مبدعون فرنسيون يردون على الدهماء ورئيسهم ماكرون (2)

ألفونس دي لامارتين الإنسان الشاعر السياسي المنصف

يتساءل : فأي عظيم أعظم من محمد !؟

- ألفونس دي لامارتين : 1790 - 1869 ..

- نبيل أرستقراطي فرنسي ..

- مسيحي متدين نشأ في أسرة تعتنق الدين وتربي أبناءها عليه..

- سياسي وصل إلى مكانة وزير الخارجية الفرنسية في عهد الحكم الشرعي ..

- ثائر أصيل رفض التعاون مع الانقلاب والانقلابيين ، ودفع ثمن ذلك من مكانته وحقوقه ، وعانى من ضيق العيش وشظفه ..

- ودافع عن حقوق المستضعفين ، فناصر تحرير العبيد ، ودافع عن حقوق الطبقات الأقل حظا في عصره ..

- رحالة طاف حول العالم بقلبه وبصيرته فزار إيطاليا ، وحج إلى الشام وفلسطين فزار القدس وبيروت ودمشق وحلب وفي هذه الزيارة الكثير مما يستحق التفصيل ، ثم بعد عشرين سنة تركية – العثمانية – وأقام في أزمير ، وكتب عن الشرق ورجاله ..وخشع في محاريب المسيح ومحمد عليهما السلام ..

شاعر رومانسي بل هو شاعر الرومانسية الأول ، بتصوفها وإنسانيتها وحزنها وانتمائها للطبيعة . في الثلاثين من عمره أصدر مجموعته الأولى تحت عنوان : تأملات . ثلاثون قصيدة تحدثت عن الإنسان والوحدة والخريف والمساء والوادي والبحيرة ..وكان علية القوم من الملك ومن دونه يحفظونها ويترنمون بأبياتها ..

كتب قصيدة " الوحدة أو العزلة أو الخلوة " فعدت رائعته الأولى - انظر ترجمتنا على موقع مركز الشرق العربي -

وكتب قصيدته " البحيرة " بعد فقد حبيبته جولي وكان قد زار بحيرة "يورجية " من قبل مع حبيبته جولي ثم عاد إليها بعد وحيدا ..

حين حج إلى القدس وسار في السهل والجبل وخاض النهر ورأى البحر؛ لم يقل فقط إن السيد المسيح – عليه السلام - قد رأى هذه المعالم وسار على هذه الدروب وتظلل بتلك الأشجار ...بل قال كما كل صوفي عاشق محب ولهان إن هذا البحر و هذا النهر وهذا السهل والصخر والشجر قد رأت المسيح وتشرفت برؤيته ..!!

وهذا هو التصوف الحق ، الذي يقطع سكك التفاهم بين الأغلظ قلوبا والأرق قلوبا .

 يعقوب يشم ريح يوسف وقميصه من بعيد ، ويضمه إليه فيرتد بصيرا؛ ويقول له الجلف لا يسمع ولا يبصر : إنه مجرد قميص ، وهذا القميص قطعة قماش لا تضر ولا تنفع ..هي عند الفدم الغليظ الطبع والقلب كذلك ولكن العاشقين يظلون يرددون : وما حب الديار شغفن قلبي . وما يزالون في قواعد العشق الأربعين يهيمون .

الوقوف عند رحلات النبيل الفرنسي " لامارتين " إلى الشرق تنفح عطرا وإيمانا وحقائق خالدات ، وهو كلما مرّ من موضع أو قال تحت شجرة قال من هاهنا مر الحبيب المسيح عليه السلام .

زار دمشق فسحره جمالها وروعتها وطبيعتها ودماثة أهلها وأحاط بما لم يحط به رحالة من قبله : وكتب: الدمشقيون يهتمون بباطنهم أكثر من اهتمامهم بظاهرهم . بقلوبهم أكثر من أجسادهم ؛ ودليله من عمارتهم وهو دائما مولع بالدليل يقول : انظر إلى بيوتهم وقارن بين الجدران الصلدة المجصصة في ظاهرها من الخارج ، وبين الغرف المنقوشة المزينة والحدائق الغناء من داخلها .

وزار حلب فراقه جمالها وإنسانها وتنوع ثقافتها وسكانها ، فقال هذه " أثينة الأوربية " تعبش هنا في قلب أسية . ثم عاد إلى بلاده يحمل معه أرمغان الشرق أو أرمغان أرض المسيح : شجرتين من أرز لبنان غرست في إيطاليا ..

بعد عشرين سنة من رحلة الحج الأولى عاد الشاعر المتصوف إلى تركية وأقام فيها ، وكتب عن تاريخها ,,

وكان يلهج بشعر الحب والأسى ويعلن الرضا عن الله والحب له رغم المصائب ، واتهمه الكهنة – كعادتهم في كل دين في اتهام الناس – واتهمه الكهنة بالقول بوحدة الوجود فرد عليهم : وهل أنا طفل صغير لا يميز القول بين حقيقة الخالق وحقيقة المخلوق ..

