وقفة مع محاضرة لوزير الأوقاف ألقاها في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط

وقفة مع محاضرة لوزير الأوقاف ألقاها في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط موضوعها : "  الدراسات الإسلامية إلى أين ؟ "

ألقى وزير الأوقاف يوم الخامس عشر من هذا الشهر محاضرة في كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط ، وقد توصلت من أحد الإخوة الكرام بها مصورة ومطبوعة ،فشاهدت المصور منها وقرأت المطبوع ، و قد استرعى انتباهي عنوانها فأقبلت عليها ، وهو عنوان  صاغه المحاضر في استفهام واضح أنه خرج به عن مقتضى الظاهر كما يقول البلاغيون  حيث أوحى باستغراب لا باستفهام ،  وأعتقد أنه  ربما قصد بذلك  رغبة في نفسه  للوصاية على شعبة الدراسات الإسلامية ،وضمها إلى وزارته . وبعد الانتهاء من سماع المحاضرة وقراءتها رجح لدي ما افترضته ، وفيما يلي أهم ما تناولته المحاضرة يتخللها التعليق على بعض ما جاء  فيها مع خاتمة تختصره  :

بداية شكر الوزير لكلية الآداب استضافته ، ودعوته لإلقاء هذه المحاضرة ،وهي دعوة  قال أنها صادفت هوى في نفسه لأنه زار الكلية التي أنفق فيها ربع قرن من عمره وهو يدرس مادة التاريخ ، وعبر عن حنينه إليها على طريقة من سن في الشعر العربي  الوقوف والإيقاف على الأطلال إلا أن غايته من الحلول بهذه الكلية  لم تكن  رغبة في وقوف ولا إيقاف ،وإنما زارها  لحاجة أخرى في نفسه باحثا عن  محل إعراب شعبة الدراسات  ذات الصلة بالدين ، وعن أفعالها ،ومصادرها، ونعوتها ،والفاعلين فيها، والمفعول بهم في صفوفها على حد تعبيره  ، وكان هذا كافيا أيضا  للتأكد من  صحة الفرضية التي افترضتها انطلاقا من عنوان محاضرته.

وخصص الوزير حيزا من وقت المحاضرة للحديث عن نفسه، وعن كيفية التحاقه بكلية الآداب  إذ عبر عن أسفه على عدم السماح  له بالانتماء إلى شعبة الفلسفة التي كان يرغب في الالتحاق  بها إلا أن الالتحاق بها كانت تحكمه المحسوبية يومئذ  كما قال، لذلك لم يجد بدا من الالتحاق بشعبة التاريخ ،ولا ندري ما الذي كان سيصنع بوزارة الشأن الديني لو قدر له أن يكون خريج شعبة الفلسفة  ، وقد فعل بها ما فعل وهو خريج شعبة التاريخ  ؟

وقبل خوض  الوزير في الحديث عن شعبة الدراسات الإسلامية ، استعرض نشأة الجامعات المغربية بعد الاستقلال ، وجره ذلك إلى الحديث عن جامعة القرويين وكليات علوم الدين التي كانت تابعة لها  قبل أن يسوق ظرف إحداث شعبة الدراسات الإسلامية ، وهو سيادة أو هيمنة المد اليساري عالميا ومحليا خلال سبعينيات القرن الماضي ، ووصف مخاض نشأتها  السياسي والإيديولوجي بالعسير يومئذ ، وأنها جاءت لتعديل اختلال كان في الجامعات المغربية أو إحداث توازن بين ما يدرس فيها  .

وانتقل بعد ذلك إلى الحديث عن دوافع  قد توجد وراء  الدراسات الإسلامية ،وهي في رأيه  مختلفة عند من يريدون بها تعليم الدين ، وعند ما يريدون بها أغراض غير التدين على  حد قوله ، وفي هذا ما يدل على أنه يشكك في هذه الشعبة ،وهو قول يؤكد مرة أخرى صحة الفرضية التي أوحى بها عنوان محاضرته .

