ما كان التوجه إلى الله عز وجل بالدعاء معيقا يعوق البحث والعلم والمعرفة

ما كان التوجه إلى الله عز وجل بالدعاء معيقا يعوق البحث والعلم والمعرفة ليصير موضوع انتقاد مرضى القلوب في هذا الزمان

مع وصول جائحة كورونا إلى بلادنا صار شغل  بعض الناس الشاغل هو تسديد سهام نقدهم إلى دين الله عز وجل ، وأكثر هذه السهام وجهت لعبادة الدعاء المنصوص عليها في كتاب الله عز وجل . وهي عبادة سجل القرآن الكريم أن الملائكة المقربين وأنبياء الله صلواته وسلامه عليهم أجمعين من لدن آدم عليه السلام إلى خاتم المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  مارسوها جميعا استجابة لأمر الخالق سبحانه وتعالى .

 فهذا نبي الله  آدم عليه السلام  يتوجه وهو وزوجه إلى ربه بالدعاء لما ارتكبا خطيئتهما  قائلين : (( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين )) ، فصارت صيغة دعاء الاستغفار والاسترحام هذه  هي الصيغة التي يدعو بها كل من ظلم نفسه . وهذا نوح عليه السلام يدعو ربه قائلا : (( فدعا ربه إني مغلوب فانتصر )) ، فصارت صيغة هذا الدعاء هي ما يدعو به كل مغلوب . وهذا إبراهيم عليه السلام يدعو ربه قائلا : (( رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام )) ،فصارت صيغة هذا الدعاء هي ما يدعو به كل من يريد الأمن ويخشى الشرك بالله . وهذا لوط عليه السلام يدعو ربه ويقول : ((  رب انصرني على القوم المفسدين )) ،فصارت صيغة هذا الدعاء هي ما يدعو به كل من يواجه الفساد والمفسدين . وهذا موسى عليه السلام يدعو ربه ويقول : (( رب اشرح لي صدري ويسّر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي )) ، فصارت صيغة هذا الدعاء هي ما يدعو به الخائف من التحدث بين يدي جبار ذي سلطان يخشى . ويدعو أيضا فيقول : (( رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير )) ، فصارت صيغة هذا الدعاء هي ما يدعو به كل من افتقر . وهذا زكرياء عليه السلام يدعو ربه ويقول : ((  رب لا تذرني فردا وأنت خير الواثين )) ، فصارت صيغة هذا الدعاء هي ما يدعو به من لا عقب له. وهذا يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت يدعو ربه فيقول : (( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين )) ، فصارت هذه الصيغة هي ما يدعو به كل من يمر بضائقة . وهذا أيوب عليه السلام يدعو ربه ويقول : ((  وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين )) ، فصارت صيغة هذا الدعاء هي ما يدعو به كل من أصابه ضر . وهذا يعقوب عليه السلام يدعو ربه ويقول : (( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله )) ، فصارت صيغة هذا الدعاء هي ما يدعو به كل محزون .

هذه نماذج من أدعية الرسل والأنبياء الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . وقد ورد في القرآن الكريم أيضا دعاء الملائكة الكرام للتائيين في قوله تعالى : ((الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم )) .

ولو كان أحد من الناس مستغنيا عن التوجه بالدعاء إلى الله عز وجل لاستغنى عن ذلك الملائكة الكرام والرسل والأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين

أما أدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم المأثورة عنه ، فكثيرة جدا لا يتسع المقام لسردها ، ويكفي أن نمثل لها على سبيل الذكر لا الحصر بما يلي :

ـ " اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار "، وهو مما علمه الله عز وجل من الدعاء .

ـ " اللهم إن أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ".

ـ "  اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني " .

ـ " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " .

ـ  " اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء ، ودرك الشقاء ، وسوء القضاء ، وشماتة الأعداء ".

ـ " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " .

ـ " اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك ، وتحول عافيتك ، وفجاءة نقمتك ، وجميع سخطك " .

لم يستنكف عليه الصلاة والسلام أن يتوجه بالدعاء إلى ربه وهو خير خلقه ، وسيد ولد آدم في أمور دنياه وأمور أخراه .

وبالرغم من كل هذا الذي ورد في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، انبرى بعض  مرضى القلوب في زماننا  لانتقاد الدعاء الذي تعبّد به الله عز وجل العباد بقوله : (( وقال ربكم  ادعوني أستجب لكم )) ، فعابوا على الناس لما حل بهم وباء كورونا توجههم إلى خالقهم بالدعاء لرفعه .ومن أجل التمويه على استخفافهم المبطن بالإسلام راحوا يعيبون على هؤلاء الناس الاقتصار على الدعاء دون البحث عن دواء للوباء ، وكأن كل من يدعو الله لرفعه يلزمه أن يتوجه إلى المختبرات للبحث عن المصول واللقحة لمكافحته ، وكأن الدعاء يقف حاجزا أو عائقا دون بحث الباحثين . وأصحاب هذا النوع من النقد السخيف ليسوا في عير ولا نفير ،فلا هم  فيمن يدعون الله  مع الداعين ، ولا هم  فيمن يبحثون مع الباحثين ، بل هم مجرد ناعقين ، علما بأن حكاية فيروس كورونا لا زالت حديث أخذ ورد ، وقد أفتى فيه بعض الحاصلين على جائزة نوبل بأنه من فعل فاعلين .فلئن صح ما ذهبوا إليه ،وهم من هم علما وخبرة واطلاعا  بعالم الجراثيم ، فإن من صنعه هو الذي يلزمه الكشف عما فعل ليستبين السبيل إلى القضاء عليه من طرف غيره إن كان هو عاجزا عن ذلك .

