أزمة وعي.. وأزمة ضمير أيضا!

حسام مقلد *

[email protected]

أبدع الكاتب الكبير(وحيد حامد) فيلم (البريء) ورسم ببراعة السمات والأبعاد النفسية والاجتماعية لشخصية الشاب البسيط الأمي (أحمد سبع الليل)... كما تفوق الفنان الراحل (أحمد زكي) ـ رحمه الله ـ في تجسيد هذا الدور وتحويله من مجرد سيناريو إلى شخص حي من لحم ودم وأفكار وانفعالات ومشاعر وأحاسيس...!

يُظْهِر الفيلم لمحات يسيرة من دولة الفساد في مصر، ويتحدث عن كبت الحريات وقمع المواطنين وقهر المعارضة، وهيمنة السلطة الباطشة على الشعب واستغلالها الجهلة والبسطاء معدومي الوعي لتشكيل  قوة ضاربة تحافظ بها على منظومتها المستبدة، والفيلم دعوة للوعي وألا يترك الإنسان نفسه للطغاة يستعملونه مخلب قط في وجه المناضلين من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية!!

وقد واجه الفيلم اعتراضات رقابية, وقيل إن مجلس الوزراء المصري شكَّل لجنة رقابية عام 1986م للحكم على الفيلم مكونة من 3 وزراء هم: وزير الدفاع الراحل المشير (عبد الحليم أبو غزالة) ووزير الداخلية الأسبق اللواء (أحمد رشدي) ووزير الثقافة الراحل الدكتور (أحمد عبد المقصود هيكل) وقررت هذه اللجنة حذف عدد من مشاهد الفيلم، وتغيير مشهد النهاية الذي يثور فيه الجندي الأمي على قادته الظلمة المتجبرين وينتقم منهم ويقتلهم جميعا ببندقيته!!

والغريب أن (أ. وحيد حامد) الذي وجَّه هذه الدعوة للوعي هو نفسه من يناصب التيار الإسلامي  ـ وبخاصة الإخوان المسلمين ـ العداء الشديد، ويشن على أبنائه منذ عقود سلسلة من الحروب الفكرية، ربما ليس آخرها مسلسل (الجماعة) الذي عمل على تزييف وعي المشاهدين فيما يخص جماعة الإخوان المسلمين، وطمَس كثيرا من الحقائق والمواقف المشرقة المضيئة في تاريخهم... ولا أفهم كيف لشخص مثقف يدعو للوعي والنضج، والحفاظ على الحريات العامة والشخصية والكرامة الإنسانية ـ كيف له أن يعادي بهذه الشراسة توجها أصيلا وتيارا عميقا في المجتمع المصري لمجرد الاختلاف الفكري معه؟!! 

لقد أثبتت الأحداث عقب تفجر ثورة 25يناير المباركة أن الإخوان المسلمين يمثلون قاعدة شعبية كبيرة ثارت على ظلم مبارك ومنظومته الفاسدة، وأكدت أنهم أناس مخلصون يعملون بتجرد لمصلحة هذا الوطن... وتعامل المجلس العسكري الذي تسلَّم حكم البلاد معهم عن قرب، ولمس فيهم الوطنية والإخلاص والجدية والتميز، وتأكد من شعبيتهم الجارفة، وانطلاقا من هذه الحقيقة أصبح للإخوان المسلمين أكبر حزب سياسي في مصر فاز بالأغلبية البرلمانية هو حزب (الحرية والعدالة) ثم فاز رئيسه برئاسة الجمهورية في انتخابات حرة نزيهة شهد لها العالم أجمع... !!

ولكن بدلا من أن تتعاون مؤسسات الدولة المصرية مع الرئيس الشرعي المنتخب الدكتور محمد مرسي تآمرت ضده وسعت لإفشاله منذ اللحظة الأولى فكيف تسمح لرئيس إخواني بالنجاح؟!! وهذا ليس كلامي بل هو جزء من تصريحات تليفزيونية لوزير الداخلية (محمد إبراهيم) قال فيها: إنه كان يتجاهل أوامر مرسي ويتعمد عدم تنفيذها سعيا لإفشاله!!

