فلسطين بالدمِ حاضرةٌ وفي خطابِ الأممِ غائبةٌ

كأنه نسي أن كيانه هو سبب الاضطراب والتوتر في المنطقة، وسبب الفوضى وعدم الاستقرار، وأنه السبب الرئيس في اندلاع الحروب وتفجر الصراعات، وخلق الفتن وصناعة المؤامرات، ونشر الكراهية وشيوع الإرهاب، وغياب الديمقراطية وفرض الديكتاتوريات، وشحذ النعرات العرقية واستنفار العصبيات المذهبية، ورعاية مظاهر التمرد ودعوات الانفصال، ودعم أطرافها بالخبرة والسلاح، وتشجيعها بالمال والمساعدات، وتحريضها على إشعال المنطقة وإرباكها، وفقدانها أمنها وانهيار اقتصادها وفشل بلادها.

حاول رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينت، في أول كلمةٍ له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي بدا فيها متمكناً من لغته الانجليزية الأم، إظهار الإنكار ورفض الاعتراف، وتجاهل حقائق الواقع، والإصرار على الهروب إلى الأمام، وعدم الإقرار والتسليم بالبديهيات المعروفة والوقائع الدامغة، بأن كيانه هو المسؤول عما يعاني ومنه يشكو، وأنه هو الذي وضع نفسه وشعبه في مربع الخوف ودائرة الرعب، وأنه المسؤول عن كل الدماء التي تسيل، والأرواح التي تزهق، والبلاد التي تدمر، والأموال التي تهدر، والخراب العام الذي يسود وينتشر، ويطغى ويكثر.

تعمد بينت أن يظهر نفسه على منصة الأمم المتحدة مظلوماً مستضعفاً، ومستهدفاً مهدداً، وأن شعبه مسكينٌ يضطهد، ومظلومٌ يُرَّوع، ومسالمٌ يُهدَّدُ، رغم أن أيدي كيانه ظاهرة، وآثار مؤامراته بادية، ونتائج عدوانه طاغية، وظلمه وبغيه لا يخفى على أحد، ولا ينكره إلا نفسه والمتحالفون معه، إلا أنه تجاهل كل ذلك وانشغل بغيرها، وادعى الخوف والمظلومية، وشكى من التهديد والخطر، وطالب المجتمع الدولي بنصرته ومساعدته، وتأييده والوقوف معه، وتصديق روايته والموافقة على خطته.

أغفل بينت متعمداً وتجاهل قاصداً أن كيانه يحتل أرضاً عربيةً فلسطينية، وأنه طرد سكانها وشرد أهلها، وقتل واعتقل عشرات الآلاف من أهلها، وأن مستوطنيه قد حلوا مكانهم واستوطنوا أرضهم، وعمروا بيوتهم وحقولهم، وسكنوا منازلهم ومزارعهم، واستولوا على حقوقهم وممتلكاتهم.

وما زال كيانه يمعن في قضم ما بقي من أراضي الفلسطينيين ويصادرها، ويبني عليها مستوطناته وينقل إليها مستوطنيه، بينما يحرم الفلسطينيين، وهم سكان الأرض الحقيقيين، من حقوقهم المشروعة في أرضهم وبيوتهم وحقولهم وبساتينهم ومياههم، ويعمل على طردهم مما بقي لهم، وخلعهم من أرضهم، واستئصالهم من جذورهم، وشطب هويتهم، وطمس حضارتهم، وإنكار تاريخهم، وتغير أسمائهم، وفرض وقائع جديدة كاذبة ومزورة، تؤيد حق كيانه، وتنكر حق الشعب الفلسطيني وأصالة وجوده.

في الوقت الذي يصر فيه بينت وقادة الكيان الصهيوني، على حرمان الفلسطينيين من حقهم في الحياة الحرة الكريمة الشريفة، والاستمتاع بأرضهم ووطنهم ودولتهم السيدة الحرة المستقلة، فإنه يستنكر مقاومتهم، ويعيب عليهم صمودهم، ويدين ثورتهم، ويقف ضد انتفاضتهم، ويريد منهم يكفوا عن مواجهتهم، وأن يسلموا أسلحتهم، وينبذوا نضالهم، ويلعنوا تاريخهم، ويجحدوا ماضيهم، وأن يتخلوا عن شهدائهم وأسراهم، وأن يكفوا عن دعمهم ومساندتهم، وأن يسلموا له بما سلب، وأن يقروا لكيانه بشرعية الوجود وحق البقاء. دون أن يقدم لهم شيئاً مما لهم، أو يسلم لهم ويعترف بحقوقهم.

