعًا لم يذكره هؤلاء الكتاب وأصحاب الأقلام والمنابر الإعلامية، بل أعرضوا عنه، فمجرد ذكر عودة المصريين إلى ديارهم بعد ثلاث سنوات فقط كفيل بأن يدحض هذه المزاعم.

ثانيًا: تصوير إرسال أصحاب المهن والصناعات والحرف إلى إسطنبول على أنه نفي واستغلال عثماني محض للثروات البشرية المصرية وتسخيرها، يدحضه رغبة كثير منهم في عدم العودة إلى مصر، والدليل على ذلك من كتاب ابن إياس نفسه.

فقد ذكر ابن إياس عودة الفوج الأول في جمادى الأولى، ثم تحدث عن عودة الفوج الثاني في الشهر التالي (جمادى الآخرة)، لكنه صرح بأن السلطان سليمان أصدر فرمانا بشنق من يرفض العودة إلى مصر فعادوا على إثر ذلك.

وقال المؤرخ في الجزء نفسه، صفحة 397: "وفيه (أي شهر جمادى الآخرة 927ه) قدم جماعة من إسطنبول ممن كان هناك من أهل مصر، وأشيع أن السلطان سايمان نادى في إسطنبول بأن جميع الأسراء من مصر يرجعون إلى بلادهم ومن تأخر شنق".

فهذا الفرمان دليل دامغ على أنهم لم يرغبوا في العودة إلى مصر وماطلوا في الرجوع، ما يعني أنه قد راق لهم المقام في إسطنبول.

ثالثًا: ومما يدحض كون الصناعات والحرف والمهن توقفت في مصر بالشكل الذي يمكن تسميته بالتخلف عن النهضة، أن ابن إياس حين تحدث عن تعطل الصناعات قال: "ولم تعمل في أيامه بمصر "أي توقفت زمن وجود السلطان

سليم الأول في مصر، وهو زمن يسير كما أسلفنا، يستحيل أن يكون له تأثيره على شعب بأكمله على النحو الذي يتحدث به المروجون لهذه الفرية.

ونختم بشهادة موثقة من أحد مؤرخي مصر المشهورين يقرر فيها هذه الحقيقة، وهو المؤرخ المصري عبد العزيز الشناوي، حيث تحدث عن هذه الواقعة في الجزء الثاني من كتابه "الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها".

وقال الشناوي إن "حرمان مصر من بعض عناصرها البشرية لم يستمر أكثر من ثلاث سنوات على أكثر تقدير، وقد تكون هذه الفترة الزمنية ذات بال على حياة فرد، ولكنها لا تكون بأي حال من الأحوال ذات أثر يعرقل مسيرة شعب، لأن شعوب الأمة العربية لم تبدأ من فراغ، وإنما هي ذات ماضٍ حضاري يطاول الزمن وجودًا".

وسوم: العدد 873