ثنائيات متداخلة في عملنا الحركي(6)

الواقعية واليأس(1 من 2)

جمال زواري أحمد ـ الجزائر

[email protected]

وفي الكثير من الأحيان يقع الخلط والتداخل بين مفهومي الواقعية واليأس ، فالواقعية في التفكير ، الواقعية في التصور، الواقعية في التحرك، الواقعية في التعامل ، الواقعية في السلوك ، الواقعية في الممارسة ، الواقعية في المواقف ، الواقعية في الخيارات ، الواقعية في تحديد الإستراتجيات ، الواقعية في رسم الخطط والأهداف ، الواقعية في التقييم ، الواقعية في المراجعة ، الواقعية في الاستدراك ، كل ذلك من المبادئ التي قام عليها بناؤنا الدعوي والحركي.

هذه الواقعية التي تعني أن الدعوة والحركة والفكرة ، ليست طلقة فارغة تحدث دويا ولا تصيب هدفا ، ولا طفرة عابرة تذهبها الأيام والسنون ، ولا لقمة سائغة سرعان ما يقضي عليها طاغية أو يمحو أثرها ، إنما هي نور في الفكر ، ووسطية في المنهج ، وزيادة في الخير ، وأصالة في العلم ، وهداية للخلق ، وكمال في النفس ، وطهارة في الجسم ، وسماحة في المعاملة،  ودماثة في الخلق ، وتقديم للقدوة ، وإشعاع للجمال ، وإبداع في الإنجاز ، وصلاح في العمل ، وتراكم في التجربة ، ونظام يرفض الفوضى ، ونشاط يحارب الكسل ، وحياة جد واجتهاد وجهاد في كل ميدان ، ومرابطة على قضايا الأمة ، وعمل لنهضة الأوطان، وتربية على الإيجابية ، وحفاظ على الكرامة ، وإرادة للعزة ، وحبر ومداد وورق ، وعرق ودماء زكية وشهداء ، ومكافحة للفساد ، ومقاومة للظلم ، ومحاربة للاستبداد ، وضرب على أيدي السفهاء ، وتعميق للحرية ، وإطفاء لنيران الكراهية ، وملاحقة للرذيلة ، وتمكين للفضيلة ، وقبل ذلك ومعه وبعده إرضاء لله ، وإتباع لرسوله ، ونصرة لدينه ، وحرص على  ثوابه ، وشوق إلى لقائه ، ورغبة صادقة في جنته .

متطلبات الواقعية :

1 ــ  فقه الواقع بكل مكوناته وتناقضاته وإفرازاته وإكراهاته في بعض الأحيان .

2 ــ  تصويب المنطلقات وبناؤها على معطيات صحيحة بعيدة عن التهويل أو التهوين ، وتحديد الأهداف القريبة والمتوسطة والبعيدة بدقة ووضوح ، وإبصار للأولويات ، وحسن طرح الأفكار ومناسبتها وتلاؤمها مع الواقع ، وكذلك استخدام الوسائل المناسبة للتبليغ والتوصيل السليم للأفكار والمواقف البعيد عن التشويه لا بشبهات المناوئ المتربص ولا بشهوات الغافل المغرور.

3 ــ طرح وإعداد وتحضير البدائل الملائمة والمناسبة في جميع المجالات ، وفي كل الظروف والأحوال.

4 ــ التقييم والتقويم الدائم والمستمر للأعمال والبرامج والخطط ، الذي جعله خليل الله إبراهيم عليه السلام سنة إيمانية أصّلها لكل الدعاة والعاملين من بعده حرصا على استواء بنائهم واستقامته ، حيث كان ومعه سيدنا إسماعيل عليهما السلام يرفعان القواعد من البيت ، فكانا كلما رفعا رفعة تحوّل سيدنا إبراهيم إلى مقامه الكريم فتأمّل استقامة زوايا الكعبة ، وجال بنظره في حساب وقياس ، ثم عاد يواصل مثل ما يفعل كل بنّاء اليوم ، حيث كلما بنى أحدهم قسما من الجدار نزل وأبصر وقاس واستعمل ميزانه لما قد يظهر في بنائه من نتوء أو هبوط أو نشوز أو ثغرات ، فيعود يشذب ويهذب ويستبدل ويملأ الفجوات ويسد الثغرات .

