الرائد لم يكذب أهله يوما..

شاهدت قبل يومين صورا حديثة لشيخ الأقصى الشيخ "رائد صلاح" .. ابن الواحد والستين ربيعا، و هو يقطف ثمار التوت البلدي من أرضه في قرية اللجون في فلسطين المحتلة.. وفي عَيْنيْه تأمّلٌ و حزنٌ عميق، وما تحمله أجفانه المتعبة وحاجبيه الأسودين المُقضّبين من طول المسير وثقل الأمانة، وأي أمانة أثقل من حماية المسجد الأقصى المبارك والقدس..

صورةٌ تنقل وَحْي جسد مُنْهك من سنوات السجن والاعتقال، و وَهَنٍ رحلات جلسات ما يُسمى بمحاكم الاحتلال الصهيوني، والآن هو يعيش فترة الحبس المنزلي القضائي، حيث تسمح له سلطات الاحتلال الصهيوني بالخروج لثلاث ساعات فقط من بيته لمناطق خالية من الناس وبرفقة كفيله القانوني!!

تلك اللقطات البسيطة في شكلها، و العفوية في مشاهدِها، تعكس عن اللحظات القليلة المُتبقّية للشيخ في ربيع الحُرّية، وهو الذي سيقضي حُكما بالسجن لسبعة عشر شهرا فعليا تُضاف لسنوات خلت مِنْ قَبْلُ خلف القضبان والجدران الرمادية الصامتة، والتي من المتوقع أنها ستبدأ قصص معاناتها بعد انتهاء عُطلة عيد الفطر بأيام.. و ما هي جريمة الشيخ الجليل.. إنه الدفاع عن المسجد الأقصى!

ذلك الشيخ الذي لطالما كان يردد : «إننا سوف ندافع عن المسجد الأقصى حتَّى من داخل السجون، وإنَّ السجن لن يزيدنا إلاَّ قوة»، فلم يكن السجن يوما مرعبا لأصحاب الهمم العالية، كيف لا وهو الذي قالها يوما قبل سجنه: « مرحبا بالسجون نصرة للقدس والمسجد الأقصى، نحن الأبناء البررة لأجدادنا، الذين قالوا ذات يوم في ظلمات السجون، ونردد خلفهم، يا ظلام السجن خيم إننا نهوى الظلام، ليس بعد العسر إلا نور فجر يتسامى ».

يا قومنا.. إن لهذا الشيخ الكريم حقّ على هذه الأمة ونخبتها ودعاتها ومفكريها وعلمائها، بأنْ تُناصره وتشد أزره وعزيمته، وتنشر نضاله وجهاده وسيرته للناشئة التي اتخذت من صغار العقول قُدْوة، وبين ظهرانيّها من هُم أمثال هذا الأسد الهصور.. والرجل الرشيد..

هذا الشيخ الذي دفع زهرة شبابه - مأجورا بإذن ﷲ - بين العمل في الدعوة إلى ﷲ، وإعادة ارتباط أهل فلسطين بالإسلام بعدما تاهت أشرعتهم في أفكار و سُفن شتى غرقت مع موجات الصراع واختبارات الأيام، واتخذ الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك غايته الأسمى، و نادى بدعم حركات مقاومة الاحتلال، ومؤازرة ومناصرة قضية القدس وأهلها، و وقف مع حق المظلومين، واتخذ همّة اليوم والليلة في رعاية الأرملة واليتيم، و ناصر ثورات الربيع العربي، وهاجم طغاة الأرض والمستبدين دون خوف أو مجاملة، واتخذ مسار رفع الصوت عاليا للانتصار للمظلومين دونما النظر لأية منافع شخصية أو أبعاد سياسية أو تحالفات إقليمية أو تبعات قانونية.. إنما أنصت بإيمان وسكينة وعزم لصرخة وا إسلاماه من كل حُنجرة مُسلم أو إنسان مظلوم، واتخذها هدفا له فوق كل اعتبار..

