جولة جديدة من الإرهاب بالأحكام القضائية والمرضى بالتفاؤل

جميلٌ التفاؤل، جميلٌ بدون أدنى شك، أن تنتظر خيراً من الغد أو المستقبل، أن ترى الأمل يولد في الأفق مع شمس كل فجرٍ جديد، فكم كان الشاعر محقاً وصادقاً حين أنشد «ما أضيقُ العيش لولا فسحة الأمل» فالأوضاع صعبة، وضيق المعايش يزداد، خانقاً الغالبية العظمى، جميلٌ التفاؤل إذن والدعاء والعشم في الغد، وانتظار الفرج،

بيد أن المسافة بين التفاؤل والنظرة والتعامل الإيجابيين وإحسان الظن بالله والنظام والمقادير إلخ، والسذاجة قصيرة، تقطعها خفيفةً مسرعةً حافلة الإحباطات والإخفاقات والغلاء الفاحش المستعر، والاعتقالات والتصفيات السياسية وغير السياسية، وأقصر هي المسافة التي توصلها بالحماقة والعبط إذا شئنا الدقة والصراحة.

فالثابت أن الواقع على قبحه ورثاثة ظروفه المعيشية، ليس بصدفةٍ أو محض سوء حظٍ، أو نتيجة كارثةٍ طبيعية كزلزالٍ أو تسونامي مثلاً، بل نتيجة قراراتٍ اقتصادية تعبر عن انحيازٍ اجتماعيٍ طبقيٍ صريح، لن تنجح أن ترفع من وطأته وتقلل من حدته كباري أو أبراج لن يستفيد منها المتضررون بعشرات الملايين.

وعلى ذلك فالتفاؤل المُصمم المستميت، الذي يصفعه الواقع آناً بعد آخر، وفي كل محكٍ وتجربةٍ بعكس ما كان يتطلع إليه، يصبح تعامياً، وحين يتعلق به مصير أشخاصٍ وحركاتٍ سياسية ووطن، يغدو تقصيراً يرقى إلى مصاف الجريمة.

يصبح التفاؤل مزحةً ثقيلةً، بل بذيئة، خاصةً إذا ما كان ذلك الخصم الذي لم تزل ترجو منه خيراً وتعقلاً وثوبةً إلى رشده، المرة تلو الأخرى، متوسلاً متسولاً من باب «فيك الخصام وأنت الخصم والحكم» لا ينفك يقصم ظهرك بضرباتٍ كالجبال.

فقد حكمت محكمة أمن الدولة طوارئ، التي أنشئت بموجب حالة الطوارئ (تلك التي ألغاها السيسي مؤخراً فهلل بعض المرضى بالتفاؤل، متوسماً فيها بوادر انفراجة) على كلٍ من زياد العليمي الناشط والحقوقي والكاتب والبرلماني السابق، والشاب اللامع المثقف قبل كل ذاك بالحبس خمس سنوات، والصحافيين هشام فؤاد وحسام مؤنس بالحبس أربع سنوات، بالإضافة إلى آخرين بتهمةٍ عجيبة هي نشر أخبار كاذبة وتكدير السلم العام. الحقيقة أنني عبثاً حاولت أن أفهم كيف يتأتى لبضعة أشخاصٍ أن يكدروا هذا المدعو «السلم العام» فهل اشتكى مثلاً كدراً أو ضيقاً؟ أنا عن نفسي لم يكدرني شيء، ولم أشتكِ، علماً بأنني من ضمن من يُفترض أن يشملهم هذا السلم العام. إلا أن الهزل الأسود والمسخرة لا تتوقف عند هذا الحد، إذ أن التفاصيل تزيد من هوة هذا الكابوس القاسي، إذ يتبين أن التهمة في حقيقة الأمر تنحصر في مجرد «الإيحاء» بتلك الأخبار المكدرة، وأن المحكمة لم تتح لمحامي هيئة الدفاع تصوير أوراق القضية لدراستها بشكلٍ كافٍ، ولعل البعض يتذكر أن الأشخاص أنفسهم نزلاء في السجن بالفعل على ذمة قضيةٍ، منذ ما يزيد على العامين، هي قضية «تنظيم الأمل» ولم تصل إلى الأجهزة إلى الآن، أي ما بعد ما يقارب العامين أو يزيد، أخبار ذلك الإيحاء الخطير المدمر.

التهم، معدة سلفاً، والكل باقٍ في السجون إلى أن يقرر النظام خروجهم، لأن المتحكمين ارتأوا أن فلاناً أخذ كفايته وتربى وسيصير طيعاً

في حقيقة الأمر فإن التركيز في التفاصيل والحيثيات، على الأقل في ما يخص المتابعين والمهتمين، ضربٌ من العبث، لا يفيد في شيءٍ سوى تعذيب الذات أكثر مما هي معذبة، إذ مهما بان ما بلغه عوار الإجراءات، وضربها للأصول المتبعة والثوابت القانونية، فإن الأحكام، كالتهم، معدة سلفاً، والكل باقٍ في السجون إلى أن يقرر النظام خروجهم، إما لأن المتحكمين وعلى رأسهم السيسي، قد ارتأوا أن فلاناً أو علاناً قد أخذ كفايته و»تربى» أو أنه «ثاب وعقل» وسيصير طيعاً وسيعمل على تهدئة الجو و»الإيحاء» من ناحية أخرى بأنه ثم إمكانية للتحاور مع النظام، والوصول إلى تنازلات ولو هزيلة إلا أنها بداية خطوة على طريق الألف ميل، إلخ (على الرغم من تاريخٍ يشهد بكم نحن عالقون في هذه الخطوة منذ عقود) أو أولئك الذين يطلق سراحهم تحت ضغوطاتٍ خارجية، كتلك التي أجبرته على إلغاء حالة الطوارئ، أما دون ذلك فليست هناك بوادر نية لا للتخفيف أو للانفراج، والكل حكومةً وشعباً ومعارضين ومتفائلين، يعلمون ذلك جيداً.