5 ــ أن تتحرك قدر إمكانياتك وتمدّ رجلك على قدر غطائك ، فالتاجر الداخل إلى السوق لا يتمنى الأماني العريضة ، إنما يشتري ويتعامل مع من في السوق وما في السوق بقدر ما في جيبه، بحيث يتجاوز جيل الدعاة وكل العاملين العشوائية ، ويكفر بالغوغائية ، ويحتكم إلى الحقائق لا إلى الأوهام ، ولا ينسى وهو يتطلع إلى السماء أنه واقف على الأرض ، فلا يجري وراء خيال كاذب أو حلم فارغ أو أماني موهومة ، فيسبح في غير ماء ، ويطير بغير جناح ، يكون كبير الآمال ولكنه واقعي التفكير ، يرنو إلى شاطئ الأحلام ولكنه يتوقع هياج البحر وغضب الموج ومفاجآت الأعاصير ، يعلم أن الدهر قلب ، وأن الدنيا دول ، وأن الأيام سجال ، وأن دوام الحال من المحال :( وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران140).

فجيل الدعاة واقعي لا يسبح في البر ، ولا يحرث في البحر ، ولا يبذر في الصخر ، ولا ينسج خيوطا من الخيال ، ولا يبني قصورا على الرمال ، كحال الرجل الذي جاء لابن سيرين فقال له: (إني رأيت نفسي في المنام أطير بغير جناح وأسبح في غير ماء ، فقال له: إنك رجل كثير الأماني قليل العمل).

6 ــ الموازنة بين الطموحات والإمكانيات، بين ما تصبو إليه وما تقدر عليه ، بين الواقع والمتوقع ، بين الموجود والمفقود ، فلا تتورط في أمور لا تعد لها العدة ، ولم تهيئ لها الوسائل المناسبة ولا تضمن المخارج منها ، ولا تملك الأدوات الكافية لتحقيقها ، وهو ما عناه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله:(إياك وما يعتذر منه)(الحاكم والبيهقي)، والحديث الآخر:( لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه ، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: (يتعرض من البلاء لما لا يطيق ) (ابن ماجة وأحمد والترمذي).

7 ــ الإدراك أن التمكين للمشروع الدعوي والحركي ، وضمان القبول له من طرف الآخرين ،  إنما يكون بالخبرة والقدرة والتفوق والإبداع والفعالية والاستبصار والحكمة والعمل النافع الجاد والوفاء الثابت والتضحية العزيزة ، ومع ذلك كله الإنجاز الكبير والإنتاج الوفير ، وهذا لا يستطيعه أصحاب الأماني الزائفة والخيالات الكاذبة التي لا يصاحبها عمل ، ولا يقدّم عليها دليل ، وكذلك اليائسون من الحياة ، القانطون من الواقع وإفرازاته.

8 ــ التكيّف مع المرحلة التي تفرض على الدعوة والحركة بما يناسبها ، بحيث يعلو فيها صوت العقل على صوت العاطفة ، وحجة الفقيه على جلجلة الخطيب ، ومنطق المفكرين على مشاعر المتحمسين ، وأن يتقدم فيها من هو أنضج فكرا وأعمق وعيا لا من هو أطول لسانا وأكثر صراخا ، وأن تزن أعمالها وتحركاتها ومواقفها وخياراتها ، وفقا للأحكام الشرعية الفسيحة والموازنات المقاصدية الأصيلة ، ومصلحة الإسلام الذي تعمل له ، والمشروع الذي تسعى إلى تحقيقه ، والأمة التي ترنو إلى عزتها ، والوطن الذي تعمل على ازدهاره ، والمجتمع الذي تقدم الغالي والنفيس لإسعاده وخدمته ، لا استجابة لشعور وقتي ، ولا إرضاء لحماسة العامة وأهواء الخاصة ، فالدعاة ليسو فنانين يقدمون ما يطلبه المستمعون.

