لنقترب قليلا ... بين التعليم بالتقرير .. والتعليم بالاستفهام !!

ودعوني أقول ابتداء إن التعليم بالاستفهام أسلوب، وإذا تلمسنا جذوره الأولى سنجده ربما أسبق تاريخيا، في مدرسة أفلاطون - القرن الرابع قبل الميلاد - ففي محاورات أفلاطون الثلاثين، يعالج أفلاطون كثيرا من قضايا الفكر والحياة، عبر محاورات يجريها مع مشاركين حقيقيين. تعتبر محاورات أفلاطون التي يدأب فيها على طرح الأسئلة ثم إعادة توجيه أجوبة محاوره بطريقة، تفند ما قال أو تكشف موطن العلة فيه، أو تدفع المحاور إلى اسنخلاص الجواب بنفسه، الزبدة الحقيقة لفكر أفلاطون الفلسفي.

محاورات أفلاطون شيقة وممتعة وجميلة وتعلم الكثير من الحقائق مع الكثير من أساليب الحجاج..

ربما من المفيد للمعنيين بشؤون الفكر والثقافة أن يطلعوا على بعض النماذج التي يختارون. وترجماتها إلى العربية كثيرة ومتعددة، وبعضها تعرضت لبعض من أشكال العدوان.

ولكن لا يمكن ونحن نتحدث عن التعليم بالاستفهام أن نذكر أفلاطون، وننسى الأسلوب الأرقى والأغظم المتمثل في "استفهامات القرآن الكريم" الأسئلة المتعددة المساقات التي ظل الخالق يطرحها بأسلوب متعال على جميع المخلوقين!! استفهمات القرآن الكريم التقريرية، والتقريعية، والتهويليةـ والإنكارية كل واحد من هذه الأساليب له سياق، وعليه الكثير من الأمثلة في وجوه البيان..

(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ)؟؟

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ)؟؟

(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ)؟؟

(أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا)؟؟

(مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)؟؟

(وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ)..

(أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ)..

(أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) ..

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) ..

ووراء كل استفهام تنبيه وتوجيه وحكاية، وفتح لمصاريع العقل على فصل بل على كتاب..

وددت لو أن عالما متمكنا عاقلا مستشرفا كتب كتابا حول طريقة القرآن الكريم في الاستفهامـ وأغراضه منه وفيه...

العجيب أن تسمع بعض الناس يقولون: إن القرآن الكريم أكثر من طرح الأسئلة، وقلما أعطى الأجوبة..

 فعندما سألنا مثلا: أرأيتم ما تمنون، عجب كل جيل منها، وفي جيل سبقنا علموا أن في كل سنتي ليتر 120 مليون مشروع حياة. ثم علمنا عن سردية الجينات، ثم لا يزال السؤال مفتوحا لتعلم أجيال تأتي المزيد والمزيد..

في محاورات أفلاطون تجد روح المعلم الموجه الذي يوجه ولا يقرر .. في استفهامات القرآن الكريم تجد أسلوب مالك كنه الحقيقة المطلقة، يلفت النظر إليها بطريقة تقنع وتعجب كل من حاول الاستكناه في كل جيل من الأجيال، ويظل ظرف الحقيقة شفافا واعدا قابلا ليشير إلى المزيد...

الحوار أو التعليم بالاستفهام، ليس غموضا، ولا هو هرب من جواب، ولا تخلص أو تملص من تبعاته؛ بل هو محاولة للاشتراك في استنتاج الحقيقة، ليقول قارئ المقال في النتيجة: رأينا وليس رأي كاتب المقال.

الأقدمون كانوا يقولون عن السؤال التقريري أو التقريبي أو التعليمي : جوابه كامن في السؤال!!

طربقة تبعد بصاحبها عن الاستعلاء، وفرض وجهة النظر، وإنما هي دعوة لطيفة حثيثة للوصول المشترك إلى الصواب..

وعايشت بعض العلماء الراسخين الذين كانوا إذا أرادوا أن يعترضوا على قولك، اكتفوا بتوجيه لثنايا كلامك سؤال، لعلك تستبين أو تفيء إلى صواب.

ثم التعليم أو التوجيه بالاستفهام أرق حاشية، وألطف أسلوبا، وأكثر علمية وموضوعية أيضا، فأنت مع كل ما تقرر من حقائق واضحة في ذهنك، قد طويت عليها حجرات قلبك، تظل مالكا لأمرك، إذا أورد عليك معترض حجة لا قبل لك بها، تفيء إليها بكامل بهائك، وتقول صادقا : أنا مجرد سألت أو تساءلت.. استمع معي إلى هذا الاستفهام التقريري الجميل:

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ..

وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ..

وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ) .. أين هو من قول : آويتك وهديتك وأغنيتك..

مجرد تساؤلات..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1011