وإن مرضى القلوب كما سماهم الله عز وجل : (( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا )) يبدون ما لا يخفون، وقد أجاد العلامة المرحوم الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى في وصفهم وهو يفسر قول الله تعالى: (( ومن الناس من يقول آمنا بالله وما هو بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون  في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ))  . فقال  في تفسير هذا  :

" وردت في شأنهم ثلاث عشرة آية نعي عليهم فيها خبثهم ، ومكرهم ، وسوء عواقبهم ، وسفه أحلامهم ، وجهالتهم ، وأردف ذلك بشتم واستهزاء وتمثيل حالهم في أشنع الصور وهم أحرياء بذلك ،فإن الخطة التي تدربوا فيها تجمع بين مذام كثيرة إذ النفاق يجمع بين الكذب ، والجبن ، والمكيدة ، وأفن الرأي ، والبله ، وسوء السلوك ، والطمع ، وإضاعة العمر ، وزوال الثقة ، وعداوة الأصحاب ، واضمحلال الفضيلة. أما الكذب فظاهر ، وأما الجبن فلأنه لولاه لما دعاه داع إلى مخالفة ما يبطن ، وأما المكيدة فإنه يحمل على اتقاء الاطلاع عليه بكل ما  يمكن ، وأما أفن الرأي فإن ذلك دليل على ضعف في العقل إذ لا داعي إلى ذلك ، وأما البله فللجهل بأن ذلك لا يطول الاغترار به ، وأما سوء السلوك فلأن طبع النفاق إخفاء الصفات المذمومة ، والصفات المذمومة إذا لم تظهر لا يمكن للمربي ولا للصديق ولا لعموم الناس تغييرها على صاحبها، فتبقى كما هي وتزيد تمكنا بطول الزمان حتى تصير ملكة يتعذر زوالها ، وأما الطمع فلأن غالب أحوال النفاق يكون للرغبة في حصول النفع ، وأما إضاعة العمر فلأن العقل ينصرف إلى ترويج أحوال النفاق وما يلزم إجراؤه مع الناس ونصب الحيل لإخفاء ذلك ، وفي ذلك ما يصرف الذهن عن الشغل بما يجدي ، وأما زوال الثقة فلأن الناس إن اطلعوا عليه ساء ظنهم ، فلا يثقون بشيء يقع منه ولو حقا ، وأما عداوة الأصحاب فكذلك ،لأنه إذا علم  أن ذلك خلق لصاحبه خشي غدره فحذره فأدى ذلك إلى عداوته ، وأما اضمحلال الفضيلة فنتيجة ذلك كله . وقد أشار قوله تعالى: (( وما هم بمؤمنين )) إلى الكذب ، وقوله : (( يخادعون ))إلى المكيدة والجبن ، وقوله : (( وما يخادعون إلا أنفسهم )) إلى أفن الرأي ، وقوله : (( وما يشعرون )) إلى البله ، وقوله : (( في قلوبهم مرض )) إلى سوء السلوك ، وقوله : (( فزادهم الله مرضا )) إلى دوام ذلك وتزايده مع الزمان، وقوله : (( قالوا إنما نحن مصلحون )) إلى إضاعة العمر في غير المقصود ، وقوله : (( قالوا إنا معكم )) مؤكدا  قلة ثقة أصحابهم فيهم ، وقوله : (( فما ربحت تجارتهم )) إلى أن أمرهم لم يحظ بالقبول عند أصحابهم ، وقوله : (( صم بكم عمي فهم لا يعقلون )) إلى اضمحلال الفضيلة منهم . " انتهى كلام العلامة رحمه الله تعالى .

فهذا الذي ذكره ابن عاشور ينسحب تماما على مرضى القلوب الجدد في زماننا  والذين يتسمّون اليوم بأسماء تموه على حقيقتهم ،لأن هذا العصر هو عصر التمويه على الفواحش والرذائل...  وما شابه ،ألم تصر فاحشة قوم لوط علاقة جنسية مثلية ، و فاحشة الزنا علاقة جنسية رضائية ، و فقدان الشرف والإجهاض حرية جسد ،والانجاب من سفاح أمومة العزوبة ؟... إلى غير ذلك من تحوير أسماء الفواحش والرذائل لتلميعها كي تشيع في مجتمعات تدين بدين الإسلام .

ولقد كشف الله عز وجل عن مرضى القلوب فقال : (( أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم  فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنّهم في لحن القول ))  ولحن القول  كما قال المفسرون هو ما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم وهم يحاولون إخفاء ما لا يبدون .

ولئن كان مرضى القلوب زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاطون من أن يكشف أمرهم كما جاء في قول الله تعالى : (( يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون ))، فإن بعض مرضى القلوب في هذا الزمان لا يحذرون حذر أولئك ،لأنهم يظنون أن الوقت قد حان للتخلص من أقنعتهم  ليعرفوا بسيماهم ، وإن كان البعض الآخر لا زال يقدم رجلا ويؤخر أخرى حذرا  ، ولا زال لا يعرف إلا من لحن قوله الذي لم يعد خافيا فيما ينشرونه أو يصرحون به.   

وسوم: العدد 874