وانبرى بعد ذلك إلى تصحيح ما اعتبره خللا  أو زيغا في هذه الشعبة ليستقيم أمرها بالنسبة إليه كي تعود إلى كنف ما كانت عليه جامعة القرويين ، والكليات التي كانت تنحو نحوها في تدريس علوم الدين ، وقد أثنى على خريجيها ، وأشاد بالمهام التي كانوا يتولونها بعد تخرجهم ، وبدورهم في استقلال البلاد . وحاول  بعد ذلك ما سماه التأصيل  لشعبة الدراسات الإسلامية المتمثل في وراثة العلماء للنبوة المضطلعة بأربعة أمور هي: تلاوة آيات الذكر الحكيم على الناس ، وتزكيتهم وتعليمهم له ، وتعليمهم الحكمة ،وبناء على هذا يرى الوزير أن خريج هذه الشعبة يجب أن يكون وارثا للنبوة يبلغ الدين لكل الناس دون اشتراط مؤهلات فيهم ، ودون تعقيد . وهنا يشير إلى أن علم الدين يزاحمه علم الفلسفة ، ولا يستطيع الجمع بينهما  إلا الخاصة من أمثال ابن رشد الذي  قال عنه أنه دافع عن حق الفلاسفة في تأويل الشرع على ضوء المنطق دون إنكار أصل من أصول الدين مع عدم التصريح بالتأويل لمن ليس هو أهل له لأنه يدخل الشك في عقول العامة مما يؤدي بهم  إلى الكفر . ويتوقف المحاضر ليشترط في طالب الدراسات الإسلامية دراسة الفلسفة والمنطق، لكنه حذر من إساءة استخدامهما حتى لا تنقلب الحكمة عدوة للشرع . ولم يكتف المحاضر برأي ابن رشد في الرفق بالعامة أثناء التبليغ  بل اشتشهد برأي مماثل للفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا الذي اعتقد أنه قد أخذ ذلك عن ابن رشد  من خلال كتابات ابن ميمون ،وقد عزا هذا إلى رأي علي بنمخلوف . ويرجع المحاضر استشهاده  برأي بن رشد في الإشفاق على العوام إلى كون كل من ليس متخصصا في الدين يحسب على الأمية .

وبعد حديث المحاضر عن مهمة التبليغ التي هي من وراثة النبوة ، انتقل إلى الحديث عن مهمة أخرى وهي التزكية ، وهي عنده بيت القصيد في المهام النبوية الأربع لأن بها يتم التأهيل للعمل بالآيات، و تعلم الكتاب، والرقي في مدارج الحكمة . ويقدم المحاضر فهمه للتزكية ،وهي التطهير من الشرك حسب من سماهم أهل الفن ، ويلخصها بعد ذلك في محاسبة النفس والإقبال على العطاء ، ويذكر أن السالكين على هذا النهج هم أهل الورع والزهد ، وهو ينكر على من ألصق بهم نعت " التصوف"  ، وهو وصف أثار في نظره جدلا ومحنا ونكرانا ،جعله يبين أمره بأنه طريقة لليقظة إزاء تسلل الشيطان من هوى النفس ، وهو قيام على ضرورة لزوم الذكر خشية مغبة النسيان ، وجعل غاية الذكر هي استحضار الأصل في خلق الله وأمره وعبادته في نفع خلقه ، ويرى  أن هذه حقائق لا ينكرها أحد ، وهي موجودة حتى عند ابن تيمية الذي يصفه بأنه قد اشتهر بانتقاداته لكثير من المظاهر التي صاحبت الأفراد والجماعات المنتمية إلى التصوف . وهذا الأمر عند الوزير تصاحبه الأحوال ، وهي بالنسبة للظاهر ليست كلها مما يمكن فهمه أو العفو أو السكوت عنه .

ويعزو الوزير ما سماه أسباب الزوابع في تاريخ التصوف إلى أربعة أمور هي :

1 ـ انخراط العامة في التصوف دون تأطير على ما ينبغي في جميع الأحوال .

2 ـ اعتراض بعض الفقهاء على حق العامة في تدين فيه جانب من التعبد المصحوب بالانفعال والخيال ، وأضاف المحاضر عبارة " مع صدق النوايا".

3 ـ عدم تمييز بعض  العلماء المنتقدين للتصوف بين  العرفانيين النظريين الذين نشروا في الناس بضاعتهم المستغلقة القابلة للانفجار على حد تعبيره ، وبين التربويين العمليين القائمين على التزكية .

4 ـ نشر بعض العرفانيين بضاعتهم المستغلقة في الناس .

