ما العمل؟ مساهمة في النقاش حول إنقاذ المشروع الوطني الفلسطيني

تمرّ القضية الفلسطينية هذه الأيام بمأزق وجودي، يهدد كافة المنجزات الوطنية التي حققها الشعب الفلسطيني، أثناء مسيرته النضالية التي تجاوزت المئة عام. هناك، ربما لأول مرة، خطر حقيقي بتصفية القضية الفلسطينية، كقضية تحرر وطني، وتحويلها إلى مسائل تتعلق بالأفراد والتجمعات، والمعازل المتقطعة تحت السيادة الإسرائيلية الدائمة. وتعود أسباب هذا الخطر الوجودي الحالي لتضافر مجموعة عوامل لم تكن موجودة مجتمعة في التاريخ الحديث نذكر أهمها:

1ـ الوضع الفلسطيني المتآكل في ظل الانقسام السياسي والجغرافي، بين سلطتين عاجزتين في رام الله وغزة. لقد تحولت السلطتان إلى غطاء مناسب للتهرب العربي والدولي من الالتزام بقضية فلسطين من جهة، وإعطاء إسرائيل الذريعة المناسبة لابتلاع الأرض الفلسطينية، وتهويد القدس، وسرقة مواردها الطبيعية، وحصار غزة وخنقها اقتصاديا، وشن الحروب الدموية المتكررة على القطاع، وانتهاك مناطق السلطة الفلسطينية والتنكيل بالشعب الفلسطيني بدون رادع.

2 ـ الوضع العربي في أسوأ حالاته، فهناك حروب بينية في ثلاث دول هي، سوريا وليبيا واليمن، إضافة إلى تدخلات في الشؤون العربية من دول الجوار وغيرها مثل، إيران وتركيا وإثيوبيا وروسيا والولايات المتحدة وفرنسا. هناك غياب لدور العراق القومي، والجزائر وتونس مشغولتان بأمورهما الداخلية. مصر غائبة عن المشهد وأمنها القومي مهدد من سد النهضة الإثيوبي، الذي قد يؤدي إلى كارثة قومية لما يشكله نهر النيل من عصب رئيسي لحياة ملايين المصريين. في الوقت نفسه أصبحت مصر الحامية الأكبر للأمن الإسرائيلي، وفك الكماشة الآخر لحصار غزة المحكم من كافة المنافذ.

3 ـ أخذ التطبيع بين العديد من الأنظمة العربية والكيان الصهيوني أشكالا وأحجاما كبرى. وتتصدر دولة الإمارات هذا التيار، ليس فقط في التطبيع العلني، بل بتسويق إسرائيل للمنطقة العربية، وتقديم إغراءات كبرى للدول التي تقطع حاجز المقاطعة وتدخل برزخ التطبيع، كما حصل مع السودان مؤخرا. قائمة التطبيع وشيطنة الفلسطينيين متواصلة في أكثر من دولة. وآخر هذه الاستهدافات مواقف الحكومة اللبنانية من تعطيل عودة الفلسطينيين من الخارج، وتصريحات وزير خارجية لبنان العنصرية، أضف إلى ذلك قرار حكومة الممانعة السورية بإعادة دمج مخيم اليرموك في مدينة دمشق وتشريد سكانه إلى الأبد.

4 ـ وجود رئيس في البيت الأبيض متصهين أكثر من الصهاينة، حقق لإسرائيل ما لم يحلم به كل قادة إسرائيل منذ عام 1948 وحتى اليوم. إن صفقة القرن بتفاصيلها الخطيرة تعني حرفيا تصفية القضية الوطنية الفلسطينية مرة وإلى الأبد، والتعامل مع الفلسطينيين كأفراد محشورين في معازل تخضع تماما للسيطرة الإسرائيلية.

5 ـ وجود حكومة في إسرائيل هي الأكثر تطرفا في تاريخ الكيان الصهيوني، وأخطر ما جاءت به قانون القومية، الذي يعني بكل بساطة إلغاء الوجود الوطني الفلسطيني، واعتبار الأرض ما بين النهر والبحر أرضا يهودية يحق لليهود فقط حق تقرير المصير فيها.

6 ـ إنتشار الفكر الشعبوي البراغماتي في عالم اليوم، بعيدا عن مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ العدل والسلام وحسن الجوار، وحل القضايا بالطرق السلمية، والالتزام بميثاق الأمم المتحدة وآليات العمل الدولي لحل النزاعات. لقد انتشرت الظاهرة عالميا، وشملت دولا عديدة من بينها الولايات المتحدة وروسيا والهند والبرازيل وبريطانيا وهنغاريا وأورغواي وغيرها.

من أين نبدأ؟

لقد عقدت في الشهرين الأخيرين، عشرات الندوات واللقاءات والمحاضرات عن طريق تقنية الفيديو، ونشرت مئات المقالات والدراسات المهمة والعميقة حول المأزق وسبل الخروج منه. وأود أن أساهم بدوري في هذا النقاش الجاد، على قاعدة الالتزام بمنظمة التحرير الفلسطينيىة وميثاقها الوطني، الذي يؤكد أن فلسطين عربية، لا يمكن أن يتم شرعنة الاحتلال فيها مهما مرّ عليه من زمن، وأن جريمة الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية إحلالية تفريغية، أدت إلى اقتلاع الشعب الفلسطيني من وطنه، لا تموت بالتقادم. وفي ظل هذه الصورة القاتمة أود أن أقدم بعض الأفكار للجماهير الفلسطينية والعربية والمطروحة للنقاش:

* ليس من الحكمة أن ننشغل الآن بموضوع حل الدولتين، أو الدولة الواحدة أو الفيدرالية القائمة على ثنائية القومية، فكلها أمور مستحيلة الآن، في ظل موازين القوى الحالية. يجب أن نعتني أولا بإعادة الوحدة للشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده تحت سقف منظمة التحرير، الخيمة الجامعة لكل أطياف الشعب الفلسطيني بلا استحواذ أو إقصاء.

