انقسام شعوب البلاد العربية على نفسها عرقيا وطائفيا وإيديولوجيا هو ما يطمع التدخلات الأجنبية

انقسام شعوب البلاد العربية على نفسها عرقيا وطائفيا وإيديولوجيا هو ما يطمع  التدخلات الأجنبية  في شؤونها الداخلية ويجعلها تحت الوصاية والتبعية

بداية لا بد من التذكير بأن الاحتلال الغربي للبلاد العربية لم ينته ساعة انسحاب جيوشه منها بل ظل موجودا بأشكال مختلفة تلتقي كلها عند لفظة " تبعية " ، وهي تبعية لها تجليات على عدة أصعدة لا حاجة لسردها  الآن لأنها معروفة لدى شعوب هذه البلاد التي عانت ولا زالت تعاني منها .

وما حدث في لبنان على إثر الانفجار المدمر الذي زاده تدميرا وهو الذي كان يعاني من أشكال من التدمير المادي والمعنوي، يجعل الانتباه يشد إلى  حدّة التدخلات الأجنبية في شؤونه الداخلية وعلى رأس تلك التدخلات التدخل الفرنسي السافر وهو محتل الأمس له ،والذي لم يتعاف لبنان من احتلاله بالرغم من انسحاب جيوشه منه  منذ مدة ،وقد استمر ذلك الاحتلال بأشكال وأساليب كرست التبعية له .

ففي أقل من يوم على وقوع الانفجار المدمر الذي لا زالت ملابساته طي الكتمان في عالم يعج بالأجهزة المخابراتية التي لا يغيب عنها شيء مما يحدث فيه لأنها تكون دائما طرفا في هذا الذي يحدث بشكل أو بآخر ، طار إلى لبنان الرئيس الفرنسي، ونزل بمحيط الانفجار قبل أن ينزل به الرئيس اللبناني . وبعد ذلك بيوم أو يومين طار إليه  وزير خارجيته ثم طارت إليه وزيرة جيوشه مع نزول خمسمائة جندي فرنسي فيه، وبدا المشهد كأنه غزو من أشكال الغزو الفرنسي السابق للبنان .

وما شجع التدخل الفرنسي في الشأن اللبناني، وهو ليس التدخل الأجنبي الوحيد إنماهو البنية أو التركيبة العرقية والطائفية والإيديولوجية للشعب اللبناني . فالذين استقبلوا الرئيس اللبناني بالعناق والدموع والتوسل والاستنجاد شريحة من شرائح الشعب اللبناني لها قناعة إيديولوجية ولها انتماء عرقي وطائفي معين هو الذي حملها على فعل ما فعلت ،لأنها بمثابة طابور خامس قد زرعه محتل الأمس الفرنسي ضمن خطة الإبقاء على احتلاله للبنان بعد جلاء عساكره عنه للإيهام باستقلاله الصوري .

 ولو نزل زعيم بلد آخر له طابوره  الخامس الخاص أيضا في لبنان لاستقبل استقبال نظيره الفرنسي . ومن يشك في أن الرئيس الإيراني لو طار إلى لبنان ،ونزل بالضاحية الجنوبية حيث طابوره الخامس من حزب الله لا يستقبل بالعناق والدموع والتوسل ،وربما بأشكال أخرى مما تمليه قواعد وضوابط العقيدة الطائفية الشيعية التي تصم وتعمي وتعطل العقل وتستحوذ على الوجدان .

 ولو نزل مكان الرئيس الإيراني الرئيس التركي السني  لوجد أيضا في استقباله  طابوره الخامس المصنوع إيديولوجيا أو طائفيا  في شمال أو وسط أو حيث يوجد جغرافيا في لبنان .

ولو نزل أيضا حكام الخليج وقد برعوا في إشعال نيران الفتن  الطائفية في البلاد العربية لوجدوا أيضا في استقبالهم طوابيرهم الخامسة أو لنقل مرتزقتهم وهو الأصح ممن يسيل مالهم النجس لعابهم .

 ولو نزل رأس الكيان الصهيوني أيضا أرض لبنان وهوالذي يحتل شريطا منها ،فلن يعدم وجود طابوره الخامس أيضا  في استقباله .

ولو طار الرئيس الروسي وهو الذي لا يغيب عن بؤر الصراع الدامي في البلاد العربية لوجد أيضا طابوره الخامس في استقباله بحفاوة  وباقات الزهور.

فما الذي جعل لبنان محط أنظار كل هذه التدخلات الأجنبية ؟ إنها التركيبة العرقية والطائفية والإيديولوجية لشعب لبنان الذي يتوزعه انتماءان واحد داخلي جغرافي محض وآخر خارجي متعدد المظاهر، وبينهما صراع وتجاذب غالبا ما يفوز فيهما الخارجي  على الداخلي .

وليس لبنان البلد العربي الوحيد الذي يعاني من الانقسام الداخلي عرقيا وطائفيا وإيديولوجيا بل  كل البلاد العربية تعاني من ذلك مع تفاوت  في أشكال تركيبات شعوبها العرقية والطائفية  حسب الاعتبارات التي تجعلها مرتبطة بالخارج .