وينتهي الوزير إلى اقتراح ما يلي في الدراسات الإسلامية :

1 ـ  ضرورة تخصيص حيز للتزكية  باعتبارها إرثا نبويا عند من يبلغون عن النبي من خريجي هذه الشعبة .

2 ـ إدارة أمر التزكية  فهما وعملا على محاسبة النفس أو بلغة العصر التحرر من الأنانية .

3 ـ تدريس التصوف الجنيدي في المستويات العادية ، والعرفاني في المستويات العليا من هذه الشعبة .

4 ـ تدريس السلوك الصوفي في تاريخ المغرب بأبعاده الروحية والاجتماعية .

5 ـ تخصيص حصص في الأعمال التطبيقية لمحاسبة النفس وفق بيداغوجيا تضعها جماعة من العلماء .

6 ـ تخصيص خمس مدة التكوين للعمل الميداني على مستوى الإجازة ، وذلك بالخروج إلى الميدان لنفع الناس في المدن والبوادي نفعا مقرونا بوازع القرآن والسنة ، وذلك بأعمال تتمثل في أداء الحقوق ، وتنمية خصال العطاء إما بإتيانها أو التحريض عليها .

وينتقل المحاضر مما سماه مقتضيات التأصيل إلى ما سماه بعض مقتضيات التنزيل منها جعل الإمامة العظمى موضوع درس في تكوين الدراسات الإسلامية ، وهو يرى من غير الإنصاف حرمان طلبة هذه الشعبة من هذا الصنيع . ويشترط ألا يؤطر في هذه الشعبة غير علماء الدين المتشبعين بثوابت الأمة ، ويسوق في هذا الصدد الحديث الذي جاء فيه :" يحمل هذا العلم  من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين " ، وهو يرى أن هذا الحديث صادق بالرغم من تردد البعض فيه لما يوجد من تشويش على الدين ، كما يرى أن العدول لا يميلون مع الأهواء والتحزبات ، وأن سياستهم هي سياسة الأمة لا سياسة الاجتهادات داخل المجتمع ، وأشاد في هذا الصدد بمشيخة العلماء في المجلس العلمي الأعلى .

 وانتقد الوزير في محاضرته الفقرة الواردة في ورقة منسقي شعب الدراسات الإسلامية الذين اجتمعوا في مدينة الجديدة سنة 2018  وهي فقرة صعب عليه فهمها والتي رسخت التمييز بين ما تؤطره المؤسسة العلمية المرتبطة بوزارة الأوقاف ذات الاختصاص في تحديد الاختيارات الدينية الكبرى للبلاد ، وبين المؤسسات الجامعية والمراكز البحثية والتكوينية ومن ضمنها الدراسات الإسلامية التي تناقش الأديان وتفاعلها مع الفكر والمجتمع .