*إنه الرائد الذي لم يكذب أهله يوما..*

وما الحزن العميق في عينيه، وتقوّس الظّهر إلا من حمل الأمانة، ومما حذّر منه مرارا وتكرار أن (الأقصى في خطر)، وأن (القدس في خطر) ، وأن الصهاينة وجمعيات بُنُاة الهيكل يتقدّمون بخطوات ثابتة، ومسار تصاعدي نحو الهدف المشؤوم، وهو هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم، وتهجير أهل القدس والسيطرة عليها لصالح سلطات الاحتلال الصهيوني وقطعان المستوطنين.

*إنه الرائد الذي لم يكذب أهله يوما..*

حين تنبّأ أنّ الثورات العربية وخصوصا في سوريا ومصر تحديدا ستشكل تهديدا استراتيجيا صريحا لبقاء الكيان الصهيوني أكثر منه تهديدا لتلك الأنظمة الوظيفية الكرتونية، والتي تُصارع البقاء على حساب جماجم وآلام الأبرياء من أبناء شعوبها.. وهو الذي نادى في كل محفل أنّ التأخر في دعم هذه الثورات سيدفع بالاحتلال الصهيوني لاستثمار أدواته وأذْرِعَتِه الطويلة في كل مكان ليطيل الصراع فيها لمرحلة تبقى حرائقها مشتعلة دونما توقف، ونزيف دماء لا ينقطع، ولا بواكِي له، ويغدو الدم النازف فيها أرقاما تطالع عواجل نشرات الأخبار، وتقارير الصحافة والمنظمات الدولية المُتواطئة، وأن هذه الاستراتيجية إنما يُراد بها أن تصل بعموم الأمة للفتور عن حقّها المشروع نحو المطالبة بالحًرية والعدالة، وتقاسم الثروة وتبادل السلطة، و لِتَبِيتَ الهمم فيها متعبة عن مناصرة المظلومين، وتهرب من محاكمة نظرات ودموع المقهورين في الشتات والخيام، وأهالي الأسرى والمفقودين، وأمام مشاهد انكسار هامات المتألّمين بقهر على أوطان تتآكل أمام أعين أبنائها..

*إنه الرائد الذي لم يكذب أهله يوما..*

حينما تنبّأ أن ضعف ما يسمى بدول الطوق وإفقارها اقتصاديا وإيصالها لمسار الدول الفاشلة والغارقة في الاستبداد والديون والأزمات الاجتماعية والفساد الأخلاقي، والذي سيهدد استقرارها و وحدَتَها على المدى المنظور، كما أنّه سيهدد مصير المسجد الأقصى المبارك أكثر من ذي قبل على المدى البعيد..

وأنّنا مقبلون على مراحل من سباق هرولة الأنظمة الخائفة من السقوط نحو استرضاء سادة الكيان الصهيوني وداعميه، وتشريع التطبيع وتنفيذه جهارا نهارا دونما مقابل أو منفعة سوى البقاء على الكرسي الهش الذي أكله السوس والفساد، ومن ثمَّ تنطلق مرحلة تشويه المقاومة، وتكذيب أي دعوة أو مبادرة لمناصرة حق الشعب العربي والإسلامي عامة والفلسطيني خاصة في تحرير فلسطين، والتي كان ينادي فيها الشيخ بأنّها - أي فلسطين - وطنٌ وأرضُ الجميع وليست وطن الفلسطينيين وحدهم.

وأن هذا المسار التنبؤي المرعب سيكون سيد المضمار الأخير، وجولة السباق النهائي، والذي سيتجه بتسارع كبير نحو ما قبل الكارثة - لا قدّر ﷲ - .. وأننا بدأنا في التّيه والضّياع عن مشروع الأمة المركزي نحو مشاريع لا تقل أهمّية عنه، بينما هي في مقدّماتها تأسيس لما سيتبعها من إمتداد صهيوني كبير، وأن البعد عن المركزية في الغاية والرسالة سيُنْذِرُ بِدَقّ وَتَدَ سُرادق البكاء على أطلال المسجد الأقصى الأسير بعدما ينجح الكيان الصهيوني ومنظماته المتطرفة المجرمة بهدمه وتغيير هويّته - لا قدّر ﷲ -..

