الموقف الوطني السوري بين المقاربين والمجانبين

المثل الأفلاطونية وبناء المدينة الفاضلة على الورق.. 

وبناء المدن على أنموذج المثل لا يغني عن الحق شيئا . ومن جميل ما حفظت من مقررات علم السياسة ؛ أن المنظرين السياسيين قلما مارسوا السياسة، وأن الممارسين للسياسة قلما قرؤوا كتابا في تنظيراتها .

" المثال " حالة شديدة النقاء أو شديدة النخبوية ترتسم في عقل المفكر أو الباحث أو الدارس أو المثقف؛ ولكن منعرجات الأرض وتضاريسها أكبر من أن تحيط بها عدسة مصور يلتقط للأرض صورة مصغرة عن بعد ..

وكما تحتاج هندسة المدن إلى تجسير الكثير من الوديان، وإلى حفر الكثير من الأنفاق ، وإلى ردم بعض الفجوات ؛ يحتاج الذي يشتغل على المشروع السياسي الوطني أن يقارب كل ذلك بلطف . ولاسيما حين يُطلب أن تُجرى المداخلة الطبية على جسم منهك مأزوم ...

وبغض النظر عن سلامة المثل النموذجية المطروحة أو خللها بالمطلق ، فإن تصورها في فراغ يكفي وحده للمصادرة عليها ...

أكثر دول العالم تقريبا دول متعددة المكونات على نحو ما ، ولكن هذه التعددية لم تمنع أبدا أن يكون لهذه الدول هوياتها المشتقة أصلا من أصولها العرقية ومن ثقافتها السائدة . في مساحات شاسعة في البنيوية المجتمعية يختلط التليد بالطارف ، والديني بالمجتمعي ، حتى في " ماريان الفرنسية " ما تزال العطلة الأسبوعية يوم الأحد ، وما زال بابا نويل الحكاية التي تحكى للصغيرات والصغار .

للاقتراب أكثر من الموضوع الذي نريد نحتاج في مشروعنا الوطني السوري إلى تصورات أكثر واقعية ، وأكثر عدالة ، وأكثر اعتبارا لسورية التي تمثل اليوم في إطار محيطها العام ، حالة ألمانيا قبل بسمارك، وحالة إيطاليا قبل كافور ..

في إطار الرؤية الموضوعية لواقع المثقف السياسي السوري نجد أنفسنا أمام أنموذجين : المثقف المجانب للمشروع الوطني ، الغارق في محيطه الفئوي ، الفئة كبرت أو صغرت ، التي ترى نفسها في سورية الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، والتي تريد كل شيء ، وتضن بأي شيء ، تصر على أن تخرج على الناس " بزينتها " وتتركهم يقفون أمامها عراة مجردين ..

وهؤلاء الذين يتمسكون بهذا الموقف إنما يعجبهم أن يكسبوا بشدة ولاء فئاتهم ، وأن تعتبرهم هذه الفئات المحكومة بالعقلية أو النفسية ، التي يؤطرها غوستاف لوبون في حديثه عن سيكولوجيا الجماهير " المحامي الأوفى لتطلعاتها ..

ثم المثقف المقارب للمشروع الوطني ، الذي يمتلك تصورا عمليا واقعيا لطبيعة الشراكة الوطنية ، ولحقيقتها وأبعادها ، والذي يستطيع أن يقف باعتدال إلى جانب أصدقائه المقاربين في كل الفئات .. وعلى عاتق هذه المجموعة من المقاربين تقع مسئولية بناء التصورات الحقيقة للمشروع الذي يجمع ويقنع . كتب كانت عن " السلام الدائم " وشرح للناس أن السلام لا يقوم أصلا ، ولا يكون دائما بعدُ ، إذا لم يكن قائما على عدل . إذا لم يستقر أي هرم مجتمعي على قاعدته، بتعبيره عن إرادة جمعية. وحين يقرر " كانط " أن الديموقراطيات لا تتحارب ، فمن باب أولى أن المجتمعات المتمثلة على قاعدة السواء الوطني لا تعرف الحروب الأهلية .

أي مواطن يريد أن يكون مقاربا إيجابيا فعالا في بناء المشروع الوطني الجامع. يجب أن يحافظ في موقعه على أمرين ؛ أن يحافظ على مصداقيته أمام الذين يمثلهم لئلا يفقد دوره بينهم ، وهذا يحتاج إلى وعي وحصافة وحكمة ، حتى وهو يزين لهم ما لم يألفوا ، وعلى مصداقيته أمام الذين يخاطبهم لكي يدركوا أنهم يتمتعون في موقفه وفي منطقه بالتقدير والاعتبار . وأي اهتزاز في هاتين المصداقيتين ، تجعل المعني بأي مشروع فردا ، ومن قبل دعا سيدنا زكريا ( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا ) أو تجعله " خصما " وربما " عدوا " وقلما يقبل من خصم أو عدو قول .