ويذكر بعد ذلك من الثوابت الاعتدال ، وأن ما يعني المغاربة اليوم من الأشعرية هو براءتها من الجرأة على تكفير الناس . ومن الثوابت الحرية التي يرى أن التراخي فيها استغله من سماهم بعض المهووسين والغالين والمبطلين والجاهلين  الذين يشوشون على الدولة، وعلى العلماء، وعلى ثوابت الأمة . ويقترح الوزير ملاءمة برامج الدراسات الإسلامية للمتطلبات والانتظارات ، وذلك بتأهيل المنتمين إليها لفهم الإسلام في ضوء ما ينشر عنه ، ونسبة تسعون بالمائة منه باللغة الانجليزية . ويقترح أيضا منافذ شغل لخرجي هذه الشعبة عوض أن يكون المشغلان الوحيدان هما وزارة التربية الوطنية التي توظف  منهم مدرسين ومدرسات ، ووزارة الأوقاف التي توظف منهم مرشدين ومرشدات . ويقترح أيضا توسيع آفاق البحث في هذه الشعبة من خلال الانفتاح على العالم عن طريق اتقان  طالبها اللغة العربية ولغتين أجنبيتين ليصير هذا العالم مفتوحا له . ولقد انتقد ما سماه ضحالة  بعض البحوث المقدمة في هذه الشعبة كالعلاقة بين العقل والنقل ، والحبر والاختيار...  وبعد حديث مستفيض عن دراسة الإسلام في المعاهد الأجنبية خلص الوزير إلى الجواب عن سؤاله : الدراسات الإسلامية إلى أين ؟ حيث يرى أن مراعاة ما سماه مقتضيات التأصيل والتنزيل من شأنها أن تجعل مستقبلها متوقفا على مبادىء كبرى تمكنها من رفع تحديات أساسية ذكر منها الاقتناع والإقناع بأن الدين كامل ويسير ، وبلا تعقيد في التأويل ، وأن التدين نسبي مطلوب فيه السعي إلى الاكتمال ، وأن العبرة بالصحة الدينية للجماعة خصوصا من الخبال والفتنة ، وأن التدين يتوقف على الأمن والاستقرار ،مع التبشير بأن الإيمان هو ما يعطي معنى للحياة، وهو غاية التدين الأولى ، وأن الحرية لا تتحقق إلى بالتوحيد ، الذي  يتحقق  بدوره بالتزكية الذاتية  لا باستظهار كتب العقائد ، وأنه ينبغي التعبد باتباع القانون على أنه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، وأن تبليغ الدين يقوم قبل كل شيء على القدوة الأخلاقية ، وأنه من الضروري الثقة بالله فيما وعد من حياة طيبة ، ، وأن هذه الدراسات قد تشكل خطر الإفساد المتمثل في الدفع إلى الفتنة ،  كما أنها تساهم في الإصلاح إذا خدمت كليات الدين داخل الثوابت ، ويرى أن مهمة التبليغ  تقوم على المجادلة بالتي هي أحسن ... إلى جانب ذكر المحاضر أمور أخرى يراها ضرورية لهذه الشعبة كي يكون توجهها صحيحا ، وهو يرى أنها ليست أفكارا ملقاة على عواهنها بل هي عناصر للفكر والعمل فيما طرحه ، ويرى أن البداية من أجل ذلك  يختزلها صاحب المرشد المغني في بيتين من منظومته هما :

وبعد فالعون من الله المجيد   = في نظم أبيات للأمي تفيد

في عقد الأشعري وفقه مالك   = وفي طريقة الجنيد السالك

ويذكر أن هذا الذي جاء في محاضرته يعتبر جزءا من همه ، ويصرح بأنه ليس متخصصا في أي علم من علوم الدين ، وأن كل ما ذكره هو من مواجهته للواقع ، ومن التدبير اليومي ، ومن التعلم مع العلماء ، والقيّمين الدينيين ، وبعض مؤسسات التعليم الديني ، ومن مباشرة قضايا تتعلق بالأمن والسكينة في المساجد ،و مما حصله من الكتب ، وقد سمى نفسه مكلفا ميدانيا بعدما كان مدرسا للتاريخ الذي نوه به .

وخلاصة التعليق على ما جاء في محاضرة الوزير التي جمعت بين الإشادة بما وبمن أراد الإشادة بهم، والتعريض بما وبمن أراد التعريض بهم ، تحدوه في ذلك سلطة وزير يشهد على نفسه أنه ليس له تخصص في علم من علوم الدين ، ومع ذلك لم يشفق على نفسه من الخوض في شعبة اختصاصها علوم الدين ، والتي يوحي حديثه عنها في محاضرته أنه  يود لو ألحقت بوزارته . والمطلع على محاضرته سماعا وقراءة، يدرك تسويقه لتوجهه الطرقي الذي يطبع معظم أنشطة وزارته ، وهو بالمرصاد لكل من خالفه التوجه والرأي ، مع كل ما جاء في محاضرة من توجيه طلبة الدراسات الإسلامية إلى الانفتاح  والحوار بالتي هي أحسن  ،إلا أنه مستغلق محكم الإغلاق ، لا يحاور إلا بإقصاء  وفق هواه كل من لا يسايره في رأي أو وجهة نظر أو توجه .

و في الأخير يبقى على خريجي الدراسات الإسلامية النظر فيما جاء في محاضرته ، والحكم عليها لأن حكمي عليها هو حكم متخصص في الأدب وعلوم اللغة ، ولقد صنفني إذ منعني من منبر الجمعة بسبب دفاعي عن بيت المقدس مع من سماهم جهالا، ودعاة فتنة ،غلاة المبطلين، وحسابه على رب العالمين يوم الدين ،وقد خاب يومئذ من حمل ظلما .

وسوم: العدد 961