نعم.. يا شيخ رائد.. كنت ولا تزال اسما على مسمى رائدا كما أفاد صاحب المعجم الوسيط بدلالة معناها بأن «الرائدُ من يتقدّم القومَ يبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث»، فتقدّمت الحشود دون وَجَل، وكشفت المخططات الصهيونية والحفريات والمؤامرات الخطيرة على المسجد الأقصى دونما تراجع أو تفكير بالتبعات ولو كان القتل أو السجن أو الإبعاد، وكنت غيثا على قلوب أحبائك وأبنائك المرابطين في باحاته الواسعة المُشرقة.. وكنت بحق «الرائد الذي لا يكذب أهله»، كيف لا وأنتَ الأمين عليهم.. وصادق القول والعهد والوعد والعزم فيهم، وصالح النية والتوجّه بينهم، ومُخلصا ليّنا بأيدي إخوانك، وصلبا عزيزا وقاهرا للصهاينة بابتسامة العز المتلألئة في وجهك أمام عدوّك وسجّانك، وتغيظ بصمودك وثباتك خصومك بإشراقة وجهك الوضّاء و رسالتك السامية الرشيدة، وصاحب الجملة الشهيرة التي سطّرتها برسالة من خلف القضبان يوما في ليالي العشر الأواخر عن أسباب استمرارك في الكفاح فكتبت : « هو انتصار لثوابتي الإسلامية والعروبية والفلسطينية التي نشأت عليها، وعشت بها، وسألقى ﷲ عليها إن شاء الله تعالى».

و لا تزال تُخجلنا نحن أمام شيبتك، ولحيتك البيضاء الدافئة الكثيفة، وانحناءة ظهرك أمام عظيم تقصيرنا في حقك، وحق القضية الإسلامية المركزية العادلة، وحق القدس وأهلها، وحق الأقصى أولى القبلتين وثالث المسجدين الشريفين.

يا قومنا.. إن كان الشيخ "رائد صلاح" لم يكذب أهله يوما.. والذي كان يؤمن بسقوط الحُلم الصهيوني أن يصبح الأقصى آخر أولويات الأمة، حين قال : « سيسقط الحلم الذي بنته دولة الاحتلال.. أن الأقصى سيكون وحيدا »؛ فهل سَنَصْدُق نحن مسيرته ورؤيته، ونواصل ما بدأ به و إخوانه من عمل حتى لا يبق الأقصى وحيداً، ونجتهد في ذلك ليل نهار، نربط فيه العزم والعزيمة، و نُعْلي راية الانتصار للمسجد الأقصى المبارك فوق كل منبر، وأكثر من ذي قبل، و في كل محفل ومنشور، و كل أسطر مقالة وتغريدة، و عبر كل وقفة وندوة ومحاضرة وقصيدة، ونضع قضية الأمة في مركز الصورة، ونداءه صرخة الكلمة الصادقة.. ونشكّل من خلفه تيّاراً شعبيّا ضاغطاً على كلّ منظمة ومؤسسة وأنظمة وأحزاب وهيئات.. أننا جميعا فداء للمسجد الأقصى ولكل دم مسلم في كل أرض وتحت كل سماء، وأن الحياة تهون دون المساس بالمسجد الأقصى المبارك والقدس الشريف.. وأن التفكير بتغيير حقائق التاريخ والإرث والأرض وديمغرافيا الشعوب في أرض فلسطين وأكنافها، وما حولها من بلدان جريحة نازفة سيكون صاعق الانفجار الذي لا مناص منه ولا رجوع..

*تلك رسالة صمت شيخ، وإطار الصورة الرمزي، و ذلك مُحيّا نُضْج ثمار التجربة كما هو نُضْج ثمار التوت على شجرة فلسطين المُثمرة بتجدد أجيالها منذ أكثر من سبعين عاماً على نكبتها، والمروية بعرق المُجدّين المخلصين، ودماء الشهداء البواسل، وتلك كذلك دلالة العَبْرَة والعبارة.. وبيت الحكمة والحكاية والقصيدة والخاطرة..*

*لك ﷲ يا شيخ الأقصى، وهنيئا لك حظ حلاوة الجهاد ومذاق حبات التوت، وحفظك ﷲ، وأدام عليك موفور الصحة والهمة والعافية، ونصرك على عدوّك.. و عدوّ الأمّة.*

وﷲ من وراء القصد، وهو يهدي السبيل

وسوم: العدد 877