وهذا مدخل يسلمنا إلى حقيقة هي أن أي مشروع وطني متصور أو متخيل لا يمكن أن ينشأ في فراغ ، ولا أن يطرح في فراغ ، كما لا يمكن أن يكون في طرحه الأولي كالبيوت الجاهزة . ولا يمكن أن نخرج بالناس كل الناس من عمق الأزمة إلى يفاع المثالية .. فالتدرج في الطرح الوطني أيضا مطلب. التدرج من الجميع ، ولمصلحة الجميع ، وليس التدرج الذي يراد منه التغطية على الاستئثار ، أو على قوانين الامتيازات ..

لنعترف أن الطروحات الوطنية هي طروحات مستجدة على عقلنا الجمعي ، وكثير من السوريين يفهمون الوطنية على أنها تلك الحزمة من مشاعر الحنين. تلك الحمى كما يقول الفرنسيون . ومازال بعضنا يحدد الوطنية بالانتماء إلى الأرض ، إلى الجغرافيا ، وينسى معنى الانتماء إلى الناس إلى الديمغرافيا . كما ينسى معنى الانتماء إلى الثقافة ..لن نحصل على شجرة مثمرة بتعليق الثمار على الأشجار .

معنى الشراكة الوطنية عندنا ما زال بحاجة إلى شرح ، وبعد الشرح يحتاج إلى تعميق. ليس لكي لا يخاف مواطن من مواطن فقط ، بل ليعتبر المواطن حق أخيه في وطنه مثل حقه فيه . لا يجوز أن ننكر الأثر السلبي الذي خلفه نصف قرن من حكم بيت الأسد ..

ما زلنا نسمع من السوريين من يقول أنا أكثر ، ويرد عليه آخر أن أقدم . حتى مفهوم الأكثرية والأقلية تحت السقف الوطني يحتاج إلى إعادة تعريف وشرح. فقد أفسدت الحقبة الأسدية الكثير من العقول والقلوب والأذواق.

ولو سئلتُ من موقع وطني محض لقلت إن الجمهور الذي دارت عليه رحى الحرب الدولية والإقليمية والأسدية في سورية يعاني من نكوص واضح في ميدان الرؤية الوطنية . نكوص نشأ عن عوامل متعددة . لا يتسع لها المقام ، والذين يحاولون معالجة هذا النكوص يقعون بين نارين ... وأظنهم يستحقون أن يمتلكوا فرصتهم ليصححوا ويصلحوا ما أنتجه بشار الأسد مباشرة أو عن طريق " أبو عدس " المزعوم .

يكتب حسن الحكيم رئيس وزراء سورية الأسبق في مذكراته مثلا عن الاجتماع التأسيسي لجماعة الإخوان المسلمين فيثبت أن الجماعة، وضعت لنفسها خمسة أهداف وكان منها : التصدي للحالة الطائفية ، ومحاربة التعصب الطائفي . وهذا الذي عشناه ضمن الجماعة طوال عقود ؛ ولكن لا ندري لمصلحة من صنفت الجماعة على أنها حاملة المشروع الطائفي في سورية!! هناك فريق على الأرض السورية وعلى رأسهم بشار الأسد والإيراني والروسي وغيرهم كثير يريدون أن يذهبوا في معركة كسر العظم المجتمعية حتى النهاية ، بل يريدون أن تستمر هذه الحرب حتى يتفانى السوريون ، وتتدمر سورية ، ولو قاربنا هذه الحالقة كفرقاء فسوف يجد كل فريق منا من المسوغات والمعاذير ما يغطيه ويزيد عن حاجته ليستمر في اللجاجة . ولو قاربنا هذا الملف بروح الفريق المبصر المستبصر ، الذي يجيد حساب المآلات والعواقب ، والذي يستشرف الغد الأجمل لكل طفل سوري يولد ... فسيكون أداؤنا غير هذا الأداء ، وعطاؤنا غير هذا العطاء .

وليكن مدخلنا ليحضر أي فريق المشهد بالثوب الذي يحب ، ولكن ليس من الحكمة أن يشترط أحدنا على الآخرين أن يحضروا المشهد عراة. لعبة الشيطان مع آدم وحواء كانت ( يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا )..

وللبحث في مفردات الهوية الوطنية صلة ...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 912