ولقد دعم لامارتين موقفه الصميم من قضية الإيمان في مواجهة نزعة الشرود من الكنيسة التي كانت قد بدأت تطغى على الغرب ، في مجموعة شعرية خاصة نشرها 1830 تحت " عنوان تناغمات شعرية دينية " هي أقرب للترانيم الصوفية ..

في أكثر من مقام من رحلاته إلى الشرق ، وفي كتابته عن تاريخ تركية ، يذكر النبيل الفرنسي سيدنا محمد رسول الله فيذكره ببعض ما يستحق من التقدير والتبجيل ..وبلهجة علمية تحليلية واثقة ؛ يتساءل لامارتين أي رجل أو أي زعيم في غمار التاريخ والحاضر يحق له أن يدعي أنه أعظم من محمد – صلوا وسلموا على سيدنا محمد – ؟! ثم يحكم القضية على هذا النحو من الحجاج المنطقي السليم فيقول :

" إذا كانت عظمة الهدف ، وبساطة الرسائل ،والنتائج الكبرى المحققة ؛ هي المقاييس الثلاثة لعظمة الإنسان ؛ فمن يستطيع أن يقارن ذلك بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) . على الصعيد الإنساني ، أي رجل عظيم من كبار رجال التاريخ الحديث يمكن أن يساويه ؟؟؟!!!

ويقول مستقرئا رجال التاريخ وتجاربه وانتصاراته :

إن أعظم الرجال لم يكونوا أنفسهم إلا بعمل السلاح ، وفرض القوة ، وسيطرة القوانين ، واستعباد الممالك . إنهم لم يأسسوا ، حين أسسوا سوى دولة مادية دامت حينا ثم زالت مثل زوالهم عن مسرح الوجود؛ أما محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقد أحيا المشاعر ، ونظم الشرائع ، وأسس الممالك ، ووحد الشعوب والعروش ، وانقادت إليه الملايين من الناس في ثلث الكرة الأرضية المأهول ... وهو مع ذلك فقد زلزل أركان هياكل جوفاء ، وأزال آلهة باطلة ، وأديانا زائفة ، ومعتقدات فاسدة ، وحرك نفوسا إلى الحق ، وأقام دينا صالحا على أساس كتاب أصبح كل حرف منه قانونا حكيما ، وكوّن أمة من كل لغة وعرق ، وغرس في نفوس هذه الأمة المسلمة كره الآلهة الزائفة ، والتعلق بعبادة الله الواحد الحق ، الإله غير المحسوس ولا الملموس ، جاعلا لها من هذا النهج الميزة الخاصة الحية التي تشكل الطابع المميز لها ، هذا التمسك بالعقيدة الذي يحارب كل ما من شأنه أن يخرق حرمة الحقيقة الإلهية هو الفضيلة التي تميز بها أصحاب محمد "

"ما مِن إنسان مثله أبدا هدف إلى، إرادياً أو‎ ‎لاإرادياً، هدفٍ أكثر نبلاً من ذلك الهدف، الذي طالما أنه ‏كان فوق طاقة البشر: ألا وهو هدم الخرافات القائمة عائقاً بين المخلوق والخالق، وإعادة ‏الله إلى الإنسان ، والإنسان إلى الله، وإعادة تأسيس الفكرة العقلانية والمقدسة للألوهية في ‏خضّم فوضى الآلهة المادية والمشوَّهة في عبادة الأوثان.‏

‏" ما مِنْ إنسان مثله قطُّ، وبوسائل ضعيفة للغاية ، قام بعمل لا يتناسب إطلاقاً مع قدرة ‏القوة البشرية ، إذ لم يكن يملك وسيلة تساعده فيه إلاّ ذاته، سواء في المفهوم الفلسفي، أو في ‏تحقيق مثل هذه النتائج العظيمة؛ وكذلك لم تساعده سوى حفنة من الرجال البدائيين يعيشون على هامش ‏الصحراء.‏

ويصيف الشاعر لامارتين

‏"أخيراً، ما مِنْ إنسان استطاع إنجاز ثورة حققت مثل هذا الانتشار الواسع في العالم ‏ودامت كل هذا الزمن، خلال فترة قصيرة جداً؛ إذ إنه وبعد أقلّ من قرنين على تبشيره ‏بالإسلام، انتشر الفكر الإسلامي التبشيري والجهادي وسيطر على مناطق شبه الجزيرة العربية ‏، وفتح، بدين التوحيد، بلاد فارس وخراسان والقوقاز وبلاد ما وراء النهر والهند الغربية ‏وسورية ومصر وإثيوبيا وكل البلدان المعروفة في إفريقيا الشمالية وعدةَ جزر في البحر ‏المتوسط وإسبانيا وجزءاً من بلاد الغال.‏ وبلاد الغال هي فرنسة .

