المقاومة وحدها تلم الشمل

أبدأ مقالي بفقرات من افتتاحية صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية التي تعكس فيها تصميم الشعب الفلسطيني وإرادته الصلبة وتمسكه بفلسطينيته وقضيته، التي ما انحاز عنها قط سنة بعد سنة، وعقدا بعد عقد، ويمكن القول ولا قرنا بعد قرن، خاصة أن المشكلة الفلسطينية بدأت مع ما قبل وعد بلفور المشؤوم في عام 1917.

فماذا قالت «هآرتس» التي نشرت قبل يومين صور شهداء غزة من الأطفال وعددهم 67 ، ووقفت ضد العدوان الأخير على القطاع، مع الاعتذار إن كانت هناك أي أخطاء في الترجمة.

تقول الصحيفة في افتتاحيتها «إننا نتعرض لحرب لسنا من نديرها، وبالتأكيد لسنا من ينهيها، خاصة أن المدن العربية في إسرائيل فاجأت الجميع بهذه الثورة العارمة ضدنا، بعد أن كنا نظن أنهم فقدوا بوصلتهم الفلسطينية.. إنهم فعلا أصحاب الأرض، ومن غير أصحاب الأرض يدافع عنها بنفسه وماله وأولاده بهذه الشراسة، وهذا الكبرياء والتحدي.. وأنا كيهودي أتحدى أن تأتي دولة إسرائيل كلها بهذا الانتماء، وهذا التمسك والتجذر بالأرض، بعد أن أذقناهم ويلاتنا من قتل وسجن وحصار وفصل، وأغرقناهم بالمخدرات، وغزونا أفكارهم بخزعبلات تبعدهم عن دينهم كالتحرر والإلحاد والشك.. لكن الغريب في الأمر أن يكون أحدهم مدمن مخدرات، ويهب دفاعا عن أرضه وأقصاه، وكأنه شيخ بعمامة وصوته يصهل الله أكبر». وتضيف الصحيفة «جيوش دول بكامل عتادها لم تجرؤ على ما فعلته المقاومة الفلسطينية في أيام معدودات، فقد سقط القناع عن الجندي الإسرائيلي الذي لا يقهر، وأصبح يقتل ويخطف».

وتابعت «وطالما أن تل أبيب ذاقت صواريخ المقاومة، فمن الأفضل أن نتخلى عن حلمنا الزائف بإسرائيل الكبرى، ويجب أن تكون للفلسطيني دولة جارة تسالمنا ونسالمها، وهذا فقط يطيل عمر بقائنا على هذه الأرض بضع سنين، وأعتقد أنه لو بعد ألف عام، هذا إن استطعنا أن نستمر لعشر أعوام مقبلة، كدولة يهودية فلا بد أن يأتي يوم ندفع فيه كل الفاتورة، فالفلسطيني سيبعث من جديد، ومن جديد، وسيأتي مرة راكبا فرسه متجها نحو تل أبيب».

نعم وبدون مفاخرة زائدة هذا هو شعبنا الفلسطيني العظيم، إنه حقا شعب الجبارين، لم يخذل قضيته قط، ولم يتخاذل عن أداء واجبه أبدا، فكلما ظنت دول العالم وأنظمة «اتفاقات إبراهيم» أن نجمه أفل، وأن قضيته ركنت على الرف، ولم تعد تحتل صدارة القضايا العربية ولا العالمية، يستشعر هذا الشعب الخطر الذي يحيق به، فينهض من تحت ركام الوضع العربي المتردي، عملاقا، أقوى وأشد من ذي قبل ويفرض قضيته مجددا على جدول أعمال المنطقة والعالم أجمع. هذا ما يحصل الآن، وحصل عام 1987 عندما شعر بأن الدول العربية في قمة عمان تحاول إقصاء منظمة التحرير الفلسطينية وركنها جانبا، انتفض ليصنع أكبر انتفاضة في العالم، سلاحها طفل وحجر المتوفر بكثرة في أرضنا الفلسطينية المباركة، لتفرض هذه القضية على جدول أعمال العالم مجددا، وتعيدها إلى صدارة القضايا العالمية لسنوات مقبلة. وأدخلت إلى القواميس اللغوية مصطلح الانتفاضة. تواصلت الانتفاضة لسنوات ست، إلى أن وئدت وشاركنا في دفنها في حديقة الورود في البيت الأبيض، وشيعت بحضور ضخم لزعماء وممثلي دول العالم، بتوقيع ما يسمى اتفاق أوسلو المشؤوم، الذي أضر بالقضية الفلسطينية، بدون حساب، ولا تزال آثاره السلبية قائمة حتى وقتنا الحالي. هذا هو الشعب الفلسطيني العظيم الذي قرر عام 2000 الانتفاض مجددا، بعد فشل مؤتمر كامب ديفيد وتدنيس أرييل شارون لساحات المسجد الأقصى.