في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يأت بينت على ذكر الفلسطينيين، ولم يذكر قضيتهم، ولم يشرح معاناتهم، ولم يعدد مآسيهم، ولم يذكر أنهم يعانون من الاحتلال، ويقاسون من سياسته، وأن جلهم يقع تحت الحصار، ويخضع للأحكام العسكرية، فيقتلون ويعتقلون، وتداهم بلداتهم وتجتاح مناطقهم، وكأن القضية الفلسطينية غير موجودة أصلاً، وفلسطين ليست حقيقة، فلا اسم لها على الخارطة السياسية، ولا وجود لها على الأرض الجغرافية، فلا أرض لها ولا شعب، ولا مقدسات لها ولا أسرى، ولا تاريخ لأهلها فيها ولا حضارة لهم.

أنكر نفتالي بينت القضية الفلسطينية في وقتٍ كانت فيه فلسطين تشتعل ناراً، وتستعر أواراً، وتلتهب اشتباكاتٍ في أكثر من مكانٍ في الضفة الغربية، سقط خلالها شهداءٌ عديدون في القدس ورام الله وجنين، واجتاحت قواتُ النخبة في جيش الاحتلال أكثر من منطقة في الضفة الغربية، قبل وبعد اعتقال الأسرى المحررين الستة، الذين تمكنوا من الفرار من سجن جلبوع المحصن، وما زالت قواته تقتل الفلسطينيين على الحواجز الأمنية التي نصبتها، والمعابر التي فرضتها وأبقتها، في الوقت الذي تواصل فيها طائراتها الحربية ودباباتها المدمرة قصف أهدافٍ متفرقة في قطاع غزة، تطال البيوت والمساكن، والمزارع والمعامل، والمؤسسات الأمنية والمقرات الشرطية وغيرها.

يظن نفتالي بينت، الذي يوصف بأنه الأضعف بين رؤساء الحكومة وأقلهم حيلة، أنه يستطيع أن يحقق ما لم يحققه أسلافه، وأنه سينجح في دفع دول العالم إلى تأييد كيانه، والإصغاء إليه وتصديق روايته، والالتفات إلى الملف النووي الإيراني والانشغال به عن القضية الفلسطينية، والعمل معه لمواجهة إيران والتصدي لأطماعها النووية.

فهي الخطر الداهم والرعب القادم، الذي سيغير وجه المنطقة في حال امتلاكها للقنبلة النووية، لهذا فقد أكثر من ذكر اسمها وعدد أخطارها، وحذر من نواياها، ونبه إلى مشاريعها، ولكن مسعاه قد فشل، وهدفه لم يتحقق، إذ لم يصغ إلى كلمته سوى قلةٍ من المعروفين بالولاء إلى كيانه، الذين يدافعون عن ظلمه وعدوانه وبغيه وطغيانه.

لكن أغلب مندوبي وممثلي دول العالم في الأمم المتحدة يعرفون فلسطين جيداً، ويدركون عدالة قضيتها، ويؤمنون بحق الشعب الفلسطيني في العيش على أرضه الحرة، وفي ظل دولته المستقلة، وبكامل سيادته الوطنية، وقد سبق للأمم المتحدة أن أصدرت قراراتٍ دولية، تعترف فيها بالدولة الفلسطينية، وتمنحها حق العضوية فيها، وتدين الكيان الصهيوني وتتهمه بالمسؤولية عن مأساة الشعب الفلسطيني، وتصنف الصهيونية بأنها حركة عنصرية، وتدين عمليات الاستيطان الإسرائيلية وتعتبرها غير شرعية، وتدعو "إسرائيل" إلى الاعتراف بقرارتها والالتزام بها، وتمكين الفلسطينيين من العودة إلى ديارهم وتقرير مصيرهم بأنفسهم.

وسوم: العدد 949