نفس الشيء فعلته كل مؤسسات الدولة العميقة في مصر، وللأسف الشديد قاد العسكر وجهاز المخابرات تنفيذ المؤامرة ضد مرسي بكل دقة وإتقان، فسخَّروا وسائل الإعلام التي غسلت أدمغة الكثيرين، وافتعلوا الأزمات في بعض السلع الأساسية، وأثاروا عداء وحفيظة الشعب على الإخوان، وكان لهذا التحريض والتأليب المستمر أثر بالغ في إسقاط حكم الرئيس مرسي بعد عام واحد فقط قبل أن يحقق نجاحا  ملموسا على الأرض!

لقد شن الإعلام المصري المضلل حربا شعواء على مرسي والإخوان... وبث بعض الإعلاميين الكذابين افتراءات فاجرة على الإخوان من بينها:

أن الإخوان المسلمين هم السبب في سقوط الأندلس!!

وأنهم هم السبب في سقوط الاتحاد السوفييتي!!

أن الرئيس مرسي باع قناة السويس لقطر!!

وأنه باع لها كذلك الأهرامات وأبو الهول!!

وأنه تنازل للسودان عن حلايب وشلاتين!!

وأنه أضاء غزة بالكهرباء وأظلم مصر!!

وأن أنصار الشرعية قتلوا 88شخصاً وألقوا بجثثهم في كرة أرضية تحت ميدان رابعة العدوية!!

 

ليست المشكلة فقط في قدرة آلة الإعلام المصري الجهنمية على صناعة الكذب بهذه الطريقة المفضوحة، بل الأدهى والأمر أن هناك من المصريين من يصدق هذه الأكاذيب والخرافات!! والأشد إيلاما أن من بين من صدَّق هذه الافتراءات والمزاعم غير المنطقية أشخاصٌ يحملون شهادات الدكتوراه والماجستير وشهادات جامعية في الطب والهندسة وغيرها...!!

 

صدقا لا أفهم كيف لدكتور وأستاذ جامعي في كلية الطب أو الهندسة يصدق أنه توجد كرة أرضية تحت ميدان رابعة العدوية!! أو أنه يمكن الاحتفاظ بـ 88جثة لمدة شهر كامل في عز الصيف وفي مكان مكتظ بالناس دون أن يشعر أحد، ودون أن تتحلل الجثث وتظهر الأوبئة بين الناس!! ولا أفهم كيف يصدق أناس مثقفون أن الإخوان المسلمين أسقطوا الأندلس قبل ما يزيد عن 500سنة رغم أن عمر جماعتهم 85عاما فقط!!

يبدو أن عدم الوعي لا يقتصر فقط على الشخصيات الأمية البسيطة كشخصية (أحمد سبع الليل) الشاب الأمي الجاهل في فيلم البريء ... بل هي حالة عامة من عمى البصائر يصاب بها كل معدومي الضمائر، ولا تفسير لديَّ لذلك سوى اتِّباعُ هوى النفس ولو جانب الحق والصواب!! وإلا فكيف يستسيغ أحد أن يوصم الإخوان بالإرهاب وقد اختارهم الشعب المصري بالأغلبية قبل شهور قلائل؟!! كيف يصدق أحد أن الإخوان إرهابيون وأن محمد مرسي إرهابي وقد كان الفريق السيسي قبل انقلابه العسكري الظالم يقدِّم له التحية العسكرية ويجلُّه ويبجله أمام الجميع؟! وكيف اكتشفنا هكذا فجأة أن الإخوان جماعة إرهابية بعد كل هذه العقود من مشاركتها في العمل العام والنقابات ومجلسي الشعب والشورى؟!!

يبدو أننا لا نعاني من أزمة وعي فقط... بل ومن أزمة ضمير أيضا... لكن من نواميس الله تعالى في الكون أن الشر لا يدوم والباطل لا يظل منتعشا، فالحق لابد أن ينتصر في النهاية، ودماء الأبرياء لا تضيع أبدا، بل تظل لعنةً تطارد المجرمين القتلة... وكما أفاق (أحمد سبع الليل) وانتقم من الطغاة الجبابرة فسيأتي يوم قريب جدا ويفيق فيه المصريون من غفلتهم، ويعرفون عدوهم الحقيقي ويوجِّهون إليه فوهات بنادقهم ...!! وما زلنا نتمنى أن يتوقف الظلم ويتوب الظالمون ويرجع الانقلابيون عن غيهم؛ لتنطلق مصر في طريق البناء والتنمية بعيدا عن حقول الألغام ودروب الشر والانتقام!!

               

 * كاتب إسلامي مصري