«دويتشه فيله» بين عقدة الذنب وتبرئة الجلاد

أعلنت المؤسسة الإعلامية الدولية لجمهورية ألمانيا الاتحادية «دويتشه فيله» (DW) أنها أوقفت مؤقتاً عمل عدد من الموظفين العرب العاملين في أقسامها داخل ألمانيا أو في مكاتب تابعة لها في الشرق الأوسط، وذلك في انتظار نتائج لجنة خاصة شكلتها المؤسسة للتحقيق في ما نُسب إلى العاملين الموقوفين من اتهامات بمعاداة السامية وانتقاد دولة الاحتلال الإسرائيلي. كذلك عمدت «دويتشه فيله» إلى وقف التعاون مع قناة «رؤيا» الفضائية الأردنية استناداً إلى مزاعم مماثلة، وقالت في بيان رسمي إنها «تنأى بنفسها وبشكل قاطع» عن بعض منشورات القناة الأردنية على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة تلك التي تتعلق بمعاداة السامية والعنصرية.

قبل هذا كله، وفي شهر أيار/ مايو الماضي، كانت «دويتشه فيله» قد قيدت عمل محرريها ومراسليها بصدد انتقاد السياسات الإسرائيلية، وحظرت عليهم تغطية جرائم الاحتلال أو الإشارة إلى الفصل العنصري أو حتى استخدام مفردات مثل الاستعمار والمستعمرين. وكانت تفاصيل هذه القيود قد نصت عليها وثيقة من صفحتين تمّ تسريبهما إلى وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وجاء فيهما أن موروث الهولوكوست أحد بنود الدستور الألماني، ومساندة دولة الاحتلال الإسرائيلي ركن أساسي في سياسة البلاد الخارجية.

وليس خافياً أن «دويتشه فيله» خضعت يومذاك، مثلما تخضع هذه الأيام أيضاً، إلى حملات منظمة قادتها وسائل إعلام ألمانية صريحة التعاطف مع دولة الاحتلال الإسرائيلي من جهة أولى، وعُرف عنها مهارة استثمار مسؤولية ألمانيا عن المحرقة في ابتزاز المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الألمانية بما يفيد ضمان التعامي عن السياسات الإسرائيلية وحشد التأييد للكيان الصهيوني، من جهة ثانية. وليس خافياً من جانب ثالث أن عقدة الذنب التي طبعت سلوك ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية كانت ركيزة كبرى في صياغة مواقف الحكومات الألمانية المختلفة، ليس تجاه السياسات الإسرائيلية وحدها بل كذلك بصدد القضية الفلسطينية والكثير من مسائل العلاقات الألمانية ـ العربية.

ومن المعروف أن «دويتشه فيله» تابعة للحكومة الألمانية وتتلقى الدعم المالي من الخزينة الفدرالية، وليس في وسع كبار المسؤولين في أقنيتها وإذاعاتها أن يخالفوا الخطوط التي ترسمها السلطات الحكومية، على مستوى النهج التحريري أسوة بالخطط الإدارية والمالية. وإذ تودّع ألمانيا المستشارة الأثيرة أنغيلا ميركل فإنّ الشعوب العربية، والشعب الفلسطيني خاصة، يصعب أن ينسى خطبتها من سدّة الكنيست الإسرائيلي ربيع 2007، وتصريحها بأن تهديد وجود إسرائيل يُعدّ تهديداً لوجود ألمانيا ذاتها، وهذا ما لم يسبقها إليه أي رئيس أمريكي.

وبذلك فإن سلوك «دويتشه فيله» بصدد الرقابة على تغطية جرائم الاحتلال أو انتقاد السياسات العنصرية الإسرائيلية لا يخرج عن المعضلة القديمة التي حكمت وتحكم سياسات ألمانيا، والتي تتمثل في التغاضي عن الجلاد أو تبرئته وإدانة الضحية، تحت ضغوطات عقدة الذنب والتعويض عن آثام ألمانيا النازية. وبالتالي لن يكون مفاجئاً أن تعمد «دويتشه فيله» إلى تحريم أخبار المنظمة الحقوقية العالمية «هيومان رايتس ووتش» لأنها أصدرت مؤخراً تقريراً مفصلاً يشير صراحة إلى الطابع العنصري لسياسات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني.

وسوم: العدد 958