قضايا ملتبسة: الإخوان المسلمون والطائفية

وكثيرا ما يحاول بعض الناس أن يلصقوا داء " الطائفية " وهو داء معدٍ خطير وفتاك عضال بجماعة الإخوان المسلمين. ويتجاوز بعضهم المدى في ذلك فيعتبر كل تجمع أو جماعة أو حزب يعلن عنوانا إسلاميا، أو شعارا دينيا هو تجمع أو حزب " غير وطني" ، أو بطريقة أكثر صرامة هو تجمع أو حزب "طائفي" وأيضا غير ديمقراطي...

وسأكتفي في هذه المقام أن أكتب عن جماعة الإخوان المسلمين في سورية وعن الطائفية في مواقف ورؤية مؤسسيها وقادتها الفكريين والسياسيين.

وفي الجواب العام على التهم الرائجة السائغة كثيرة التداول، أن كل عنوان إسلامي أو ديني ينفي عن أصحابه الوطنية، ويلصق بهم الطائفية، يكفي أن نذكر أن أحزابا عريقة في " الغرب الديمقراطي " ترفع لنفسها منذ عقود طويلة عناوين مسيحية، ولا أحد يرى في هذا تناقضا مع الروح الوطنية لا انتماء ولا وحدة . وهذا الحزب " الديمقراطي المسيحي" في ألمانيا وفي غيرها من الأقطار الأوربية، كثيرا ما يتسيد المشهد الديمقراطي، ويظل يتداول الحكم لدورات ودورات، ولا أحد يثير في وجهه من المشكلات ما يثار في وجه التجمعات ذات العناوين الإسلامية في مجتمعاتنا ، المبتلاة بأنواع من التكفيرين المتعصبين من متدينين ومدنيين!!

وأرجو أن يتهرب متهرب من الاستشهاد بالعنوان إلى الانخراط في الحديث عن المضامين. فإذا اتفقنا على سلامة العناوين انتقلنا إلى الحديث عن المضامين. المهم أن نتفق أن العنوان الديني بذاته لا ينفي عن رافعي شعاره لا وطنية ولا توحيدا ...

منذ الانطلاقات الأولى لجماعة الإخوان المسلمين - ودائما حديثي عن سورية- في أربعينات القرن الماضي ،كان هناك إدراك مستشرف لخطر الطائفية، وتداعياتها، وضرورة التصدي لها.، وسحب فتيل متفجراتها ، ولم يكن الأمر قط كما يحلو لهواة القائلين..

وقد تجلى ذلك عمليا في في العديد من الخطوات التاريخية المهمة، التي كان يحضّر لها ويشارك فيها قياديو الجماعة ومؤسسوها على المستويين الديني والمذهبي.

أعلم اليوم أن الكثير من أبناء الجيل الذين اكتوا بنيران الطائفية لا يقبلون هذا الكلام ولا يحبذونه بل ويصبون نيران غضبهم عليه، ولكنني حين أكتب كمؤرخ ، لن يكون بوسعي تغيير التاريخ ..

جماعة الإخوان المسلمين كانت تحاول عبر قياداتها ومؤسسيها بكل الوعي وحسن النية تجسير الفجوات على خلفياتها الدينية والمذهبية، فكانت المشاركات التي لا تنقطع في مؤتمرات التقارب اللإسلامي - المسيحي، والسني الشيعي، على أمل تجنيب الأمة هذه المنزلقات الخطيرة .

بعين السلب والانتقاص والاتهام ينظر اليوم إلى تلك الجهود الواعية حيث يستغل قوم ممن لاخلاق لهم الأزمة التي صنعها متطرفو عقيدة الولي الفقيه، وكذا المرجعيات المسيحية، التي ترى في المسلمين خطرا على الوجود - راجع تصريحات البطرك الراعي في الفاتيكان ودعوته إلى إخراج السوريين كرها من لبنان، واعتبار المسلمين هم العدو - إن الطائفية اليوم تفرض على أولي الأحلام والنهى على كل المدرجات استجابات أكثر حكمة للتحدي الطائفي، لتصادره وتنفيه، وليس لتعززه وتحميه.

أعيد بأن الإخوان المسلمين قد وعوا خطورة الأزمة الطائفية، وأبعادها ؛ وحاولوا جهدهم أن يصادروها وأن يسحبوا فتيلها، وأن يئدوا الفتن في مهدها، وكان وعيهم هذا مبكرا أولا ، وقد رافقهم هذا طوال سني نشاطهم ثانيا - وهذا لا يمنع أن يكون لهذه القاعدة شذوذاتها خلال خمسة وسبعين عاما هي عمر الجماعة ثالثا.

