خرق حلال وآخر حرام للقانون الدولي؟

يعتقد الكثير من الناس أن الحرب الدائرة في أوكرانيا انفجرت فجأة من دون وجود أسباب عميقة، بل ينسبون ذلك إلى «التوسع الروسي» على حساب الجيران. وهذا الاعتقاد يعود إلى الثقة العمياء في المعطيات والمعلومات، بل التأويل الذي تقوم به مجموعة من وسائل الإعلام الدولية، التي تتحكم بشكل كبير في تشكيل الرأي العام العالمي، من دون استحضار حس نقدي. يوم 24 فبراير/شباط الماضي، اندلعت الحرب في أوكرانيا بقرار من روسيا، التي قدمت تبريرين لشن هذه الحرب، الأول، هو عزم السلطات الجديدة في كييف على رأسها الرئيس فلولوديميرو زيلينسكي ومجموعته، الانضمام إلى منظمة شمال الحلف الأطلسي (الناتو). والمبرر الثاني، هو الدفاع عن المواطنين الأوكران من أصل روسي الذين كانوا يتعرضون لعملية تقترب من التصفية الإثنية.

ولا يمكن الاختلاف حول خرق موسكو للقانون الدولي في هذه الحرب بالتدخل في شؤون دولة ثالثة، لكنه في الوقت نفسه لا يمكن تناسي عجز المجتمع الدولي عن إيجاد حل للأزمة، على الرغم من توفر إطار قانوني، بل تعمدت أطراف في الغرب عدم المساهمة في التوصل الى اتفاق لإنهاء النزاع، عبر رفض تطبيق اتفاقيات مينسك الأولى سنة 2014 والثانية سنة 2015، التي التزمت فيها كييف بمنح الحكم الذاتي لدونباس؛ لكنها تراجعت عن الاتفاق وراهنت على القوة.

منذ اندلاع النزاع شرق أوكرانيا في إقليم دونباس سنة 2014، تؤكد تقارير الأمم المتحدة حتى يناير/كانون الثاني 2022، أي شهر قبل اندلاع الحرب الروسية -الأوكرانية، بسقوط ما لا يقل عن 14 ألف قتيل، أغلبهم من المدنيين، و30 ألف جريح علاوة على مليون ونصف مليون نازح، وتدمير 50 ألف منزل. تقارير الأمم المتحدة (يمكن للقارئ الاطلاع عليها في موقع الأمم المتحدة، أو في بعض وسائل الإعلام) يبرز كيف طبقت كييف سياسة متشددة وصلت إلى منع اللغة الروسية وقطع الرواتب عن منطقة دونباس، بسبب رغبة الساكنة الانفصال عن السلطة المركزية. والتساؤل هنا: لماذا تتجنب غالبية الصحافة الغربية ومعها العربية، التي تنقل عنها بشكل أعمى الحديث عن مثل هذه المعطيات؟ وقد يكون الجواب هو تفادي الغرب عدم المقارنة بين الضحايا المدنيين في نزاع دونباس والحرب الحالية الروسية ـ الأوكرانية، بل نزاعات أخرى مثل العراق، أو فلسطين. علاقة بالضحايا، إذا كان نزاع دونباس ما بين 2014 إلى 2021 قد خلف 14 ألف قتيل، نسبة كبيرة منهم من المدنيين، فالحرب الحالية التي تشهد استعمال أسلحة متطورة وفتاكة، خلّفت حتى الآن أقل من سبعة آلاف قتيل في صفوف المدنيين. ورغم أنه لا يمكن التفريق بين قتلى النزاعات، لأن الأمر يتعلق بأرواح بشرية، إلا أن أطرافا غربية تتفادى التركيز على هذه الأرقام، حتى لا تتم المقارنة سواء مع دونباس، أي قبل التدخل الروسي، أو حصيلة تدخلات الغرب في نزاعات مثل حالة العراق، حيث القتلى المدنيين بمئات الآلاف. إنه المنطق الذي يجعل الغرب يتحدث عن مجازر أرمينيا، ويجر جزءاً كبيرأ من الرأي العام العالمي لدعم هذه الأطروحة، وفي المقابل يتفادى الحديث عن مجازر فرنسا في شمال افريقيا، ومجازر الولايات المتحدة في فيتنام والعراق، ومجازر إسرائيل في فلسطين، وإذا استحضر مثقف عربي مثل هذه المجازر، يتم اتهامه حتى من أبناء جلدته بأنه يشوش على العلاقات الدولية وحبيس الماضي. وعلاقة بالمبرر الخاص بالأمن القومي الروسي، أي إرادة كييف الانضمام إلى الحلف الأطلسي، هل من حق روسيا، أم لا وضع حد لخطر يهدد كيانها، طالما أن الحلف الأطلسي اعتبرها العدو الرئيسي، لاسيما وأن انضمام أوكرانيا إلى الحلف يعني انخراطها في المخططات العسكرية للأطلسي ضد موسكو؟ لا ننسى فوبيا روسيا من حدودها الغربية التي شكلت لها عبر التاريخ مصدر الخطر من نابليون مرورا عبر هتلر إلى الحلف الأطلسي.

