أوكرانيا.. فضحت الشرقي والغربي

كشفت الغزو الروسي لأوكرانيا، وما رافقه من مواقف ودعوات وتصريحات من البلدين أو حلفائهما، عن التناقضات الجسيمة للسياسات الدولية، حيث ظهرت جلية مرة أخرى المعايير المزدوجة التي يتعامل بها المجتمع الدولي غربه وشرقه في قضايا العالم.

فإذا أجرم القوى فسيلتزمون معه بحدود السياسة والدبلوماسية، وإذا أخطأ الضعيف أو أساء التقدير نسفوه من وجه البسيطة نسفًا.

وتجلت تناقضات ما يسمى بالمجتمع الدولي، وغالبا ما يقصد به الدول الأقوى في العالم، في مواقف هذا المجتمع من اجتياح الدول المستقلة والاستيلاء عليها أو تدميرها، وفي عمليات الإغاثة واللجوء وحماية المدنيين، وفي توصيف عمليات المقاومة: هل هي مقاومة وطنية أم ميليشيات إرهابية؟

ولتوصيف هذه الحالة بشكل أدق دعنا نتفق على أن المعركة الدائرة الآن بين القوات الروسية والأوكرانية هي في الحقيقة معركة بين روسيا وحلفائها كالصين وكوريا الشمالية، وبين أمريكا وحلفائها الأوربيين، والفرق فقط في أنها تدور على أرض التماس بين المتصارعين وهي أرض أوكرانيا.

مما لا شك فيه أن قيام روسيا وهي قطب عالمي يحسب له حساب، بمحاولة اجتياح دولة ضعيفة كأوكرانيا، جريمة تخلّ بنظام العالم، وتؤسّس لنظام متوحّش يلتهم فيه القويّ الضعيف.

ومما لا شك فيه أيضا أن هبّة أمريكا لنجدة الضعيف هي أمر يساعد على استمرار بقاء النظام الدولي، الذي يبقى رغم هشاشته أفضل بكثير من سيادة منطق الغابة.

لكن للأسف لا هذه ولا تلك يهمها كثيرا فكرة احترام استقلال الدول، فالقوي دائما يفرض منطقه بقوته، وهو واثق من أنه سيحدث في النهاية تقاسم المصالح بين الأقوياء.

فلم تلتفت روسيا ولا أمريكا لمنطق احترام استقلال الدول واستقرار النظام العالمي، حينما اجتاحت كل منهما دولة صغيرة اسمها أفغانستان، وقتلت الناس وأزالت حكومات شرعية وعينت حكومات تابعة بدلا منها.

ولم تلتفت أمريكا إلى هذا المنطق حينما غزت العراق وقتلت مئات الآلاف من شعبه، كما لم تأبه روسيا بإرادة الشعب السوري وحقه في تغيير نظام حكمه، بل أقامت هناك أبشع مسلخ بشري شهده القرن الحادي والعشرين لأبناء هذا الشعب الشقيق، ونفس الأمر تماما فعلته في الشيشان أيضا.

ولم نجد قلقا روسيا أو صينيا على نظام العالم حينما أحدثت أمريكا مأساة العراق، ولم نجد كذلك قلقا أمريكيا وأوربيا حينما أحدثت روسيا مأساة سوريا أو الشيشان، بل كنا نسمع فقط تصريحات إعلامية سرعان ما تخفت حينما تتم التسويات بين الأقوياء.

لا يوجد تعريف محدد يميز الفرق بين المقاومة والمليشيات الإرهابية، لكن الواقع أثبت أنه يتم تعريف هذه الأعمال بحسب المستفيد منها أو المتضرّر.

فإذا كانت تحقق مصلحة أيّ دولة كبرى فستصبح هنا “مقاومة” وسيهبّ كل الحلفاء لنجدتها، وإذا كانت ستضر بمصالح ذات الدولة، فهي قطعًا مليشيات إرهابية، وسيهبّ الجميع لعقابها.

ولما كان الأمر كذلك، أعلن الرئيس الأوكراني عن فتح باب التطوع للأجانب من خارج البلاد في الجيش الأوكراني، وصمتت على ذلك أمريكا التي كانت في حرب ضروس ضد المقاومة العراقية والمقاومة الأفغانية، وكانت تسمّيهما المليشيات الإرهابية، مع أن عناصر هذه المقاومة هم أبناء البلد، وأمريكا هي الغازية.

وفي المقابل نددت روسيا بالدعوة الأوكرانية واعتبرت ذلك تحشيدا للمرتزقة والمليشيات الإرهابية، في حين أن مليشيات “فاغنر” الروسية تسرح وتمرح في شرق ليبيا، وتقتل أبناء البلد الحالمين بالحرية في بلدهم.

لم ينفطر قلب أيّ رئيس روسي أو أمريكي أو أي من الحلفاء الغربيين لمأساة اللاجئين السوريين الذين شبعت أسماك البحر المتوسط من التهام أجسادهم، وجمّد الجليد أبدانهم.

فلم تسعَ روسيا لإقناع بشار الأسد بحق شعبه في اختيار رئيسه، والبقاء في أرضه، وبأنه هو الذي يجب أن يرحل وليس الشعب، فهذا هو ألف باء المنطق.

وعلى الجانب الآخر، لم تقم أمريكا بالذهاب إلى سوريا من أجل إنقاذ الأبرياء، بل اتجهت إلى زيادة تدفق شلالات الدماء هناك بقتل المزيد من الشعب بذريعة أنهم إرهابيون.

ولم تفعل روسيا شيئا للاجئين العراقيين الذين تسببت أمريكا في مأساتهم، كما لم تفعل أمريكا شيئا للاجئين الشيشان الذين تسببت روسيا في مأساتهم.

لكن حينما يتعلق الأمر باللاجئين الأوكرانيين فإن قلب أمريكا وحلفائها يتسع لهم جميعا، نكاية في روسيا. وقطعًا ستجد روسيا المناسبة التي ترد فيها على أمريكا بالمثل.

وفي نفس الأزمة تجلّى أحد مظاهر التفريق في التعامل بين اللاجئين، حينما شكا قسم منهم خاصة الأفارقة والعرب من قيام الدول التي فروا إليها في أوربا بمعاملة اللاجئين الأوكران معاملة تفضيلية.

هذه مجرد مقابلة كاشفة لموقف واحد من مواقف قطبي العالم، وكيف أنهما ينظران إلى العالم من نظاراتهما الخاصة، وأن قوة كلّ منهما تكفي لأن تفرض رؤيتها على من حولها من الصغار، ويجلس العالم مستمعًا بإنصات وترقّب وحذر.

أنا شخصيا لو خُيِّرت بين مرجعية أمريكا ومرجعية روسيا، لاخترت الاستقلال التامّ لبلادنا عن التبعية للقوى العظمى، ولكن لو فاضلت بين الدولتين فقطعًا سأختارأمريكا، لأن لديها على الأقل الديمقراطية التي نحلم نحن بها، حتى لو كانت تطبقها فقط داخل حدودها.

أوكرانيا نالت الجزء الأكبر من التعاطف في الشارع المصري والعربي لأنها تذكرنا بمآسينا في العراق وسوريا وليبيا، ومع ذلك يبقى الشارع العربي أيضا حذرًا من المواقف الأمريكية، بسبب انحيازاتها للنظم الاستبدادية في عالمينا العربي والإسلامي.

حينما يكون الضحايا عربًا أو مسلمين فإنهم يقعون عادة بين فكّي كماشة الاستبداد الشرقي والغربي ولا نصير لهم إلا سواعدهم.

وسوم: العدد 971