في تمايز الديني عن السّياسي

اشتغلت الدولة العميقة والمنظومة القديمة وأبواق إعلام المجاري على مدى ما يزيد من عقد من الزمن على ترذيل السياسيين والحياة السياسية برمّتها حتّى حقد العامّة على السياسة والسّياسيين وكلّ من اشتغل بالشأن العام. ثمّ ازداد حقدهم وأصبحوا يتربّصون بالسياسيين ويضمرون لهم الشرّ والضرر. حتّى إذا كانت هناك محاولات جادّة، لانتزاع هذه الأفكار الهدّامة أو هذه القناعات من العقول، تستدعي ما حدث زمن النبيّ والصحابة ثارت ثائرة فئات واسعة من العامّة واستغربت ذلك بالقول : كيف تقارنون سياسيي اليوم بالصحابة والنبي ؟ مالكم كيف تحكمون ؟ وكيف تتجرّؤون على مقارنة "تجّار الدين" الذين تلوّثت أيديهم بأوساخ الدنيا وتشبثوا بحطامها وقد استغلّوا الدين لأغراضهم الشخصية والسياسية بمن اصطفاهم الله لرسوله وبمن وهبوا أنفسهم وأعمارهم لله ولخدمة الدين وهم الذين انتشروا في أقاصي الأرض ينشرون دين الله ؟ فالمقارنة لا تجوز بأي حال من الأحوال.

والحقيقة، لتبيّن الصواب من الخطأ، يجوز لنا إجراء قياس ومقارنة حقيقة متغيرة بحقيقة ثابتة حتّى ولو كانت المقارنة في غير محلّها وذلك لكي نميز الحقّ من الباطل ولكي نعلم على أي أرض نقف وعلى أي مرسى نرسو. فكيف نعرف إن كنّا على حقّ أم على باطل إذا لم نقارن أنفسنا بمن سبقنا من المصلحين والخيّرين ؟

كما ولا بدّ من الإشارة، في هذا السّياق، إلى أنّ الصّحابة أنفسهم كانوا في بداية الدعوة متّهمين وملاحقين ولم يعلو شأنهم ولم يصبحوا قدوة ومحطّ أنظار العالم إلاّ عندما انتصر الإسلام واستقرّ له الأمر. ضرورة أنّ السّواد الأعظم من النّاس لا يمجّدون الحاضر ويستعصي عليهم استيعابه بسهولة ولا يعترفون إلاّ بما مضى. وفي هذا جاء في القرآن الكريم "فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ" (القصص 48)

علما وأنّ عامّة النّاس يخلطون ولا يميّزون بين الدّين والسياسة، أو بين الديني والسياسي. ففيما أنّ الدّين مقدّس لا يختلف عليه العامّة فإنّ السياسة بما هي فقه وسياسة الواقع المتشعّب هي مقاربات لا تمارس بإطلاق. فليس هناك سياسة متّفق عليها تضبط أمور النّاس وإنّما هي وجهات نظر مختلفة يمكن أن تصيب ويمكن أن تخطئ بحسب الظرف والزّمان والمكان والحال. وبحسب درجة الوعي السياسي للشعوب. ولنا شواهد على ذلك في التاريخ الإسلامي. من ذلك أنّ الصّحابة الذين حملوا المثل العليا للإسلام إلى أقاصي الدنيا اختلفوا فيما بينهم في ضبط الأمور والتوجّهات السياسية ووصل بهم الأمر إلى التقاتل فيما بينهم.

وسوم: العدد 1024