نكرر أن شن الحرب الروسية ضد أوكرانيا بهذا المبرر هو خرق كبير للشرعية الدولية، غير أن تأمل العلاقات الدولية يدفعنا إلى التساؤل عن: كيف يحتج الغرب بل ويهدد بشن حرب إذا قامت دولة لا تتفق مع هذا الغرب بتسليح نفسها لضمان استقلاليتها، أو توقيع اتفاقيات عسكرية مع روسيا. وهنا يمكن استحضار كيف يضغط الغرب على بعض الدول لوقف عملية التصنيع العسكري مثل إيران، أو توقيع اتفاقيات عسكرية مثل تركيا والجزائر، بل حتى المغرب في حالة الضغط الإسباني. ثم كيف يضغط الغرب على الدول في العالم الثالث حتى لا تتوفر على الطاقة النووية، حتى لا تحقق الاستقلال الطاقوي. إنها وصاية أبدية للغرب على العالم. ونقدم مثالا لفهم أعمق حول تعامل الدول مع أمنها القومي، خاصة الكبرى التي لا تتنازل. هل يمكن تصور اتفاق عسكري بين روسيا والمكسيك، أو بين الأخيرة والصين؟ أو فقط انضمام المكسيك إلى مجموعة البريكس مثل، البرازيل من أمريكا اللاتينية. من دون شك، ستقوم واشنطن بخنق المكسيك اقتصاديا، بل من دون استبعاد التدخل العسكري لدرء الخطر عنها في حالة اتفاق عسكري للمكسيك مع قوة كبرى، هل يعلم القارئ أن المكسيك مثلا لا يمكنها حتى امتلاك السلاح الجوي، وكل ما تمتلكه هو عشر طائرات مقاتلة من صنف أف 5، نصفها لا يعمل والذي يحلق لا يمتلك أي صواريخ أو قنابل. هل يعلم القارئ أنه ممنوع على المكسيك تطوير صناعة عسكرية، وعدم السماح لها بامتلاك ترسانة من الصواريخ والدبابات. وتعد المكسيك الدولة ذات الكثافة السكانية التي تفوق 130 مليون نسمة، لكنها لا تستطيع خوض أي حرب، وقد تنهزم في مواجهة دولة متوسطة السكان والتسليح. تعتقد واشنطن أن المكسيك قد تشكل عليها خطرا مستقبلا، بسبب إيمان الشعب بضرورة استعادة أراض انتزعتها منهم الولايات المتحدة نهاية القرن التاسع عشر، ولهذا تطبق سياسة استباقية وهي عدم امتلاك المكسيك أي جيش احترافي، وأن لا تمتلك أي ترسانة عسكرية متطورة.

الدول الكبرى تحركها عوامل عميقة للدفاع عن أمنها القومي، ولا تتردد في خرق الشرعية الدولية، وروسيا والغرب وكذلك الصين تخرق القوانين الدولية بشكل ممنهج دفاعا عن مصالحها، غير أن الأساسي هو عدم انخراط مثقفين وإعلاميين من تكتلات مختلفة مثل، بعض مثقفي العالم العربي في مساندة خرق على حساب خرق آخر. لا يمكن للمثقف العربي لعب دور «فقهاء البلاط» يحلل أحيانا ما هو حرام شرعا ويحرم أحيانا ما هو حلال شرعا.

وسوم: العدد 1008