نكون أو لا نكون

نكون فنعطي الأمر حقه، على قدر الطاقة والجهد من غير تقاعس ولا تخاذل ولا توارٍ ، أو لا نكون فنطوي الراية وندخل في غمار الناس!!

فلا يمكن لأي فريق سياسي، له اسم وشهرة ومكانة، أن ينسحب من المشهد العام، والحياة السياسية عمليا، ثم يلوذ بالصمت، أو يتوارى عن الأنظار، مقدرا أن هذا الصمت ينفعه أو يعفيه من مسئولياته بأبعادها الشرعية، والتاريخية، والوطنية. قديما قالوا: لا ينسب لساكت قول، نعم هذا في الاجتهاد الفقهي، ولكنهم أردفوا "الصمت في موطن البيان بيان" أي أن صمت الإنسان الحاضر المتابع المشارك على موائد الحوار، وهو في حالة "يرى ويسمع" محسوب عليه. وأسوأ شيء في موقف الصامتين أن الآخرين من أعداء وخصوم ومحالفين، يمكنهم تفسير صمته أ و تكييفه كما يريدون، فيدعيهم من يشاء، وينبذهم من يشاء، و ينسب إليهم كل من شاء ما شاء ...

والأجدى والأكثر عملية ومصلحة شرعية في التجمع أو الهيئة أو الجماعة ترى نفسها أمام عقية لا تطيقها، أو سباحة في مستنقع غير قادرة على الخوض فيه. أن تثبت مواقفها العامة بخطوطها الأعرض في ذاكرة التاريخ، ثم تعلن بدون تردد ولا خجل انسحابها من معترك ليس لها فيه قوة ولا قدرة.

تعلن ذلك بإشهار واضح للقاصي والداني، والكبير والصغير، والبعيد والقريب، والعدو والصديق، لكي لا تبقى تعلة اللإخفاقات، وحمالة حطب الهرائم.

إن الانسحاب من المشهد العام يمكن أن يكيّف ويعلل ويفسر، بتقكير المفكرين، بحجم وقدر بحيث يدرأ عن أهله أكثر ما قد ينشأ عنه من أضرار وقتية ومستقبلية.، أكثرها وليس كلها. وما زال الفقه عملية مستدامة في تقدير المصالح والمفاسد، في متأرجحة الاجتلاب والدرأ. قلما توجد في الحياة مصلحة مطلقة، أو مفسدة مطلقة، ومن يحسن الموازنة ثم المقاربة فذلك هو الفقيه.

يخاطب ربنا نبيه يحيى عليه السلام بقوله : (يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) فإما أن يكون للقوم حضور يليق بعقيدتهم وفكرتهم وحاملهم ومحمولهم وبتاريخهم وبمستقبل دعوتهم وفكرتهم، وليس فقط هيئتهم" فليعلم هذا. وإما فإعلان العذر مهما كانت مضاضته أولى بالمستضعفين.

والمشروع الإسلامي في أفقه العام ، ليس مثل المشروع الشيوعي، تسقط الدولة البلشفية فتُسقط منظومة الأحزاب الأممية حول العالم. المشروع الإسلامي في أبعاده الإنسانية والدعوية أكبر من أي هيئة أو تجمع أو تنظيم أو جماعة. سيدنا أبو بكر رضي الله عنه خاطب الناس بعد وفاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" الأشخاص والهيئات والتجمعات زائلة، والدعوة باقية. "مات سيدنا بلال ولم يبطل الآذان" لنكن أكثر رفقا بأنفسنا، وبقومنا وبدعوتنا...قاد المرابطون في تاريخهم الجميل معركة الزلاقة التي غيرت وجه التارخ، ودالت دولة المرابطين وبقيت دعوة الإسلام. قاد السلاجقة في تاريخهم الجميل معركة ملاذكرد التي غيرت وجه التاريخ، ودالت دولة السلاجقة وبقيت دعوة الإسلام، وقاد الأيوبيون في تاريخهم الجميل معركة حطين ثم دالت الدولة الأيوبية وبقيت دعوة الإسلام.. وهكذا سيظل يكون.

نعم لكل إنسان الحق في رفع اللواء الذي يشاء ، ولكن لرفع اللواء حقه بين الناس كما قال الأول..

إن على حامل اللواء حقا ... أن يخضب الصعدة أو تندقا ..

وخضاب الصعدة ليس دائما بالدم، كما يظن البعض. وإنما أن يكون لصاحبها دلو في الدلاء. وقدم حيث تزدحم الأقدام ، ومنبر بين المنابر.

مكيةً كانت آية: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ). والصدع بالأمر لا يعني تجاوز الريث والحكمة وحسن التدبير وتقليب الأمور على أوجهها، وكل أولئك لا يعني التسلل من المشهد لواذا...

إما أن أكون فأصدع بحقي على الوجه الأمثل والأحكم، وإما أن لا أكون، مقدما عذري هذا إن عُذرت، وما إخالني....

استحقاقات الوجود صعبة وثقيلة . كان كبارنا يدعون ربهم: يوما أنين ويوما رحيل. يا ربنا لا تثقل بنا أرض ولا تكره بنا عبد. وهل أشد على نفس الحر أن يرى نفسه ثقلا وكلا ...نسأل الله العافية...

جاهليا كان ذلك الفتي الذي قال: خلت أنني عنيت .. فلم أكسل ولم أتبلد.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1025