حصّةٌ الـ "شيعة شيعة" في الثورة محفوظة، لكن لمَن حقّ الإستثمار؟

منذ انطلاقة ثورة 17 تشرين، يروّج البعض أنّ مَن بدأ هذه الثورة وأعطاها الزخم في أيّامها الأولى، هم طائفة الشيعة بتوجيه من حزب الله. إشاعة من هذا النوع، من شأنها إبعاد المناهضين لحزب الله وسلاحه عن الثورة، وبالتالي تَهُون السيطرة عليها من قِبَله وقِبَل أجهزة مخابرات الدولة. يهمّنا في المقالة الحاضرة، أن ننفيَ صحّة هذه الإشاعات، خصوصًا أنّ نغمة من النوع نفسه، ظهرت من جديد في الساحات الغاضبة ليلة الخميس 11-6-2020، ومفادها أنّه، بانضمام الشيعة إلى التحرّك أوّل من أمس، أعاد الزخم إلى الثورة.

للتصويب وللتاريخ:

ثورة 17 تشرين هبّ فيها الشعب هبّة واحدة وعفويًّة. لم يكن أيّ حزب، أو حراك مدني، أو جهاز مخابراتي، أو قيادي أو زعيم، على علم بها، وهذا ما أربك الجميع، بمن فيهم سيّدُ حزب الله الذي، وفي أوّل إطلالة له بعد الثورة، تهكّم على الثوّار، واتّهمهم بتنفيذ أجندات لمصلحة الخارج، وهدّدهم وتوعّدهم رافعًا سبابته كالعادة، طارحًا نفسه حاميًا للعهد وللمنظومة التي أنهكت الشعب اللبناني. وبمجرّد أنْ ألمح بعض المتظاهرين إلى تأثير سلاح حزب الله في الأزمة الواقعة، حتّى جهد الحزب لإخراج أبناء ملّته، الشيعة، من التظاهرات. كل هذه المواقف السلبية من الثورة، ويأتيك مَن يستخف بعقلك مدّعيًا أنّه "لولا الشيعة لما كان هناك ثورة". لو كان الكلام الأخير صحيحًا، لانتهت الثورة في يومها الرابع أو الخامس حين أمر السيّد حسن نصرالله أتباعه بالخروج منها بنيّة خلق شرخ في صفوفها. لكنّه لم يفلح في هذا التوجّه، وانكشف وجهه المعادي للثورة، كما انكشف أنّه من صلب السلطة المتحكّمة بالعباد.

بعد ثمانية أشهر من الفُراق بين الثوّار من جهة، وشيعة أمل وحزب الله من جهة ثانية، عاد هؤلاء الشيعة، أوّل من أمس، لينضمّوا إلى الثورة في مناطق بيروت هاتفين: "إسلام ومسيحيّي، وحدي وطنيّي". مع ظهور هذه الحركة الشيعيّة (غير) المرتقبة، برز في صفوف الثورة مَن يعتبر أنّ انضمام شيعة أمل والحزب مجدّدًا إليها، من شأنه إعطاؤها دفعة قويّة، حتّى أنّ بعض الغيارى، ممّن أسمّيهم ثوّار "الأكُفّ البيضاء" و"الأحذية اللمّاعة"، صاروا يُشدّدون في تعليقاتهم على حصر تحرّك ليلة 11 حزيران، بالمطالب المعيشيّة وارتفاع سعر صرف الدولار، في إشارة إلى عدم التطرّق لسلاح حزب الله وإثارة "الضالّين العائدين" إلى الثورة.

في موازاة موقف الغيارى المشار إليه أعلاه، شهد الشارع موقفًا مناقضًا يتخوّف من أن يكون حزب الله قد وضع اليد على الثورة، وهو مَن أعاد تحريكها خدمةً لأجندته الخاصة.

برأيي:

ما حصل بالأمس لهو انتصار للثورة على كامل الصُعُد.

− إذا رجع شيعة أمل وحزب الله إلى الثورة من دون إيّ إيعاز من قيادتيهما، فيكون في هذه الخطوة نوع من التمرّد على تحالف الثنائي الشيعي المناهض للثورة، وبالتالي إنتصار للثورة.

− أمّا العودة بتوجيه من قيادتي الثنائي لتحقيق مأربٍ ما على الساحة اللبنانية، كإسقاط الحكومة مثلًا، ففيها شيء من الإقرار بأنّه لم يعد بالإمكان تجاهل الثورة والإدّعاء بأنّها تشرذمت وانتهى دورها. فهذه الثورة التي "زعرنوها" مع حلفائهم العونيّين بتهمة رَكْبِها من أحزاب السلطة، و"شيطنوها" بتهمة "العمالة للسفارات"، هم اليوم ينضمّون إليها. فإمّا أمل وحزب الله هما زعران وشياطين مثل أبناء الثورة التي لجآ إليها بعدما كانا ينعتانها بالسوء، وإمّا هذه الثورة شريفة وبريئة من كل الإساءات التي وُجّهت إليها.

