(( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم )) أصدق شعار في اليوم العالمي لمكافحة الفقر

حسب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يستحضروا فيما يسمى باليوم العالمي لمحاربة الفقر في ذكراه الخامسة والثلاثين  من كتاب الله عز وجل قوله سبحانه وتعالى : (( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم )) ،وهي آية كريمة جدير بمن يستوعب دلالتها ، ويحسن تدبرها أن يهتدي إلى أمثل الطرق لمحاصرة الفقر أومحاربته بالمعنى العملي والإجرائي وليس عن طريق رفع الشعارات التي تتكرر كل سنة في السابع عشر من شهر أكتوبر ثم ينفض سوقها والفقراء في هذا العالم في ازدياد مطرد ، والفقر قد أناخ بين ظهرانيهم ،وتمطى بصلبه، وأردف أعجازه، وناء بكلكله على حد قول الشاعر الجاهلي امرىء القيس.

ولقد كان من المفروض بعد مرور ثلاثة عقود ونصف على التفكير في محاربة الفقر في المعمور أن تكون الحرب معه قد وضعت أوزارها ، ولم يعد في البشر محتاج يتكففهم ، ولكن واقع الحال يشهد على أن هذه الحرب  لم تكن أصلا  بل هي مجرد وهم أو حلم  يراود المحاويج وأعدادهم سنة بعد أخرى في تكاثر مستمر، ومثير للقلق  الشديد.

ولنعد إلى قول الله تعالى وقد تضمن إشارة إلى ما قضته حكمته وإرادته وهما ألا يكون المال وهو أجدى  وأنفع سلاح لمكافحة الفقر دولة بين الأغنياء يتداولونه فيما بينهم وهم عادة ما يكونون قلة مقابل الكثرة الكاثرة من المحرومين الذين يتجرعون مرارة الفقرالمدقع وهو دولة بينهم . وإذا كانت مناسبة نزول هذه الآية هو تدخل الله عز وجل  لقسمة الفيء ، فإن عموم لفظها يتضمن حكما إلهيا في كل مال عام تحصله  الأمة الإسلامية  كتحصيلها الفيء .

ولقد كانت عادة العرب في جاهليتهم حين يغزو بعضهم بعض، ويغنم منه أن يتوزع أغنياؤهم  الغالبين الغنائم فيما بينهم بينما لا يصيب فقراؤهم منها شيئا ، وقد عبرعن سلوكهم هذا شاعر جاهلي خاطب أحد الغانمين الأغنياء بقوله  :

لك المرباع منها والصفايا        وحكمك والنشيطة والفضول

والمرباع هو ربع الغنائم ، والصفايا  هي النفيس من الغنائم ، والنشيطة هي  ما يغنم في الطريق إلى الحرب ، والفضول هو ما يفضل من الغنائم ، وكل هذا حرمه الله عز وجل ،لأنه يكون دولة بين الأقوياء الأغنياء دون  الضعفاء الفقراء.

وإننا لنعيش في عالم اليوم ظرفا شبيها بظرف جاهلية العرب ، وهي ليست بدعا من غيرها من جاهليات العجم في كل العصور حيث ازداد أثرياء العالم  اليوم ثراء فاحشا ومطغيا ، وازداد فقراؤه فقرا مدقعا ومذلا . ولازالت الحروب الطاحنة وقد نابت فيها عن سيوف، ورماح، ونبال،  وخيول حروب  الماضي أسلحة  نصفها اختصارا دون تفصيل بأسلحة الدمار الشامل ، ولا زال الغالب فيها له المرباع، والصفايا ،والنشيطة، والفضول ، وربما زاد  في هذا العصر عن ذلك ما لو أدركه الشاعر الجاهلي لاختار لهم اسما أو وصفا خصوصا ما  تنهبه الدول القوية الغالبة  من الدول الضعيفة المغلوبة  .

وها نحن اليوم في عالم قد نشبت فيها حرب فوق رقعة القارة الأوروبية العجوز بين أغنياء هذا العالم  وهم أحلاف بسبب أموال هي في واقع الحال دولة بينهم ،ومع ذلك يتنافسونها لأنه لا حد لجشعهم. ومع أن هذه الحرب تدور في حيز محدود جغرافيا، فإن آثارها الوخيمة قد طالت العالم بأسره ،ففشا فيه غلاء أسعار الوقود بشكل غير مسبوق ، وقد ترتب عن ذلك غلاء كل ما يرتبط به وهو في الحقيقة كل في كل ،لا يستثنى منه شيء ، ولاح شبح مجاعة عالمية تهدد أكثر من ثلث سكان المعمور لأن الحبوب صارت سلاحا بين أطراف الصراع في هذه الحرب العبثية بمنطق الأخلاق والقيم الإنسانية .

ولقد وجدت الأنظمة في ما يسمى دول العالم الثالث ذريعة في هذه الحرب القذرة حيث ركبتها لتبرير استفحال ظاهرة الفقر فيها وهي أصلا دائمة الوجود حتى قبل هذه الحرب. وكل من يئن من جياع تلك الدول يواجه بالعصا الغليظة لأنه محروم حتى من حقه في الأنين ، وقد يواجه بالرصاص الحي  إذا ما صرخ وانتفض ، أو بالاعتقال والتنكيل لمجرد مطالبته باسترداد ما ضاع منه من كرامة  قد أهدرته آفة الفقر بالرغم من أن الهيئة أو المنظمة العالمية التي سنّت الاحتفال باليوم العالمي لمكافحة أو محاربة الفقر إنما تغيّت بذلك صيانة الكرامة البشرية التي هي أول حق من حقوق الإنسان الذي يتشدق بالدفاع عنه أغنياء العالم الذين جعلوا أمواله دولة بينهم .

فإلى أن يحين وقت اندلاع حرب حقيقية على الفقر في هذا العالم البائس  بحيث لا يبقى المال دولة بين أغنيائه، نقول لكل محاويج  العالم  : لكم الله عز وجل ، وهو حسبكم ونعم الوكيل . 

وسوم: العدد 1002