لقد طبع محمد بحروف لا تمحى هذه الهوية الإسلامية، التي تكره الآلهة المزيفة وتعشق الله الواحد المتنزه عن الحسية والتجسد والتشخيص.

وكان هذا الانتماء لتلك الهوية الوطنية هو نوع من الغضب لله من دنس الشرك والمشركين ، وكان التوحيد فضيلةً لأتباع النبي محمد ، ومعجزة له؛ وأنهم فتحوا ثلث الأرض باسم عقيدته، وهي لم تكن معجزة شخص واحد، وإنما كانت معجزة العقل . كانت انتصارا لفكرة وحدانية الله في ذاتها، معلَنة خلال اليأس من حكايات "ولادة الآلهة وسلالاتها الأسطورية" يقول زهير " فتأمل "

ثم يضيف لامارتين عن محمد رسول الله ..

 وحين تفجّرت الحقيقة على شفتيه، أحرقت كل معابد الأوثان القديمة وغمرت ثلث العالم بشعاع من نورها.

ثم يتساءل الشاعر الفرنسي الكبير :

"فهل كان هذا الرجل مدّعياً ؟!

ويجيب :

إنني لا أظن ذلك، خاصة بعد أن قمت بدراسة تاريخه. فالادعاء هو النفاق في العقيدة . وكما أن النفاق لا يملك قوة العقيدة، فإن الكذب لا يملك أبداً قوة الصدق.

ويضيف

"في قوانين الحركة "

إذا كانت قوة الإطلاق هي المعيار الدقيق لقوة الدفع، فإن الفعل التاريخي – الزماني – المكاني ، يقاس بالطريقة ذاتها .

 قياس قوة الدفع التي يولدها الوحي . فالفكرة التي تصل إلى مكانة رفيعة جدا ، وبعيدة جدا ، ويدوم أثرها لزمن طويل جداً، هي فكرة حقيقية . وقوية للغاية . ومن أجل أن تكتسب هذه الفكرة مكانتها في التاريخ . يلخص بهذا عوامل رسوخ الأفكار في العقول والقلوب فيراها في : ( العلو – سعة الانتشار – والديمومة عبر الزمان ) فلكي تخلد الأفكار يجب أن تكون غايةً في الصدق والنقاء...!!

ويقول لامارتين مرورا ببعض شمائل رسول الله ..

"إلاّ أن حياة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتأملاته في خلوته وجرأته البطولية على خرافات عشيرته ، وجرأتَه في مواجهة غضب عباد الأوثان من قومه ، وصبره في تحمّله لهم خلال ثلاثة عشر عاماً في مكة ، وقبوله القيام بدور المتمرد على قيم المجتمع ، وتحمله لعبء دور الضحية بين قومه ، ثم هجرته أخيراً، ودعوته المستمرة إلى الله ، والحروب غير المتكافئة ماديا التي خاضها ، وثقته بالنجاح والنصر، وسكينته التي تفوق طاقة البشر في الملمات، وصبره الواثق في النصر، وإصراره على تثبيت العقيدة ، وليس على بناء الهيكل . وصَلاته الدائمة، ومناجاته الصادقة لله، وموته ودفنه بعد نصره ... كل أولئك يشهد على أن هذا النبي لم يكن مدعيا ..

وأنه إنما كان يدعو إلى حقيقة قائمة ، و قناعة راسخة. ولقد منحته هذه القناعة القدرة على إعادة تأسيس العقيدة. وتأسست هذه العقيدة بين حقيقتين : حقيقة وحدانية الله ، وحقيقة تنزهه ؛ فالأولى تحدد حقيقة الله، أما الثانية فتحدد ما لا ينبغي له ؛ الأولى هزمتْ بالسيف الآلهةَ الكاذبةَ، والثانية دشنتْ بالكلمة عقيدة جديدة في حياة الناس !!

يريد لامارتين أن يعبر بهذا عما نسميه في علم التوحيد

" ما يجب الله وما يجوز له وما يستحيل عليه " سبحانه

ويضيف لامارتين عن محمد رسول الله ..

"إنه فيلسوف ومفكر وخطيب فصيح ورسولٌ ومشرّع ومحارب ومقرر لأفكار جديدة ، ومؤسس لعقائد عقلانية ، ولعبادةٍ دون صُور، ومؤسس لعشرين امبراطورية على الأرض ، ولامبراطورية روحية واحدة ؛ هذا هو النبي محمد!!!!

"فمَن نجد أعظم منه إذا ما قيس بكل مقاييس العظمة الإنسانية؟!"

ذاك السؤال يطرحه ألفونس دي لامارتين النبيل الفرنسي على الدهماء من الفرنسيين ، ورئيسهم ماكرون ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 900