لقد كتبت سابقاً على صفحات هذه الجريدة عن قضية الأمل، وعبرت عما رأيته من مفارقةٍ مذهلة تكمن في حبس الأمل، ولاحقاً كتبت عن إبقاء المحبوسين في قضايا الرأي والسياسة، وكل المغضوب عليهم في السجون عن طريق «تدويرهم» على ذمة قضايا جديدة مختلقة، وهذه لا حد لها، وبغض النظر عن أي مشاعر شخصية أو انحيازاتٍ سياسية فقد بت أجد صعوبةً ممضةً في الكتابة والإعادة، مرةً تلو الأخرى مذكراً منبهاً في كل قضيةٍ مشابهة، غير أن الظرف والواجب يحتمان ذلك.

للتذكرة والتأكيد، على كثرة ما يصدر من السيسي من غثاء، وما يقوم به ورجالات نظامه من حركة، فإن الأكيد أن النظام متسقٌ جداً في تعامله وانحيازاته، بقدر سعاره وراء الاستحواذ على أكبر قدر من النشاط الاقتصادي (حتى لو في صورة شراكةٍ أو إتاوة) والحصول على المال لسداد فوائد قروضه. لذا، فلم تكن «القوة الغاشمة» مجرد كلمة بنت الصدفة تفضح جهلاً في اللغة، وفي ما هو مقبول، بل إعلان حربٍ صريحة، حرب حتى النهاية يشنها النظام على أعدائه وهم كل أولئك الذين يراهم (أو يعتبرهم البعض) رموز يناير، من الذين لم ينضووا تحت جناح القائد الزعيم الملهم المخلص المفدى، وفي بعض الأحيان فالعداء شخصيٌ جداً بسبب كلمةٍ تفوه بها أحد هؤلاء عرضاً، أو في لحظةٍ حميميةٍ أو صفاء، ولم يكن ليتصور أن تكلفه عمراً في السجن. ببلادةٍ متناهيةٍ، وشهوةٍ لا تعرف شبعاً للانتقام، سيستمر القلب الأمني للنظام في حبس هؤلاء، فهم لا يرون فيهم سوى تذكرةٍ بإهانة يناير، ولذلك فهم يتلذذون بالانتقام منهم، ولا يرون لأعمارهم التي تضيع وأسرهم وأحلامهم، أي قيمة سوى كونهم وسيلة إيضاح وفزاعة لكل من تسول له نفسه الاعتراض، أو مجرد التفكير فيه، وفي ساديةٍ لا حد لها يسعدون كلما رأوا رد فعلنا الجزع المتألم من هول الأحكام، وتضييعها لوجود بشرٍ أعزاء علينا، فكلما زاد عذابنا وألمنا زادت متعتهم وتصميمهم على الاستمرار في الحبس واستحلاب التهم وتلفيقها ومقاضاتهم حتى نهلك إرهاقاً وكمداً نحن وهم.

إن نظام السيسي هو نظام ثورةٍ مضادةٍ بامتياز، وهو يشن حرباً صريحةً لا هوادة فيها على يناير وجيلها، يدمر مادته الحية ويمثل بها، تلك هي الحقيقة العارية بدون تجميلٍ أو زواق. إزاء ذلك، لن أزايد على الناس فأطالبهم بالحركة والنزول إلى الشارع، فأنا أعلم جيداً كم في ذلك من إهدارٍ للطاقات والأعمار، في ظل ميزان قوةٍ ليس في صالح الناس المرهقين البتة، إزاء بطش نظامٍ لن يتورع عن الضرب والفتك إذا ما شعر بأنه مهدد، وهو الشعور الذي يلازمه منذ يناير، بل أطالب بالصراحة مع النفس والكف عن التعامي والاستعباط وإنكار طبيعة هذا النظام وآليات عمله الخاصة والمميزة أو الـModus Operandi التي لا يحيد عنها، وأكثر من ذلك الكف عن الاستجداء الذليل الذي لا يزيد النظام إلا بطشاً وتمادياً، ولن يزيد المرضى بالتفاؤل والمسكونين بوهم إمكانية الإصلاح إلا إحباطاً وألماً. ربما كان الاعتراف بحقيقته والتعامل معها هي الخطوة الأولى لإشعاره بأن تغيراً في الوعي والتوقعات قد طرآ، وربما يبني ذلك مع الوقت معارضةً حقيقية يعتد بها، وحينها قد يراجع النظام موقفه.

وسوم: العدد 956