 وحتى البلاد العربية التي لم تكن توجد فيها حدة  النعرات الطائفية، بدأت بعض الطوابير الخامسة فيها تنفخ فيها  كما هو الشأن في الدول العربية في الشمال الإفريقي حيث باتت النعرة الطائفية تستفحل يوما بعد يوم ، وبدأنا نسمع بما يسمى تصحيح الوضع العرقي بها ،والذي اختل حسب ما يزعم دعاتها بسبب ما يسمونه غزوا عربيا غير الملامح  العرقية لهذه المنطقة الجغرافية .

فها هم سكان منطقة القبائل بالقطر الجزائري على سبيل المثال يطالبون بالاستقلال الذاتي، ويرون أنهم عرقا متميزا عن العرقين العربي والإفريقي ، وقد نقض أكثرهم عصبية الانتماء إلى دين الإسلام، وهم يحرصون كل رمضان على إقامة طقس ما يسمونه الإفطار العلني نهارا إشارة إلى ردتهم  أو تعبيرا عن ذلك.

وفي المغرب لا تقل النعرة الطائفية حدة عنها في الجزائر حيث يرى متعصبون لهذه النعرة أنهم ضحايا ما يسمونه غزوا عربيا فرض عليهم التدين بدين الإسلام ،وحرمهم التمتع بهويتهم العرقية ، وهم يمارسون كل أشكال النضال من أجل استعادة هذه الهوية كاملة غير منقوصة كما يزعمون ، ولا تفوتهم فرصة  مناسبة دون الدفع بقوة في هذا الاتجاه لتحقيق ما يرغبون فيه ، وهم لا يريدون الانفصال فقط كما هو الحال في منطقة القبائل بالجزائر بل يريدون السيطرة الكاملة على البلاد .

ومثل هؤلاء دعاة الانفصال في الصحراء المغربية الذين يطالبون بالانفصال عن الوطن الأم لأن المحتل الاسباني ألقى في روعهم أنهم عرق متميز وأنه لا بد لهم من وطن مستقل . وقد وجد فيهم حكام الجزائر الذين يسمون جنرالات فرنسا، وهم طوابيرها خامسة بعد رحيل جيوشها من شمال إفريقيا حطبا جزلا، فأوقدوا فيهم نار الفتنة العرقية والإيديولوجية، الشيء الذي جعلهم يرضون بالعيش في المخيمات المفتقرة إلى أبسط شروط العيس عيشة مذلة وهوان ووطنهم على مرمى حجر منهم  لو أنهم طلقوا النعرة الطائفية والعرقية والإيديولوجية.

والمشرق العربي كالمغرب العربي يعاني هو الآخر من داء العرقية والطائفية والإيديولوجية المزمنة بل هو أشد معاناة ،الشيء الذي  جعل الأطماع الخارجية المختلفة تستفحل فيه ، والتي ازدادت استفحالا بسبب ثرواته ومقدراته النفطية .

وما بين العراق والشام وفي اليمن ، تشتعل نيران  صراعات دامية تغذيها النعرات العرقية والطائفية  الكردية والشيعية والسنية ... وغيرها من التسميات.

وبسبب التركيبات العرقية والطائفية والإيديولوجية في الوطن العربي تحول إلى ساحة صراعات  بين القوى الخارجية التي تبرر تدخلها في شؤون شعوبه بذريعة حماية طوابيرها الخامسة حتى صار هذا الوطن موزعا إلى مناطق نفوذ تلك القوى التي تسخر الشعوب العربية لتخوض حروبا فوق أراضيها نيابة عنها .

ولم تستفد الشعوب العربية من بعض فترات تاريخها التي غابت عنها النعرات العرقية والطائفية والإيديولوجية وكانت خلالها شعوبا موحدة وقوية ولها هيبة وصولة، وكان يومئذ ما يجمعها أكثر مما يفرقها كما قال الإمام الشافعي رحمه الله لتلميذه يونس الصفدي حين غضب منه وانصرف عنه إلى بيته : " يا يونس كيف تفرقنا مسألة وقد جمعتنا مسائل " . فليت الشعوب العربية تنظر فيما يجمع بينها أكثر مما يفرق بينها، وتتحرر من العقد العرقية والطائفية والإيديولوجية التي أطمعت فيها الطامعين ، وليتها تأنف من عار الرضى بلعب دور الطوابير الخامسة المخزي والتابعة لهؤلاء الطامعين .

وأخيرا نقول لن تقوم لأمة الإسلام عربها وعجمها قائمة ما لم تدع المنتن الذي نهاها عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الدعوة إلى العصبيات والتشبث بها. ولن يوجد دواء من علل تلك العصبيات المنتنة سوى الإسلام الذي لا اعتبار فيها لها والناس عنده كلهم قد خلقوا من ذكر وأنثى ،وجعلهم خالقهم سبحانه وتعالى شعوبا وقبائل ليتعارفوا  معرفة ومعروفا ، وجعل أكرمهم  عنده أتقاهم .

وسوم: العدد 890