قد يكون محقًّا مَن يصوّر مشهد ليلة الخميس على أنّه إختطاف للثورة إلى حضن حزب الله. فالحزب هو أكثر المستفيدين من هكذا خطوة، إذ يضرب بحجر واحد أكثر من عصفور، وهو قد يكون مراهنًا على:

− أن يخجل الثوار من شيعة الحزب الذين انضمّوا فجأة إلى الثورة، فلا يعودون ليتطرّقوا إلى القرار 1559.

− الزيادة من ضغط الشارع على الحكومة ونَيل مكاسب ما منها أو إسقاطها.

− إبعاد شبح المواجهة السنّية-الشيعيّة والشيعيّة-المسيحيّة في الشارع، فاختبار القوّة الذي أجراه الحزب يوم السبت الماضي 6-6-2020، بين ساحة البرج والخندق الغميق، والشيّاح وعين الرمانة، وبربور والطريق الجديدة، أظهر أنّ الخوف من قوّة الحزب لم يعد موجودًا، وأنْ لا طرف مستعد للتسليم له بسهولة.

− نَقْل غضب شعبه من ضاحية بيروت الشيعيّة المُنغلقة على نفسها، إلى ساحة بيروت العامة، بغضّ النظر على مَن سينصبّ هذا الغضب في بيروت.

− أن يعمّق الشرخ داخل الثورة بين مَن يُريد توجيه السهام إلى سلاحه ودوره في الإنهيار وعرقلة الحلول، ومَن يجد أنّ الوقت غير مناسب لذلك. هكذا شرخ يصبّ في مصلحة الحزب.

لكن، هل بإمكاننا التسليم بأنّ الحزب إختطف الثورة، والتغاضي عن الإحتمال المعاكس؟! لماذا لا تكون الثورة هي مَن تستغلّ الحزب، وتتحصّن بفائض قوته وصولًا إلى نيلِ مطالبها من السلطة الحاكمة؟ ولِمَ لا؟ صحيح أن عدم تدخّل الجيش اللبناني لضبط الثوّار ليلة الخميس 11-6، يترك شيئًا من الإرتياب حول تنسيقٍ ما يجري بين الحزب والجيش، خصوصًا أنّ الحزب لم يضغط على الجيش كعادته لفتح الطرقات! والحال كذلك، لماذا لا يكون حزب الله قد شعر بأنّ شيئًا، بعد الآن، لن يمنع بيئته الحاضنة من السكوت على الأوضاع المعيشية الصعبة؟ فأفتى لمناصريه بالنزول إلى الشارع.

إذًا، في المحصّلة، للحزب حساباته ومكاسبه من ترك جمهوره ينضم إلى الثورة، ولو آنيًّا، وللثورة حساباتها ومكاسبها أيضًا، لا سيّما إذا ما تمكّنت من "خطف" جمهور حزب الله وضمّه إلى صفوفها، والثورة تُدرك أن هذا الجمهور الشيعي، هو في عمق صميمه، لبنانيّ، مهما حاول الحزب حرفه عن هذه الحقيقة الحلوة لمصالح ملاليّة إيرانية. إنّ الرهان على الشرخ بين "جماهير" الثورة بسبب تعدّد مشاربهم وأهدافهم، وبسبب موضوع السلاح، لن يتحقّق طالما بقيت التحرّكات لامركزية وكل جمهور ينزل في منطقته.

أمّا الدعوات إلى تطبيق القرارات الدولية فستبقى أساسيّة ضمن مطالب الثورة وفي معظم المناطق، وعلى الشيعة أخذ ذلك في اعتبارهم، وألّا يُراهنوا على ثوّار "الأكفّ البيضاء" أصحاب مقولة الدَجَل: "الوقتُ غير ملائمٍ لطرح موضوع السلاح"، فهؤلاء خبثاء، لأنّهم من جهة يُظهرون علمهم بخطر السلاح على مستقبل لبنان، ومن جهة ثانية لا يُريدون طرحه من ضمن الثورة كي لا يُزعلوا حزب الله، ويخسَرون فرصهم في الوصول إلى مراكز في السلطة.

إنّ هؤلاء طارئون ومتسلّقون، فتذاكيهم وطموحهم مكشوفان على الملأ وكفيلان بإسقاطهم. أمّأ القلقون على الثورة من "شرذمتها" بفعل حروب الشعارات والشعارات المضادّة، والمطالب المتناقضة والطروحات المتباينة، فقلقهم لزوم ما لا يلزم: إنّ قوة هذه الثورة في ... شرذمتها! ولن يقوى أحد على شرذمتها لأنّها أصلب من أن تتشرذم. فافهموها!!

وسوم: العدد 881