9 ــ أن تقدر للرجل قبل الخطو موضعها ، وتخشى أن تضعها على أرضية رخوة أو هشة أو ملغمة أو مفخخة ، أو أن تقع في دوائر تحكم الخصوم والأعداء ، بحيث يقطف ويجني ثمارها من يرصدها ويوجهها إلى مبتغاه وبأقل التكاليف ، فالدعاة والدعوة والحركة وقادتها وأبناؤها ، أكبر من أن يتلاعب بهم ذوو الأهواء والمصالح ، فالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.

10 ــ الاستطاعة في أن تقول للمحسن أحسنت وإن كان من ألد أعدائك وخصومك،  وللمسيء أسأت وإن كان أقرب الناس إليك ، مع القدرة على التمييز بين خير الخيرين وخير الشرّين ، ولا يكن حالك كالذين وصفهم الشاعر:

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا        عني وما سمعوا من صالح دفنوا

جهلا علينا وجبنا من عدوهمو         لبئست الخلتان الجهل والجبن

11 ــ مراعاة قوانين الله في كونه وسننه في الحياة ، كما تراعي أحكامه في شرعه ، مع تبني سياسة النفس الطويل والصبر الجميل والخلق الأصيل والعمل الجليل ، والصبر على البذرة حتى تنبت ، وعلى النبتة حتى تورق ، وعلى الورقة حتى تزهر ، وعلى الزهرة حتى تثمر ، وعلى الثمرة حتى تنضج وتينع ويحين قطافها وتؤتي أكلها بإذن ربها ، فلا يمكن ولا يجوز   قطف الثمار حصرما  ، ولا الجني من الشوك العنب كما يقولون ، على أن لا تفوّت ــ بحجة ذلك ــ الفرص المتاحة .

12 ــ فقه الواقع وضرورته ، بآلياته ومكوناته وتناقضاته ، والعناصر المؤثرة فيه والموجهة له ، سواء كانت مادية أم معنوية ، تاريخية وجغرافية واجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية وثقافية ، لأن الجهل بالواقع أو فقهه على غير حقيقته ، يفضي إلى عواقب وخيمة وغير مأمونة بل كارثية في بعض الأحيان ، فالسلوك الصحيح والتصرف السليم ، لا يعدو أن يكون ثمرة للتصور الصحيح للواقع والقراءة الصائبة له .

فهذه بعض متطلبات الواقعية الدعوية والحركية التي نريدها أن تكون حاضرة في قاموس الدعاة ومجسدة في عملهم وتصرفهم وتعاملهم وسلوكهم ومواقفهم وخياراتهم وتقديراتهم وموازناتهم ، بعيدا عن التفريط والتورّط والإمعية والتهور والمغامرة والإنخداع وغفلات الصالحين وإخضاع الدعوة وثوابتها من دون علم ، والوقوع تحت ضغط الأحداث حتى نصل إلى التمييع وفقدان الهوية وخسارة التميز .

فالواقعية التي نقصدها بمتطلباتها وضوابطها وتأصيلها الشرعي ورؤاها المقاصدية وتطبيقاتها العملية ، هي المتحررة من كل عوامل ذهاب الريح وأفول النجم المؤدية إلى الإتلاف لأنه من المفروض أن: ((الظروف تستطيع تكييفنا ، ولا تستطيع ــ بإذن الله ــ  إتلافنا)) ،  كما قال العلامة ابن باديس.

وهي أبعد ما تكون عن منطق اليأس الذي يغلّفه البعض بغلاف الواقعية وهي بريئة منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب ، وهو ما نفصله في الجزء الثاني من المقال إن شاء الله

يتبع........