أما أن وعي الجماعة لهذا الخطر وأبعاده وتداعياته كان مبكرا ورائدا وسابقا فيشهد عليه ما رواه " دولة حسن الحكيم" رئيس وزراء سورية الأسبق في كتابه الذي عنوانه " خبراتي في الحكم" . والذي صدرت طبعته الأولى عام 1978..

ويشهد فيه بما يلي :

" وفي المؤتمر الذي عقد في يبرود في سوريةعام 1946 - وهو مؤتمر الإعلان عن تأسيس الجماعة - حددت الجماعة أهدافها بما يلي:

-تحرير الأمة العربية وتوحيدها..وحفظ عقيدتها على أساس الإسلام ..

- إصلاح المجتمع ومحاربة الاستعمار . بالتعاون مع الهيئات المختلفة.

- محاربة محاولات التفرقة بين الطوائف والأديان ..

- إصلاح جهاز الدولةبتنفيذ القوانين دون محاباة ..

هذه الأهداف العملية البسيطة ، إذا استثنينا هدف توحيد الأمة كثير التعقي، ،كانت هي الأهداف العامة التي تشغل عقول الأخوة المؤسسين.

وحين أعرض هذه الأهداف اليوم على الرأي العام المجتمعي ربما أحصد كثيرا من الاستغراب عن يمين وشمال!!

وأراني اليوم أقول هجرا بمجرد أن أطرح حاجتنا إلى الإصلاح الاجتماعي، فبعض الناس باتوا يحدثوننا عن مجتمعاتنا المعصومة بالتقليد، ويبنون على هذه العصمة نظريات وأحكاما !!

 أو أطرح حاجتنا إلى الوعي الطائفي. والمعنيّ بالوعي الطائفي البراعة في تفكيك المفخخات الطائفية والعصبوية لأنها إذا انفجرت لن تنفجر بمن حولها فقط. وإنما إذا انفجرت فستشمل الجميع.

أعلم أن بعض من يظن ويخال ويحسب أنه ...لا تعجبهم هذه الأهداف ولا هذه الآراء ، ولا هذه الحقائق ، ويريدون أن يركبوا بالناس الصعب والذلول ليصيروا بهم حيث يريدون..

وعلى هدي هذه الكلمات أيضا كتب الدكتور محمد المبارك رحمه الله تعالى وهو من جيل المؤسسين في جماعة الإخوان المسلمين كتابه القيم "مكونات المجتمع السوري" الذي اعتبر فيه بعد دراسة خارطة الوضع الطائفي في سورية، التعليمَ والتثقيف جسرا للاندماج وتشكيل المنتظم المجتمعي في سورية ..

تقع المجتمعات الضحية تحت ضغط عاملين ..

أولا مشروع "ولاية الفقيه" الشيعي بأبعاده الطائفية والشعوبية والسياسة ومحاولات الهيمنة والنفوذ الذي يديره ملالي طهران ..

وثانيا - مشروع الزمرة الحاكمة في دمشق بكل ممارساته الطائفية على مدى نصف قرن ، كل هذا يضع منطقتنا ووطننا أمام تحديات ضخمة ..

وإنه لمن التبسيط المخل أن يقف أحدنا أمام الواقع بكل تحدياته فيعلن رفضا ساذجا للطائفية ..!!

لكي ندرك الطائفية جيدا هل نستطيع أن نزواج النظر بالنسبة لهؤلاء المجرمين من الحشود الطائفية بأسمائها المختلفة، فننظر إليهم على أنهم قتلة ومجرمون وأنهم في الوقت نفسه ضحايا !! ضحايا جهل عقيم أو فقر ذميم، أو رجال دين يستغلون فيهم هذا وذاك ...أظن أنه مطلب أشد تعقيدا من أن يطرح في مثل هذا الفضاء ..

نعم نرفض الطائفية ولكن وفق مشروع "وعي الطائفية " يصادر أسبابها، ويجفف منابعها، ويأخذ على أيدي العاملين عليها، ومن خلال كل هذا الأخذ على أيدي المستجيبين لدعاتها، والمنخرطين كحاملي الحطب في سعيرها...

أسمع أقواما يتكلمون عن جماعة الإخوان المسلمين من يمين وشمال فأعرف من أولئك وهؤلاء وأنكر ...ولم تكن هذه الجماعة المباركة للمحدودين مركبا.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 947