بعيون الرافعي… الأبعاد الاجتماعية والإنسانية للصيام

لكل منا رؤيته لصيام شهر رمضان، فما بين من يراه عبادة يتقرب بها إلى ربه، ومن يراه صفاء للروح، هناك من يراه محطة صحية فارقة، وهناك من يراه مناسبة جامعة لمشاعر وطقوس الأمة، بل منا من يرى كل هذه الأمور مجتمعة.

بيد أن الأدباء دائما لهم نظرتهم العميقة للأمور، بما لهم من حس مرهف، وباع في مرافقة البلاغة وسحر البيان، وإطلاق للخيال المشبوب في رحابة المعاني، فتراهم إذا تناولوا قضية سبروا أغوارها واستولدوا لها معاني غائرة، أو ربما عبّروا بشأنها عن مشاعر تسري في نفوس الجماهير، ولمّا يستطيعوا لها إدراكا، حتى إذا ما سطّر هؤلاء الأدباء بأقلامهم عنها، وجد الناس ضالتهم، وقالوا: هذا ما أردنا قوله.

ولأنه قد أظلنا شهر الصيام، وجدت الأديب الراحل مصطفى صادق الرافعي صاحب «وحي القلم» حاضرا في ذاكرتي بقوة، إذ أن ما خطّ قلمه في كتابه هذا من حديث عن فلسفة الصيام، يجعله في مصاف الأدباء الذين أبدعوا في تناول هذا الشأن. ورغم تجاوز الرافعي للبعد الصحي للصيام وإفصاحه أنه ليس مراده من هذه السطور، إلا أنه أومض بجملة يسيرة تجلي فوائده الصحية حين قال عن أيام صيام رمضان: «إن هي إلا ثلاثون حبة تؤخذ في كل سنة مرة لتقوية المعدة وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسم»، ومن أبرز أبعاد الصيام التي تناولها الرافعي، البعد الاجتماعي والإنساني، خاصة عندما غمز الاشتراكية التي أوهمت أوروبا بخواصها الإنسانية، ولمز اضطرابها في التعامل مع النفس البشرية، فأورد الصيام كنموذج لما سماه مجازا بالاشتراكية الصحيحة، فقال: «الصوم فقر إجباري تفرضه الشريعة على الناس فرضا، ليتساوى الجميع في بواطنهم، سواء منهم من ملك المليون من الدنانير، ومن ملك القرش الواحد، فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة». والرافعي هنا أشبع الاشتراكية بالفكرة الجائعة إليها، فمحل المساواة في الصيام هو التماثل في الطبيعة، والجبلة التي يعبر عنها الجوع، فأصبحوا كلهم سواسية، فيضع الإنسانية في حالة نفسية واحدة، من دون المساس بالتباين في الأوضاع الاقتصادية الذي لا بد منه في الاجتماع البشري، فالغني بهذا يتساوى بالفقير في طبيعته، في الوقت نفسه الذي يطمئن الفقير إلى الغني في طبيعته، ولذا يذيل الرافعي مقطعه بقوله: «ومن هذين: «الاطمئنان والمساواة»، يكون هدوء الحياة بهدوء النفسين اللتين هما السلب والإيجاب في هذا الاجتماع الإنساني». في هذا المقام تفتقت نظرة الأديب الرافعي عن أحد الأسرار الاجتماعية العظيمة في الصيام، وهي أن الرحمة تنشأ من الألم، فكما تتربى الرحمة في النفوس عقب الكوارث والنكبات التي يتعرض لها الناس فجأة، فتثير الشفقة والرحمة في القلوب، هناك أيضا الصيام كطريقة عملية تربي الإنسان على الرحمة، بألم الجوع ولكن وفقا لهذا النظام العام المعلوم الموقوت المتمثل في صيام رمضان. يقول الرافعي في هذا الصدد: «ومتى تحققت رحمة الجائع الغني للجائع الفقير، أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ، وحكم الوازع النفسي على المادة؛ فيسمع الغني في ضميره صوت الفقير يقول: «أعطني» ثملا يسمع منه طلبا من الرجاء، بل طلبا من الأمر لا مفر من تلبيته والاستجابة لمعانيه، كما يواسي المبتلى من كان في مثل بلائه». ويذكرني ذلك المقطع بآخر شبيه للشاعر أحمد شوقي، إذ يقول في كتابه «أسواق الذهب»: «حرمان مشروع وتأديب بالجوع وخشوع وخضوع، ظاهره المشقة، وباطنه الرحمة، يستثير الشفقة ويحض على الصدقة، يكسر الكبر، ويعلم الصبر، حتى إذا جاع من تعود الشبع، وحرم المترف ألوان المتع، عرف الحرمان كيف يقع، وألم الجوع إذا لذع»، فكأن كلام الأديبين قد خرج من مشكاة واحدة. يطلق الرافعي خياله لمشهد تعميم الصوم الإسلامي على الأرض، ليستشرف إجماعا إنسانيا يكون بمثابة ثورة لمَحْقِ البخل والفساد، وتطهيرا للعالم من الفساد، وتحقيقا لمعاني الإنسانية، وتكون النتيجة المتوقعة أن «يهبط كل رجل وكل امرأة إلى أعماق نفسه ومكامنها، ليختبر في مصنع فكره معنى الحاجة ومعنى الفقر، وليفهم في طبيعة جسمه – لا في الكتب – معاني الصبر والثبات والإرادة، وليبلغ من ذلك وذلك درجات الإنسانية والمواساة والإحسان، فيحقق بهذه وتلك معاني الإخاء والحرية والمساواة».

وانطلاقا من معنى التقوى التي هي الغاية من فريضة الصيام، يستلهم الرافعي معنى آخر لها، وهي الاتقاء، «فبالصوم يتقي المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته، وألا يعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة؛ ويتقي المجتمع على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسان مع إنسان كحمار مع إنسان، يبيعه القوة كلها بالقليل من العلف». ومقصد الرافعي هنا أن يتقي الإنسان حيوانيته ونداء غرائزه الذي يتشارك فيها مع البهائم التي لا عقل لها يحكمها، وأن يتقي التعامل مع الآخرين وفق معايير البهيمية.

ومن أعجب الإشارات التي قرأتها للرافعي في هذا الجانب، هو ربطه بين الصوم وتعاقب الأجيال على موروث الطبائع والأخلاق، إذ يرى أن الصوم ليس فقط وقاية للإنسان من أرذل الصفات والأخلاقيات في حاضره، بل وقاية للجيل الذي يرث هذه الطبائع والأخلاق، فيقول: «وبالصوم يتقي هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه، فإن ما بين يديه هو الحاضر من طباعه وأخلاقه، وما خلفه هو الجيل الذي سيرث من هذه الطباع والأخلاق، فيعمل بنفسه في الحاضر، ويعمل بالحاضر في الآتي». ثم يختتم الرافعي حديثه عن الأبعاد الاجتماعية والإنسانية للصيام، ببيان الجهة الفلسفية العالية المنبثقة من فهم آية الصيام، فيقول: «ويتوجه الصيام على أنه شريعة اجتماعية إنسانية عامة؛ يتقي بها الاجتماع شرور نفسه؛ ولن يتهذب العالم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانون العام الذي اسمه الصوم، ومعناه «قانون البطن».

لقد كان الرافعي رحمه الله مثالا للأديب العصري الذي تشكل فكره وأدبه على أساس هويّاتي قيمي، يضفي بصنعته الأدبية الفريدة حُسنا على ما يتناوله من مسائل يهتم لها مجتمعه وأمته، وذلك شأن الأديب البنّاء المثمر، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 1025