* الهدف العاجل يتمثل في إجراء انتخابات مجلس وطني جديد لكل الشعب الفلسطيني في كل مكان، وانتخاب قيادة جديدة فاعلة منبثقة من القاعدة الجماهيرية العريضة، وإجراء عملية بناء وإصلاح ما خربته سنوات التكيف نحو التسوية التي بدأت ببرنامج النقاط العشر عام 1974، مرورا باتفاقيات أوسلو الكارثية، وصولا إلى تحويل مجمل العمل الفلسطيني في الداخل إلى جهاز لحماية أمن إسرائيل.

* نقطة بداية أخرى للتعامل مع الوضع الحالي هي إعادة القضية إلى جوهرها الصحيح: قضية تحرر وطني من استعمار استيطاني إحلالي تفريغي، يهدد الأرض كلها والشعب كله. لقد قسم اتفاق أوسلو المشؤوم الأرض والشعب والحقوق، وانتهى إلى ضياع وحدة الشعب ووحدة الأرض وكل الحقوق.

* إطلاق «ثقافة المقاومة» بمعناها الشامل ضد الاحتلال وأدواته، ونظام الفصل العنصري والحصار، بهدف تغيير موازين القوى لصالح الحق الفلسطيني وعلى حساب الباطل الإسرائيلي. كل فئة من الشعب الفلسطيني في أي مكان في العالم تصبح منخرطة في العملية النضالية، بالطرق والوسائل والأساليب المتاحة والمشروعة، التي تعمل مجتمعة على تفكيك نظام الفصل العنصري وإنهاء الاحتلال وكسر الحصار وصولا إلى إلغاء المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري.

* الحل الدائم للقضية الفلسطينية، يجب أن يقوم على قيم ومبادئ العدالة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتقرير المصير، والمواطنة المتساوية، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجنس أو الأصول. حل يصحح فيه الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني من قبل قوى الاستعمار والصهيونية والإمبريالية وأذنابها العربية والتي ما زالت تتآمر على قضية شعبنا حتى هذا اليوم.

* على الشعب الفلسطيني أن يرفض أي حل جزئي لا يأتي عن طريق تغيير موازين القوى. من حق الشعب الفلسطيني أن يرفض أي حل يقوم على شرعنة الاغتصاب والاحتلال والعنصرية والفوقية العرقية، وفرض الغيبيات والمظالم التي لا علاقة لها بالشعب الفلسطيني أو العربي.

* يؤكد الشعب الفلسطيني التزامه بمبادئ القانون الدولي التي تقوم على رفض الاحتلال والعنصرية والإبادة الجماعية، وحق اللاجئين غير القابل للتحوير أو التبديل للعودة إلى أوطانهم الأصلية. إن النضال الفلسطيني حق مشروع نصت عليه قرارات الأمم المتحدة، والمعاهدات والاتفاقيات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان. ونود أن نذكر بقرار الجمعية العامة 1514 (1960) حول حق الدول والأراضي الخاضعة للاستعمار في تقرير المصير والقرار 3236 (1974) الذي يعطي الفلسطينيين الحق في استرداد حقوقهم بكافة الوسائل المشروعة، ورأي محكمة العدل الدولية بتاريخ 9 يوليو 2004 حول حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

* من أولى مهمات النضال حاليا توسيع دائرة أصدقاء الشعب الفلسطيني، باعتبار قضية فلسطين قضية حق وعدل، والانخراط في النضال مع الفلسطينيين في كفاحهم مسألة أخلاقية وإنسانية، لمحاربة الظلم والقهر والاحتلال والتشتيت، ونهب الموارد الطبيعية، وقتل الأبرياء واستخدام القوة المفرطة. وهذا التضامن يشمل دعم حركة المقاطعة « BDS «، فالتضامن مع الفلسطينيين في نضالهم من شأنه تعزيز صمودهم، وصون حقوقهم وتقريبهم نحو تحقيق الأهداف النبيلة والسامية ضد قوى الظلم والقهر والاستكبار والهيمنة.

* نضال الشعب الفلسطيني في مقاومة هذا المشروع الاستيطاني العنصري الخطير، جزء من نضال الأمة العربية، ونضال شعوب العالم، من أجل الحرية والاستقلال والعدالة والمساواة والديمقراطية، والتنمية المستدامة، ونبذ ثقافة الكراهية والتفوق العرقي، وتقسيم العالم إلى عالم «متحضر» وعالم آخر متخلف. وعلى الفلسطينيين استنهاض الجماهير العربية للوقوف في وجه المشروع الصهيوني والمطبعين معه من العرب، باعتبار المشروع الصهيوني خطر على الأمة العربية كلها.

قد تبدو هذا الأفكار صعبة التحقيق في ظل الظروف الحالية، لكن التباطؤ في إطلاق طاقة الجماهير نحو إعادة ترتيب البيت الفلسطيني والانخراط في عملية النضال الشامل سيفاقم الأزمة ويسهل على الأعداء تنفيذ برامجهم. لا وقت للتسويف والتردد والهروب إلى الأمام بدعوات للعودة للمفاوضات، أو اجتماع للرباعية أو مناشدة المجتمع الدولي. وشعب مارس النضال كل هذه السنوات، ورفض أن يتخلى عن حقوقه، ودفع الثمن غاليا، لن يتردد في مواصلة النضال لسنين طويلة مقبلة إلى أن ينتزع حقوقه كاملة غير منقوصة.

وسوم: العدد887