نعم ها هو شعبنا الفلسطيني، الذي لا يزال في السنة الثالثة بعد المئة من وعد بلفور المشؤوم حيا جبارا عظيما، مقاتلا مقاوما، متمسكا بقضيته، رغم جميع المؤامرات الخارجية والداخلية العربية. ها هو شعبنا يعيد مجددا قضيته للصدارة، ويعدل البوصلة العربية، رغم اعتقاد عرب اتفاقات إبراهيم، وأذناب دونالد ترامب، أن هذه القضية انتهت، وأن زمنها ولّى إلى غير رجعة، وأن الطريق أمام هذه الدول أصبح مفتوحا لبناء شرق أوسط جديد تقوده إسرائيل يعينها محمد بن زايد نائب حاكم ابو ظبي وكيل منتجات المستوطنات، الذي يطرح نفسه بملياراته كوسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ويعرض تمويل إعادة إعمار غزة تحت إشراف مصري، وبدون أن يكون لحركة حماس أي دور فيه. ها هو الشعب الفلسطيني بصموده ومقاومته يعيد الحياة للشارع العربي، الذي أصابه ما يسمى بـ»الربيع العربي» بالإحباط، وأحيانا باليأس، ويفرض قضيته مجددا على عناوين الصحف العالمية الرئيسية، ونشرات الأخبار وشاشات تلفزيونات العالم من «بي بي سي» و»سي أن ان» وحتى فوكس نيوز اليمينية الداعمة لترامب. شعبنا شعر بحسه المرهف، الخطر، فانتفض في المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح وباب العمود وحي سلوان في القدس، ليتردد صدى انتفاضته في الضفة الغربية، التي تحركت بكل وسائل المقاومة المتاحة. وسرعان ما انضم إليهما، شعبنا الفلسطيني في الداخل بشبابه وشاباته، في مظاهرات ومواجهات شعبية عارمة لم تشهدها إسرائيل من قبل، حتى في انتفاضة الأقصى عام 2000 التي جاءت إضافة لرفضه تدنيس شارون الحرم القدسي، لحماية مشروعه الوطني، ودعما للموقف الرافض للرئيس الراحل ياسر عرفات التنازل عن القدس.

وأبى قطاع غزة الثائر دوما، وكما في كل مرة، إلا أن يشارك شعبه، ولكن على طريقته الخاصة، التي كما أثبتت التجارب السابقة، أن العدو الصهيوني لا يفهم غيرها، إنها لغة القوة والصواريخ، فوصلت صواريخ المقاومة إلى جميع مدن الاحتلال، وفرضت ما يسمى توازن الرعب، صحيح أن خسائرنا البشرية أعظم، والدمار الذي تعمد إحداثه الاحتلال أضعاف أضعاف، ولكن هذه هي الضريبة التي لا بد أن يدفعها شعبنا وهو مستعد دوما.

والأكثر أهمية في هذه الجولة من القتال هي المصداقية التي تحلت بها المقاومة، بكل أطيافها، وجعلت جماهير القدس والضفة والداخل الفلسطيني تهتف باسمها. فقد صدقت بما وعدت به، وهي التي حددت سير المعركة وساعة بدئها، فهي التي صنعت الفعل وتركت لإسرائيل رد الفعل، وهذا شيء غير معهود. لم تترك مؤسسات الشرعية الدولية، الأمم المتحدة بفروعها المختلفة مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة وملحقاتهما ومجلس حقوق الإنسان، خيارا لشعبنا سوى اللجوء لوسائل أخرى، بعد أن خذلته في كل مرة، وما زالت، وعلى مدى أكثر من نصف قرن، ولن نتحدث عما سبق. فحتى الأمس القريب فشلت الامم المتحدة ثلاث مرات، في استصدار بيان صحافي باسم مجلس الأمن الدولي حول الحرب على غزة، والسبب الموقف الأمريكي المعارض كما العادة. وأثبتت تجاربنا بما لا يدع مجالا للشك، على الأقل منذ اتفاق أوسلو المشؤوم، أن من يحظى بالتعاطف الدولي الرسمي، أو تعاطف الدول الكبرى الممسكة بالقرار الدولي، هو من يدوس على القوانين الدولية، خاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

فاتفاق أوسلو وصل إلى نهايته الحتمية في السنوات الأولى، بعد أن أدارت حكومات إسرائيل المتعاقبة ظهرها له، ولم يعد يتمسك به سوى الجانب الفلسطيني الذي اختار أن يسد أبواب المقاومة الأخرى، والاكتفاء بدون نتيجة بما يمكن تسميته بالنضال السلبي، وإصدار البيانات الرافضة لإجراءات الاحتلال، من تهويد للقدس وقضم لأراضي الضفة، ومواصلة البناء الاستيطاني، بوتيرة متسارعة، ومصادرة أراض لقتل أي فرص لقيام دولة مستقلة قابلة للحياة، وتصاعد عمليات القتل واستئساد المستوطنين بدعم من الحكومة الفاشية في تل أبيب على مزارعينا وقرانا وثرواتنا.

لقد أفشلت صواريخ غزة كل السياسات السابقة، ولم يعد هناك مكان للمقاومة السلبية، ولم تعد تكفي بيانات الرفض لخطوات الاحتلال الاستيطانية والتهويدية وجرائمه ضد شعبنا، ولم يعد هناك مجال للقبول بالوضع القائم ولا السياسات السابقة والحالية. والمؤسسات الدولية لم تعد تجدي نفعا أمام التغول اليميني الفاشي. لدينا أدوات الرد والردع الكثيرة، وشعبنا وشبابنا مستعدان فلا تقفوا في طريقه حتى لا يضطر للتمرد، وعندئذ ستكون النتائج وخيمة وستكونون انتم وحدكم المسؤولين.

وأختتم بفقرة من بيان للاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين «إن الحرب العدوانية على غزة والملحمة البطولية التي سجل سطورها الكفاحية الشباب الفلسطيني، بصدورهم العارية على عتبات المسجد الأقصى المقدسة وتراب الشيخ جراح، وحجارة باب العمود والداخل الفلسطيني، تزيد القضية الفلسطينية رسوخا في الوجدان الشعبي الفلسطيني والعربي، وتزيدها قداسة في الضمائر العربية الحية، منوها لمشاركة الشباب الفلسطيني من كل البقاع الفلسطينية. المقاومة بجميع أشكالها أن ديرت بحرفية تلم شملنا، وتلف كل مكونات الشعب الفلسطيني من حولها، لا اللهث وراء سراب الحلول التي لن تأتي.

وسوم: العدد 931